نادية هناوي: الخرق والتعطيل في السرد غير الطبيعي

0

يعد خرق المألوف في الشعر أمراً محتماً لا غبار عليه، ولا تشكيك فيه، فلغة الشعر قائمة على إزاحة المعتاد، تحليقاً في عوالم الخيال الرحبة بكل ما فيها من الممكن واللاممكن والمعقول واللامعقول؛ فهل ينطبق هذا التوصيف على لغة السرد أيضا؟
لم يفصل أرسطو حين وضع قانونه الاحتمالي بين لغتي الشعر والسرد، لأن اهتمامه كان منصباً على التخييل في محاكاة ما هو واقعي، مقدماً الشاعر على المؤرخ، ومرتفعاً بالشعر إلى مصاف الفلسفة. ولا يعني وقوفه عند الشعر المسرحي التراجيدي والكوميدي، أنه أهمل السرد، لأنه في الأصل كان معنياً بالمحاكاة وما تقتضيه من أوصاف، وما لها من أغراض تساعد في التخييل والتمثيل بدرامية تطهيرية تعيد إنتاج الواقع.
وإذا كانت لغة الشعر حرة في محاكاتها التخييلية للواقع، ولغة السرد مقيدة في تصوير هذا الواقع، فإن درجة ذاك التحرر وهذا التقييد تتوقف على الرصيد التخييلي الذي يمتلكه كل من الشاعر والسارد. ولا يختلف هذا التحصيل في النصوص، التي تتميع فيها الحدود بين الشعر والسرد فتتداخل الأنواع والأشكال بنائيا ووظيفيا.
وإذا كان المعتاد في قراءة الشعر الانسياح في التأويل دون اشتراطات فهم الواقع وما فيه من تحولات وتغييرات، فإن المعتاد في قراءة السرد الحاجة إلى فهم الواقع الحياتي في بعديه الفوقي والتحتي. ولأن لكل قاعدة استثناء، فإن هناك نوعا من الشعر يحاكي الواقع بانزياحات أقل، كما أن هناك نوعا من السرد يحاكي الذات بانزياحات تقترب به من الشعر. ومثال الأول الشعر السياسي الاجتماعي، ومثال الثاني السرد غير الواقعي.
ويترتب على هذا الاستثناء تغاير في استراتيجيات قراءة هذين النوعين، إذ ستتعاكس عملية إدراك ما هو واقعي عما هو تخييلي، فيغدو السرد محاكياً غير الواقعي في حين يحاكي الشعر ما هو واقعي مألوف.
وسنقف في هذا المقال عند محاكاة السرد لما هو غير واقعي، أو غير طبيعي، لنجد أن له صلة بتسريد الخرق أو المروق (Broken Narrative) كمفهوم من مفاهيم علم السرد ما بعد الكلاسيكي. والمقصود بالخرق كسر المألوف والتجاوز عليه، وهذا ما يجعله مشتركا مع مفاهيم أخرى، تواضع نقاد السرد غير الطبيعي على تبنيها بدءاً من عام 2007 ومن ضمنهم الناقد هنريك سكوف نيلسون، الذي أوصلته شكوكه في ما هو سائد من النظريات واهتمامه بدراسة الإدراك العقلي للغة السرد، إلى أن هناك مجموعة من السيناريوهات المستحيلة منطقيا أو نفسيا أو كينونةً وغير قابلة للتصديق ـ أي لا تتوافق مع القوانين المعروفة التي تحكم العالم المادي ـ تساهم في تحبيك السرد غير الطبيعي خاصة، والسرد ما بعد الحداثي عامة، من خلال خرق مواضعات عمل السارد والمسرود والمسرود له، ما تترتب عليه مجموعة افتراضات هي بمثابة استراتيجيات في رصد الخرق وفحص ممكنات القارئ في تأويله. وقد افترض نيلسون أن استراتيجيات قراءة السرد غير الطبيعي تتوزع بين الروايات الخيالية والروايات الواقعية، وذلك في دراسته الموسومة «سرديات مخترقة: السرد غير الطبيعي واستراتيجيات قراءة غير الطبيعي» Broken Narratives, Unnatural Narratology, and Un naturalizing Reading Strategies) ضمن كتاب «سرديات الخرق: مواقف وتطبيقات نظرية» بتحرير آنا بابكا ومارلين شتاينر وفولفجانج مولر، طبعة جامعة فيينا، 2016.

وقد استهل نيلسون مقدمته المعنونة (تكامل وثغرات) بما قاله أرسطو عن الحبكة الناجحة، من ناحية الوحدة العضوية التي بها تترابط الأحداث بدايةً ووسطاً ونهايةً، فيغدو كل جزء مؤدياً دوره الوظيفي بلا اختصار مخل، ولا إسهاب ممل. وغايته من الإشارة إلى أرسطو توكيد صعوبة تطبيق هذا التوصيف على حبكة السرد غير الطبيعي ممثلاً بحادث قصصي حقيقي بطله جنين في بطن أمه. إذ مع كون الأحداث تبدأ واضحة وبنهاية محددة، فإن السرد يظل مخترقا وغير معقول، ومن ثم تغدو الحبكة ناقصة ومفككة ومشكوكا فيها، فاقدة شرط الصدق الفني، أو ما سمته مونيكا فلودرنك «التجربة» في كتابها «نحو علم السرد الطبيعي». وإذا كانت الحبكة في المرويات القديمة تحاكي الواقع تخييلياً متناً ومبنىً، فإن الحبكة في السرد غير الطبيعي تحاكي اللاواقع، خارقة شرط الصدق في تصوير العالم الذي يبدو كأنه فراغ لا معنى له سوى بما هو خارجه، فتبدو القصة مخترقة والحبكة مفككة والفهم مشوشاً وبلا معنى. وتساءل نيلسون عن هذا النوع من القصص، هل يكون معطلا وغير سردي؟ وأجاب أن الأمر يتوقف على مدى التفريق بين السرد غير الطبيعي والسرد الخيالي، واضعا استراتيجيات تفسر عملية الخرق وتحدد طبيعته، إن كانت خيالية أصلا أو كانت غير مألوفة تتعدى حدود الحياة الواقعية، ومعارضاً فرضية فلودرنك القائلة: «إننا عندما نقرأ النص السردي، نتخذ من الحياة الواقعية معايير لعملية القراءة». والحقيقة أن هذا الافتراض لا يكون دائمًا متحققا، بل هو احتمال من مجموعة احتمالات، وأنه يبقى اختيارا وليس ضرورة، ولا يتعين علينا افتراض أنه يجب أن يكون هناك متحدث على مستوى وجودي يماثل عالم القصة. ووجد نيلسون أن هناك تعدداً في الاستراتيجيات التي بها يتمكن القارئ من التفاعل مع السيناريوهات غير الطبيعية، لاسيما تلك المشتملة على انقطاع العلاقة بين الشخص والصوت، التي تتطلب وجود تفسيرات مختلفة تماما عن تلك التفسيرات التي فيها يكون الصوت متصلا بالشخص نفسه، كما في القصص الموظفة لضمير الشخص الأول التي هي أكثر عرضة للتشكيك في السارد، حتى لا مجال فيها للثقة فيه حين ينقل للقارئ أحداثا غير واقعية. ومثل نيلسون بروايتي «موبي ديك» و»غاتسبي العظيم» على عكس الروايات التي تتركز بؤرة السرد فيها على سارد غائب يروي بضمير الشخص الثالث، أو سارد يروي بضمير الشخص الثاني «أنت» اللذين يكونان أكثر ثقة من السارد الأول الذي يركز أفكاره على بؤرة خاصة به داخلية بوصفه هو الذي يتكلم.
ويرى نيلسون أن التحبيك هو الوسيلة التي بها تتحول لا واقعية السرد إلى واقعية فيمرر الخرق السردي في محاكاة العالم الموضوعي. ولا يختلف الأمر مهما تنوعت موضوعات السرد غير الطبيعي، ومهما كانت مساراته أو اتجاهاته، سواء أكان حداثيا، أم كان ما بعد حداثي.
وقد حدد نيلسون ثلاث استراتيجيات في قراءة السرد غير الطبيعي، وعدها مفيدة، بسبب ما توفره من رؤى. وأولى هذه الاستراتيجيات: الاستراتيجية غير الخيالية، ومثالها شهادة تقدمها إحدى الناجيات من معسكر اعتقال نازي في الحرب العالمية الثانية. وفيها تفاصيل حية وذاتية عن وقائع تاريخية سردتها بطريقة كرونولوجية، وبأدائية تنسخ الواقع شفاهيا في شكل كتابي يتضمن فراغات، توجب على القارئ أن يملأها من أجل فهم التأزم السردي، وإدراك الموقف الواقعي وتقدير الخرق السردي الذي به تحصل القطيعة بين زمن القصة الماضي وزمن الخطاب الحاضر.
وثاني استراتيجية هي الاستراتيجية الخيالية، ومثالها رواية «ما هو الماذا؟» What is the What للأمريكي ديفي إيغرز، وهي سيرة ذاتية لفالنتينو أشاك دنغ نشرت عام 2006 وتتحدث عن الإبادة الجماعية في السودان، التي كان من فظائعها ما واجهه (أشاك) الطفل السوداني من تجارب رهيبة انتهت به لاجئا إلى الولايات المتحدة في إطار برنامج الأولاد المفقودين.
وتتكون الرواية من ثلاثة أجزاء: الجزء الأول يغطي تجارب أشاك في السودان قبل أن يصبح لاجئا في سن السادسة عام 1983، والجزء الثاني عن السنوات التي قضاها في المخيم في إثيوبيا، والجزء الثالث يغطي حياته على مدار أكثر من عقد في كاكوما في كينيا..
ويرى نيلسون في الرواية نداءً للقارئ بأنه عليه عد كل شيء يجري في الرواية هو في غاية الأهمية – ليس لأنه حدث لفرد معين، لكن لأنه صحيح في عمومية الإحساس وأهمية حصوله في هذا الشكل. والاستراتيجية الثالثة هي الخارقة التي فيها يكون السرد مخترقا كرؤية المرء نفسه محاصرا في كتاب أو محكوما عليه بالإعدام عن طريق التصوير. ويرى نيسلون أن هذه الاستراتيجيات الثلاث تكشف عن حقيقة أن السرد غير الطبيعي يروق للقراء ويجذبهم، بسبب ما فيه من خرق يحملهم على حل التناقضات والكشف عن الغموض وتوضيحه. وبهذا يُحل ما في السرد من انكسار وتمزق وعدم اتساق، فتنتهي صدمة قراءة السرد غير الطبيعي بطريقة ديناميكية.
ويبدو لنا من خلال هذه الاستراتيجيات الثلاث، أنها مشتركة في ارتهانها بقانون الاحتمال الأرسطي، الذي وفقه يكون الخرق وإصلاح الخرق معا. إذ ليست خارقية هذا السرد سوى أنه يقطع الصلة بين الواقع واللاواقع، ثم يعيد الوصل بينهما اعتمادا على قانون السببية من جانب، وعلى مرجعيات القارئ من جانب آخر، وما قد تزوده به هذه المرجعيات من متاحات تمكنه من سد الثغرات وملء الفراغات، ومن ثم تفسير السرد وتأويله، معيداً للخرق معتاديته فيغدو المستحيل واقعياً واللامعقول ممكناً.

*القدس العربي