تأتي دعوة سعيد يقطين في مقالته (ترجمة السرديات ما بعد الكلاسيكية) المنشورة في صحيفة «القدس العربي» بتاريخ 4 /1/2023 نابعة من موقف نقدي عام، ساد جامعاتنا العربية منذ ثمانينيات القرن العشرين، ويتمثل في ترقب المترجمين ـ وبعضهم نقاد ـ ما تطرحه الماكنة النقدية في الغرب من كتب ودراسات كي يقوموا بتعريبها. وليس مهما أكانت الترجمة لكتاب، أم لدراسة، بل المهم ما يرونه ذا باع ويناسب النقد العربي. وكان النقاد يترقبون ما يطرحه لهم المترجمون من جديد النقد الغربي، ولا فرق بين أن يكون النص مترجما عن لغته الأصل أو عن لغة أخرى وسيطة وربما عن لغتين فمثلا تمت ترجمة كتاب «الزمان والسرد» لبول ريكور عن الإنكليزية نقلا عن الفرنسية، كما أن كثيرا من دراسات الشكلانيين مترجمة عن اللغة الإنكليزية المنقولة بدورها عن الروسية.
وفي أواخر القرن الماضي تصاعدت الهبة الترجمية، وما زالت وتيرتها إلى اليوم عالية وبشكل لافت للعيان، وهي تضع بين يدي الناقد العربي زاداً معرفياً فيه نظريات ومناهج ومذاهب وتطبيقات، بها يُحرِّك عجلة البحث العلمي، في الآن نفسه تعفيه من مشقة تعلم لغة أخرى.
أما النقاد الذين يتقنون أكثر من لغة، فإنهم كانوا يمارسون دورين معا؛ دور الناقل ودور الباحث، وهو أمر قدر على أدائه نقاد أكفاء مشهود لجهودهم بالفضل والثناء، غير أن بعض الدارسين العرب ـ ممن هم في مقتبل مشوارهم البحثي، وبعضهم من طالبي الشهادات العليا المتطلعين إلى أن يكونوا نقادا ـ فانهم يجدون في ترجمة كتاب لمنظّر غربي طريقاً ناجعاً لبلوغ الأمرين معا، محققين لأنفسهم صيرورة بحثية لا يشق لها غبار في وقت قياسي وبمجهود أقل ما يوصف أنه تعريبي بالتصرف.
ولأن لكتب البنيويين رواجا عند نقادنا العرب آنذاك وحالياً أيضاً، صارت كتب رولان بارت وجيرار جينيت تغري هؤلاء الباحثين لأنهم لا يطرحون أنفسهم للقراء ناقلين عن الآخر حسب، بل ناقدين على أساس التصرف في تعريب الكتاب المترجم، فيقتطعون منه ما يشاؤون ويعطونها عنوانات شتى، كما يحيلون على أبحاث هي الأخرى لباحثين غربيين بأسماء لا علم للقارئ العربي بها، يأتون بها من هنا وهناك. والمحصلة دراسة بحثية ينال عنها الباحث (المعرب بالتصرف) شهادة عليا، ولا ينتهي الأمر عند حد التعريب، وإنما يصبح التعريب نفسه علامة للباحث، لأنه قدّم للنقد العربي كتابا جديدا سبق به غيره ممن يتربص بتعريبه، صب فيها جام موهبته وخرج بمحصلات لم يخرج بها المؤلف صاحب الكتاب نفسه. ومن ثم يكون تعريبه بالتصرف إضافة نوعية لنقدنا العربي الذي أصابه التكاسل والفقر، وغدا تابعا ينتظر من النقد الغربي أي جديد كي يتبعه إتباعا.
ولنضرب مثلا بكتاب «عتبات» لجيرار جينيت الذي ترجمه عبد الحق بلعابد وتحصل به شهادة دكتوراه، ثم طبعه كتاباً في دار نشر عربية مرموقة عام 2008. ولأن الكتاب يدور حول الأثر الذي تلعبه العتبات في التمويه والإغراء، فإن الباحث/المعرِّب طبّق ذلك عملياً على غلاف كتابه الأمامي فجعل اسمه في الأعلى كبيرا وبعده العنوان «عتبات» بخط كبير أيضا وتحته جملة محصورة بين قوسين بخط صغير مكتوب فيها (جيرار جينيت من النص إلى المناص) وفي أسفل الغلاف وبخط كبير( تقديم سعيد يقطين) فأدت بذلك عتبة العنوان دورها التمويهي بامتياز، موحية للقارئ أن مؤلف الـ«عتبات» هو الباحث عبد الحق بلعابد، وأنه سيطبق عتباته على المسكين جينيت آخذاً إياه من زاوية النص، وواصلا به إلى مرفأ المناص.
وينطبق الأمر نفسه على تنسيق الغلاف الخلفي باقتطاع جزء من كلمة المقدم تضاف إلى ذلك طريقة كتابة الإهداء والاستهلالات الثلاثة ثم صفحات «المحتويات» ذات العنوانات الكثيرة جدا على كتاب من 140 صفحة من القطع المتوسط، تليها كلمة المقدم التعضيدية بعنوان رئيس (عتبة إلى عتبات) ثم ستة عناوين صغيرة فرعية.
فكان لكل هذه العتبات ـ في ترصيفها وترتيبها ـ دورها في توجيه القارئ بالالتفاف عليه وتمويهه، وزادها المقدم على ذلك أكثر في قوله: (عندما نبني نصا بيتا لنسكن فيه قد نستقبل فيه بعض زملائنا وأقاربنا، لكننا عندما نبنيه ليصبح ملكية مشتركة.. شكرا لعبد الحق بلعابد لأنه انتبه إلى أهمية العتبات والمناصات وأصر على أن يقدمها لنا بابا للدرس والبحث والتحليل) ساحبا البساط من جينيت وواضعا بلعابد بدلا عنه.
وهذا التساوق في عتبتي الغلاف الأمامي والتقديم، سيجعل التآلف حاصلا في الأفكار ما بين الاثنين (جينيت وعبد الحق)، وبتمازج لا مجال فيه لمعرفة موقع المؤلف من موقع المتصرف في الترجمة أو موقعه كباحث ومن يحيل عليهم من باحثين غربيين أيضا.
وكان الأجدى به أن يجعل طريقة تنسيق الاسم والإهداء ودار النشر وتوزيع العنوانات والهوامش في خدمة المؤلف صاحب الكتاب/ الأطروحة. وكلنا يعرف مدى تعطش النقاد العرب إلى كل ما هو غربي وبنيوي. بيد أن الباحث سخّرها لنفسه فوضع المقدمة تحت عنوان عتبة منهجية ووصف قراءته بالترجمية (قراءة ترجمية سالكة مرتبة من مراتبها الفهم والإفهام بتعبير الجاحظ). فما معنى القراءة الترجمية؟ وإذا كانت القراءة متعددة فهل يعني هذا أن الترجمة متعددة؟ أليس في تعددها دلالة على أن أفرادا متعددين ساهموا فيها، وألا كيف يشطر المترجم نفسه ويقدم قراءة ترجمية لنص واحد؟ وغني عن البيان أن المترجم إذا اعترته حيرة إزاء جملة أو مفردة، فإنه إما يرتكن إلى حسه الإبداعي فيضع ما يراه ملائما، أو يستعين بمترجم اكفأ منه ليضع له الترجمة الحصيفة.
وقد سجل جيرار جينيت بدراسته للعتبات براءة اختراع نقدية في حاضنة مدرسة بنيوية فرنسية، لا بحثا عن الريادة داخل بيئته الغربية، بل بسبب الانتقادات والمساءلات الكثيرة التي وجهت إليه، فكان كتابه عن المتعاليات النصية (التناص والمناص والنص اللاحق والنص الجامع والمناص) نوعا من ذر الرماد في العيون، ومن ثم لا يفهم كتابه هذا إلا بدراسة ثلاثة كتب سابقة ألفها جينيت، وكان حريا بالباحث الوقوف عند كل واحد منها وقفة متأنية وعميقة. لكن للأسف لم يقم الباحث بتلك الوقفات، بل باشر إلى العتبات رأسا، وبوقفة أحسن ما نصفها به أنها خاطفة وفي الفصل الأول فقط وعنوانه (بحثا عن الشعريات عند ج. جينيت) قائلا بعد وريقات قليلة: (وبهذا نكون قد تتبعنا حركية مصطلح المناص من قبل وعند وبعد جينيت فلم يكن بمستطاع جينيت أن يتتبع تاريخ المناص في تطوره).
وعلى الرغم من صغر الكتاب بكل ما فيه من التفنن بالعنوانات الفرعية والجانبية والترقيمات العددية والبياضات ولوحات سطرية مقتطعة بانتظام، فإن الخاتمة وهي من صفحة واحدة بدت أكثر العتبات نجاحا في الإيحاء بجهد الباحث الترجمي، وليس جهد المؤلف العلمي (جيني) (بعد هذا المسلك البحثي الشاق والصبر العلمي المضني بإمكاننا الآن أن نلج العتبات ونرفع عنها محاذير العتمات).
ناهيك عن أن مفهوما عويصا مثل (النص الجامع) الذي اختلف في ترجمته نقاد مترجمون مرموقون، وبسببه أعيدت ترجمة كتاب جينيت «مدخل إلى النص الجامع»، لكنه لم يسترع انتباه الباحث، فمرَّ عليه مرور الكرام وكأنه معتاد لا إشكالية فيه. وكان لاستعمال ضمير المتكلمين (نا) دور مهم في مباغتة القارئ كأن من يتحدث هو الباحث/ المترجم وليس المؤلف/ الرائد. وهو أسلوب اتبعه قبله نقاد آخرون فصار سنّة متبعة (بحثنا/ أملاه علينا/ أردنا، إلخ) ومعلوم أن استعمال الضمير(نا) في غير النصوص المترجمة أمر مقبول وجزء من موضوعية الباحث، لكنه في ترجمة النصوص عتبة من عتبات الإيهام.
بالطبع نحن لا نقلل من الجهد الترجمي، لكن بشرط أن يفصل الباحث بين الكتاب الذي ترجمه، والدراسة التي وضعها عليه لا أن يخبط الحابل بالنابل ثم يقول إنني وجينيت سواء بسواء. فليست الترجمة كالنقد، ولدينا في تحقيق النصوص التراثية خير وسيلة إيضاحية بها نقرِّب هذه الفكرة. فالمحقق يأتي إلى المخطوطة أولا ثم يضع دراسة حولها، وقد نال عشرات الباحثين شهادات بنصوص حققوها ووضعوا لها دراسات تحقيقية. إن المغالطة في الانتفاع من امتلاك لغة أخرى لم يكن الباحث عبد الحق بلعابد الأول فيها، فقد شهدنا منذ ثمانينيات القرن الماضي في كليات الآداب باحثين يتعلمون الإنكليزية، وفي الآن نفسه يترجمون كتبا لسوسير وياكوبسون والشكلانيين فينالون بها شهادات ويصبحون متخصصين في الشعرية والسردية، وتلك هي السنة السيئة التي وزرها يُلقى على من سنَّها.
إجمالا، فإن فوضى الترجمة تتطلب وجود انسجام أو تنسيق في طبيعة ما يترجم، مع ضرورة توحيد الآليات المتبعة كي تكون الفائدة المستقاة بلا ضريبة علمية. وضريبة الترجمة هي التكاسل النقدي الذي أدى بالناقد العربي إلى وضع نفسه في موضع التابع، بدل أن يؤدي دور المبتكر.
إنني إذ أمثل بهذا النموذج النقدي، فلكيلا تُفهم دعوة سعيد يقطين إلى الترجمة بهذا الشكل العشوائي الذي شرحناه آنفا. ولأن الوقت لم يفت على نقدنا العربي، فإن بالامكان تقنين الترجمة من الآخر وجعلها متعادلة مع ترجمة نتاجنا النقدي إليه.
ومثلما اقترح يقطين على المترجمين تعريب كتابين في السرد ما بعد الكلاسيكي أحدهما فرنسي والآخر إنكليزي، فإنني اتمنى على يقطين أن يشير إلى مراجع عربية نقدية وغير نقدية تستحق الترجمة إلى لغات أخرى. ومنها كتابات سعيد يقطين نفسه وباحثين عرب آخرين. وهي رغبة تنطلق من الحاجة إلى تجاوز عدم الثقة بالنفس ومشاركة الآخر على مائدة واحدة من أجل زاد ثقافي لجميع الأمم.
*القدس العربي