د. محمد جمال طحان
كاتب وباحث سوري، يحمل شهادة الدكتوراة في الفلسفة، صدرت له مؤلفات عديدة بين الأدب والفلسفة.
أوراق 11
ملف أدب السجون
كما كلّ مرّة، يُفتح باب الزنزانة لأُقاد إلى إحدى الحفلات. غير أن المفاجأة كانت مفجِعة هذه المرّة. بعد أن دُفعتُ إلى إحدى الغرف، رفع السجّان جزءاً كبيراً من عصبة العينين الملفوفة حول رأسي، فبدا المشهد مهيباً. وجدت نفسي بين خمسة فتيان عارين، تماماً، تتراوح أعمارهم بين عشرة أعوام وخمسة عشر عاماً. قِدر كبير مملوء بماء يتصاعد منه البخار. ثلاثة سجّانين يحملون عصياً كهربائية، يلدغون بها أجسام الفتيان المبللة بالماء، ويحثونهم على غطس أيديهم بالماء المغلي، كشرط للتوقف عن الصعق الكهربائي.
بدا اليافعون كدجاجات تتقافز فوق الجمر هرباً من لهيب النار، وهم يسمعون أقذع الشتائم التي تنهال عليهم، ويتلذّذ بإخراج حروفها حَملَة العصي.
لم أكن بمنأى عمّا يحدث، فقد حرص السجّان، الذي اصطحبني، على لومي وتحميلي مسؤولية ما يحدث لهؤلاء اليافعين:
- مو هنت معلمهم؟ مو هنت بتقلهم يتظاهروا ضد الوطن، وبتحرّضهم على سيّد الوطن؟ ذنبهم برقبتك.
بدأ يصفعني على خديّ بقوّة بكلتا يديه، كمن يقرع طبلاً. علا صوت السجّانين المجتمعين بالغرفة يترنّمون مع العازف ويرددون ما يقوله:
- على دلعونا على دلعونا .. خدو هالأسمر غيّر اللونا .. ياويلك شو رح نعمل فيكم اليوووما.
استمرت الحفلة أكثر من ساعة، والجلاّدون يتفننون بأشكال التعذيب، حتى خارت قواي، ولم أعد أقوى على الوقوف.
لم أعد أذكر سوى أنني ملقىً في زنزانتي، والعرق يسدّ مسامات جلدي.
مددت يدي تحت البطانيّة. أخرجت ثلاث حبّات (أتيفان) لأتمكّن من الصمود، وأخفّف من رعشة جسمي الذي أحسست أنه ينتفض كطائر مبلول بالدم. قد أتمكّن من النوم.
تسرّب الخدر إلى رأسي، ووجدتني بنصف صحو، لذلك لم تكن لديّ أيّ ردة فعل عندما شحطني أحد الحرّاس من زنزانتي ورمى بي في غرفة أخرى.
لا يمكن أن أنسى. إنها ليلة محفورة في تلافيف الدماغ، تركت في شَغاف القلب كتلةً مدمّاة.
أدخلوني إلى غرفة، بدت لي، بعد أن أماطوا عصبة العينين، أنها غرفة معاينة طبيّة. مستطيلة الشكل، عرضها ثلاثة أمتار وطولها احتلّ الضعف. تتصدرها منضدة خشبية عليها مقياس ضغط وسماعة طبيّة وزجاجات تعقيم. سرير المعاينة الجلدي الأسود توسّط الغرفة وتناثرت حوله بضعة كراسي بلاستيكية بيضاء بعضها ملوّث ببقع الدم الجاف، وأخرى بتراكم بقع صفراء وبنّيّة. خزانة زجاجية احتلت نصف جدار، مملوءة بعلب الأدوية، ومعدّات الإسعاف الأولي.
مصارعٌ يرتدي ثوباً أخضر رشقني بسطل ماء بارد. لم أتحرّك. أمر الحارس، مشيراً بيده:
- الحشو هونيك.
رمى بي أرضاً. دخل أحدهم يحمل بصلة كبيرة. وضعها على جبهتي وهوى بقبضته عليها فانفلقت. مرّغ بها أنفي. تقدّم المصارع يضربني بقبضة حديدية على بطني. كرّر صفعي. لم أستجب. كنت مشلول الحركة، بعينين غائمتين. فتح جفنيّ بأصبعيه. حدّق بعيني ثم قال:
- اتركوه. مغمى عليه. شوي وبيصحى. مارح يفطس .. قرد بسبع أرواح.
زرع الغرفة جيئة وذهاباً ويداه معقودتان خلف ظهره، ثم سأل، بصوت رصاصي ثخين:
- شو عندنا غيرو؟
- سيدي عندنا كرّ قال مايستفرغ.
أشار لهم بيده، هاتوه.
رمى السجّان صبيّاً ممشوق القوام. شعره الأشقر منسدل على كتفيه. عندما رفع رأسه لمعت عيناه الخضراوان.
بدا المصارع – الطبيب أو الممرض، ذو الرداء الأخضر، منبهراً بجمال الفتى. أشار بأصابع كفّه للحراس أن اخرجوا. ثم قال، بحزم:
- الرقيب أبو ضراط خليك عالباب من برا ممنوع دخول أحد، بدي أفحص هالكر.
نقّل ذو الرداء الأخضر نظره بيني وبين الفتى. أشار بسبّابته إلى إناء فيه أكثر من ليتر ماء، وهو ينظر إلى الفتى:
- كراع هالقصعة فرد كرعة ولاك كر.
كاد الفتى ينفجر وهو يجبر نفسه على إفراغ الماء في جوفه. أمره بالاقتراب. صفعه على وجهه صفعات متتالية بإيقاع سريع:
- شو تهمتك ياعر(.)؟
- سيدي قالوا كنت أصور مظاهرات وأنقل مواد إغاثية وأدوية للإرهابيين.
- قفيز ولاك كر متل القرد الهايج.
بعد قفزات متعدّدة، قال له، مشيراً إليّ:
- وقاف فوق راس هالقرد وشخ عليه.
حاول الفتى، متردداً، فلم يخرج منه سوى قطرات لم تُصب الهدف.
اغتاظ ذو الرداء الأخضر:
- تضرب. قرّب ولا كرّ. كنّوا أمّك ماعرفت ترضعك منيح. قعمز بين رجليّ.
فتح رداءه. ضغط بكفّه قحف رأس الفتى باتّجاه عانته. أغمض عينيه محاولاً تركيز قواه في تلك المنطقة. بدا الفتى منهمكاً. يتوقف بين فينة وأخرى:
- سيدي مافي استجابة.
- هنت ولد حقير ماتنفع لشي.
جذبه من شعره. ضغط وجهه على عانته بعنف، وهو يحثّه على الشفط بقوّة. يبدو أن الخرقة البالية لم تتحرّك. بعد محاولات فاشلة متكرّرة، ركله برجله بقوّة قدر ما يستطيع. اصطدم بالجدار. ترك رأسه بقعة دم. تهاوى كشرشف يغادر حبل غسيل.
بصعوبة شديدة أحاول ألاّ يرفّ لي جفن، بعد أن تمكّنت من اختلاس النظر في معمعة ما حدث. الهلع دقّ مفاصلي.
صاح ذو الرداء بأعلى صوته:
(ذلك الفتى لم يره أحد مرّة أخرى).
…
لم أزل وسط ذهول. هل ما رأيته حقيقة، أم أنه وهم نشأ نتيجة تناولي جرعة عالية من أقراص التنويم؟
بنصف صحو، أحاول، جاهداً، الخروج من عتمة الزنزانة إلى الذكريات. لا يمكن أن يحدث ما أتوهّمه. لا يمكن ان يكون في سوريا كل هذا الشر، وكل هؤلاء الوحوش. انا أكيد أنني في كابوس. لست في سوريا. لست في حلب. لست في مدينة الثقافة والفكر والفن والأدب. أدندن وأنا أعتلي مسرح قلعة حلب:
عذِّبْ بما شئتَ غيرَ البعدِ عنكَ تجدْ __ أوفى مُحِبٍ، بما يُرْضيكَ مُبْتَهِجِ
وخذْ بقيَّة َ ما أبقيتَ منْ رمقٍ __ لا خيرَ في الحبِّ إنْ أبقى على المهجِ
لِلّهِ أجفانُ عينٍ، فيكَ، ساهِرَة ٍ، __ شَوْقاً إليكَ، وقَلْبٌ، بالغَرامِ، شَجِي
أصبحتُ فيكَ كما أمسيتُ مكتئباً __ ولَمْ أقُلْ جَزَعاً: يا أزْمَة ُ انْفَرِجي
…..
أين تذهب حين تبكي؟
تُفتحُ الزانزانة فتنقطع سلسلة أفكاري التي أحلّق بها من هذا المكان، وهواجسي التي تحفر في الأعماق أخاديد ألم.
إنّه العشاء: نصف خيارة مع رغيف من الخبز. لم أتمكّن من لمس عشائي. لم يمضِ وقت طويل حتى فُتح باب زنزانتي، مرّة أخرى، فجأة:
- طلاع.. وجهك عالحيط.
وضع الأصفاد في يديّ، طمّش عينيّ. تعثّرت بشخصٍ مرميٍّ على الأرض. وقبل أن أتماسك، اصطدم رأسي بالجدار. أَمسَك السجّان بالقيد الحديدي وسار بي إلى غرفة التحقيق. رائحة أجسام نتنة تزكم أنفي، وتلفحني حرارة هواء جاف، ورطوبة تشبه التعفّن.
- شرّف البيك. سمعت أحدهم يقول.
الآخر باغتني:
- طبعاً.. ليش مَنستغرب.. اللي يخون بلدو أافيه مايخون أهلو؟ طبعاً.. الخاين خاين. بتعرف سامي مسلّم؟
- لا.
- العمى في عيونك..عبتكذُب كمان؟
- لا.. ليش أكذب.. مابكذب.
- لك مو أنْتْ كاتب إني من قرايبك سامي مسلّم.
قلت مستدركاً:
- هااا سامي مسلم مو مسلّم.. هاد ابن اختي.
- هنْت أكلتْ على أخواتك الميراث وماعطيتهن شي.. بقى هاد شي عادي، اللي مَيخون الوطن، بيخون كل قرايبو. هلّق بسمّعك الكلام وتشوف كيف نحنا كاشفينك.
(بعد ثوانٍ): – بتخرس ولا نَفَسْ..
(بعد ثوانٍ): – ماتردّ؟ إشّو؟
- إيه بخرس.
سمعتُ جَلَبةً تبعَهُ صوت:
- إشو سامي الوسخ.. إسّا بتطلع مظاهرات كمان؟
- لا.. سيدي مابطلع.. والله العظيم بطّلتْ.
- احكيلي إشو بتعرف عن خالك؟
- سيدي قلت لك مابعرف شي.. نحنا من زمان مقاطعينو ومامنحكي معو.. لابيجي لعنّا ولامنروح لعندو.. وأبوي حالف يمين على أمي أنو مابصير يدوسنا*.
ابتسمتُ في سرّي، وقدّرت أن سامي خائف من علاقته بي، ولا يعلم فداحة التهم المنسوب إليّ، كما أنّه لا يريد البوح، حتى بالمقدار الضئيل الذي يعرفه، وأعجبتني جدّاً فكرة إنكاره لي. كما أن سهولة دحض هذه التهمة تعينني على التملّص من سواها.
( كان سقراط يقفّص محدّثيه من خلال طرح مجموعة أسئلة تسلسلية يعرف إجاباتها، ويتيح لهم فرحةَ الاعتداد بآرائهم، عندما يقول لهم:
- أحسنتم .. كانت هذه الفكرة غائبة عنّي، ثمّ يوصلهم إلى مرحلة الاقتناع بما يريد أن ينشره من أفكار).
المحققون، هنا، يفعلون العكس، من شدّة سذاجتهم، يمنحونني فرص نزع قضبان القفص واحداً إثر آخر لأنعم بالحريّة، حتى وأنا مغلول اليدين، ومغمض العينين.
يتابع المحقّق استدراج سامي، ليصفعني ببراهينه الدامغة:
- وإشو عملتو لما سمعتو خالك مجرم وقبضنا عليه. قال بتلعثم وتردّد وكأنه يحسّ بوجودي:
- انبسطنا.
- لك العمى فعيونك العمى .. هنت موقلت امبارحة انكن اشتريتوا حلو ووزعتو عالجيران من فرحتكن انكين خلصتو مننو.. وبتفشّو قهركن؟
- ايه… سيدي قلت.
- ليش فرحتو، مو لأنك قلت خالك أكل الورث وباعوا وماعطاكن شي؟
- ايه سيدي..(تابع مرتبكاً): بس هوه قال أنو بدو يعطينا بعدين.
- العمى في قلبك، كل هالقتل أكلتو وماكفاك إسّا بتكذُب.. كل مرة مَتحكي شي.. خدو اشبحو لهالبغل.
كنت أقاوم ابتسامتي وأنا فرح باكتشافاتهم العظيمة، فكلّما واجهوني بشخص، تتكشّف لهم براءتي أكثر. إنّهم يحضرون الأشخاص الخطأ.
بعد صمت، أحسست خلاله أن المحقّق يمسح عَرَق جبينه، ويواري خجله، من سخف اكتشافاته، أمام زملائه وعناصره الذين أشعر بوجود خمسة منهم على الأقل، من تقاطع الأنفاس التي تلفح جبيني ورقبتي. جاءني صوتٌ آخر أقلُّ حدّةً وأكثر هدوءاً:
- إشو ماتقول في اللي سمعتو؟ هي قرايبك أمّا يحكي عنّك.
- سيدي هاد الحكي كلّو موصحيح. انتو لما كمشتوه وسألتوه عنّي خاف.. ظنّ أنّي عامل شي. بس الحئيئة (هنا ضحك ثلاثةٌ منهم، على الأقل، دفعةً واحدة، وراح أحدهم يقلّدني بطريقة فجّة: الحئيييئئة.. الحئييييئأأأأأه. لم آبه لهم، تابعت الحديث):
- الحقيقة ليست كذلك، إنّها شيء مختلف، سأقول لكم بكل وضوح.
ضحكوا مرّة أخرى، وجاءني صوتٌ فيه فحيح ابتسامة تُوارى:
- أمّا تحكي فصحى.. احكي عادي ياخاين.
قلت بنبرة استعطاف:
- سيدي عمتضحكوا عليّ.. أنا هيك لهجتي.. نسيت اش كنت عبّئوول.
جاء الصوت الهاديء:
- اتركوا يحكي متل مابدو… هاد مبينتو عر(.) كبير.
- ليش هيك عبتؤول عنّي، أنا ماعملت شي غلط.
قال بلهجة صارمة:
- كمّل ياتيس.. ماعنّا وقت نضيّعوا معك.. مَنقلك يادكتور يافهمان ماإما يبيّن معك. باينتك بدك كم دولاب لتعرف وين وقعت.
- عندنا معمل نسيج، والدي، رحمه الله، كتب المعمل باسم الصبيان، واشترى بيت وأجّره وكتبه باسم البنات. نحن ثلاثة صبيان وثلاث بنات. البنات، بعد فترة باعوا البيت وتوزعوا حقّه. ونحنا الصبيان، قبل ماأجي لهون، بعنا المعمل بنفس سعر البيت، ولسا المشتري بيستنى الفراغة بس أطلع من هون. يعني، مو أكلت حقّن، بالعكس طلع سعر الصبيان بسعر البنات، يعني متل الأميري.
قال: – إشو يعني أميري، ثم استدرك: نحنا إشو النا علاقة بهالعلاك*؟
- سيدي انتو سألتو.
- هلق بدك تقلّي ولاك إشو علاقتك بالعرعور؟
- مابعرفو سيدي.
- العمى في عيونك، كيف مابتعرفو، وكل يوم مايشهّر فينا عالفضائيات ومايحرّض القاعدة.. بدّو حكم إسلامي عرعوري سلفي تايصير عندو سبايا.
- سيدي مابتفرج عالتلفزيون كتير.. مشغول دايماً بالقراءة والكتابة.
- كيف مابتعرفو ومايطالب فيك؟ بعدين إشو علاقتك بالجزيرة.
- مالي علاقة سيدي.
- ولك كيف مالك علاقة حيوان، لكان ليش ماتطالب بالافراج عنك، وصرعتْ طيزنا فيك؟
- أقلك سيدي؟
- خراااس.
عرف أنني سأكرّر الكليشيه وأقول له إنني كاتب معروف ومسالم، ومحرّر في صحيفة رسميّة، وعضو اتحاد كتاب، واتحاد صحفيين وووو… ، لذلك لم يشأ أن أجيب.
صرخ بصوتٍ عالٍ:
- خدو لهالحيوان، هلق تحت الضرب بيكرّ كل شي عندو.
سحبني شخصٌ ما إلى ركن، استطعت من تحت الطمّاشة أن أراه يشبه منصة المقصلة.
– ابطحو.
بطحني على بطني، ويداي مقيّدتان خلف ظهري.
- رفاع رجليك ولاك.
رفعتهما بشكل عمودي. بدأ الضرب بعصا، بدت من وقعها على قدميّ، مبرومةً، ومن خشب الزان. أغمضتُ عينيّ وصرخت بأعلى صوتي:
- أأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأأاييييييييييييييي.
لم تكن قوّة الضربة تُشعرني بالألم، غير أنني تذكّرت قصة “الصرخة” للؤي خليل. وبدأتْ تتراقص أمام عينيّ، مقالة كنت قد كتبتها ذات فجر في حديقة السبيل، إثر ضغط عانيته في عملي: إلى أين تذهبُ حين تبكي؟ سؤالٌ يحفر في الصميم. إذا أردتَ أن تبدو قويّاً متماسكاً، فكيف تداري الدمعَ على أطرافِ العين حتّى تجدَ مكاناً قصيّاً لا يراكَ فيه أحد.. القهرُ يعتصركَ وأنتَ تتماسكُ وتحبسُ الدمع. الشارعُ مزدحمٌ بالمارّة.. الجامعة مكتظّة بالزملاء والطلاّب.. البيتُ مليء بالزوجةِ والأبناءِ والأحفاد.
الآن، مع الضربة الأولى، اكتشفت مكاناً مثاليّاً للصراخ بأعلى صوتي، حيث يمكنني أن أبكي من غير أن يتّهمني أحدٌ بالضعف أو بالجنون. مع كل ضربة عصا كنت أصرخ أعلى من الصرخة التي قبلها.
لم أقل شيئاً. لم أسألهم أن يكفّوا عن ضربي، كنت مستمتعاً بما أنا فيه إلى حدّ الشعور بأنّني أعزف سيمفونيّةً بصراخي، وكأنّ حريّتي تتجسّد الآن بأعمق معانيها، فأصرخ بملء طاقتي وأفجّر الكبت المختزَن داخلي منذ عقود.
كان صوت المحقّق يصلني من بعيد:
- إسّا مابدينا وأمّا تصيح متل قرد، كيف بقى لمّا نبدا.
لم آبه لما يقول، لأنّني مستغرقٌ بما أنا فيه، وبفلسفة الألم التي تحوّله إلى مجرّد إحساس زائل، مثل الشعور بالفرح. بل فوجئتُ عندما توقّف الضرب.
أوقفني السجّان، وكنت في غاية النشوة، وكأنّني صحوت نشيطاً بعد حلمٍ جميل.
يبدو أن الطمّاشة ومحاولة التلصّص من خلالها تُفقد المرءَ شدّة التركيز، لهذا آثرتُ أن أبقى مغمض العينين، لأمعن في الظلام.
وصلني صوت المحقّق مغتاظاً، يعدّ كلّ ما سبق كان مزاحاً، ويعدني برؤية نجوم الظهر بعد أن يملص عينيّ. طلب من أحد عناصره أن يناوله الكمّاشة ليعلّمني كيف تُقلع الأظافر. حاولت إحباط غضبه فرميت له بكنية الاسم الذي كان يسأل عنه: عدنان فلاحة. وافقته عندما وصفني بالغباء لأنني سمحت لشخص بمعرفة بيتي من غير أن أعلم عنه كل شيء.
بدأت أدور حول نفسي وأنا أردّد:
- غباء.. فعلاً غباء.. شلون مابعرف بيتو؟ ولابعرف شي عنّو.. أنا غبي.. غبي.. غبي.
صرخ بي:
- وقيف. إذا مادليتنا على دارو خلال خمس دقايق بدي موتك. وهنت إشو كان دورك بالأحداث؟ مين اللي كنت تعطيهم تعليمات وتحرّضهم عالتظاهر؟ أشخاص كتير اعترفوا عليك إنك كنت معهم باجتماع التنسيقية.
ثبتت مكاني ومازلت أردّد:
- غباء.. غباء. ايه اعدموني.. موتوني… موتوني. إذا ما بعرف، حتى لو متت مارح أعرف. أنا كنت بس لما أشوف حدا بيسأل عن المظاهرات أو بدو يتظاهر أو يكون ألو دور بالإصلاح، كنت أعرّفو على حدا تاني ألو علاقة بهالشي، وبس. أنا ما بحضر تنسيقيات، ولا بعرف تنسيقة، ولا بعرف شو بتعمل التنسيقية.
- لك عمقلّك اعترفو عليك، كنت معهم بالمزرعة.
- ايه.. رحت عالمزرعة.. أصلاً نحنا كل يومين تلاتة منروح لشي مطعم أو مقهى أو منطلع عالمحلّق.
قال بعصبية شديدة:
- لك هنْتْ الخازوق قليل عليك.. بتروح عشرين كيلو متر وبتقللي كسدرة.
- ايه سيدي ما فيها شي. ما بعرف إنها تنسيقية، بعرف إنها دورة.. شمّة هوا. متل ما قلت: كسدرة. ما اتفقنا على شي.. حكينا مشكّل ملوّن، عالأحداث وقوانين الطوارىء وكيف ممكن تنحلّ المشاكل بالبلد. ويعني آراء عاديّة.
مسكني من شعري وهزّ رأسي هزّة عنيفة:
- لك قالوا انو اجتماع تنسيقية، وخططتوا لعمل كبير.. اعتَرَفو عليه.
- بيجوز سيدي.. ما بعرف.. أنا كل شوي بدخل التواليت، مو معي سرطان بالمثانة، وبعدين دخلت لجوّا أتفرّج عالتلفزيون (هنا انتبهت إلى تناقضي، قلت، قبل ساعتين أنني لا أحب التلفزيون، لكنّهم لم ينتبهوا. كان المحقّقون يركّزون على مادار في الاجتماع).
بعد صمت قصير، قال أحد الموجودين في الغرفة:
- سيدي خلّيني اعملّو كفّين أنشط ذاكرتو وأخلّيه يحكي.
تابع المحقّق كلامه:
- هنتو بالاجتماع اتفقتوا وعملتو قَسَم الثوّار، مين عملو؟
- سيدي ما بعرف، في شخص، أول مرة بشوفو له لحية طويلة، عطانا ورقة صغيرة مكتوب عليها كلام، قرأناه، لما وصل لعندي صححته، كان فيه أخطاء نحوية، وبدّلت كلمة الثائر حطيت بدالها متظاهر. بس أنا ما عرفت ليش هاد.. لأنو إذا كان قَسَم كنا حفظناه أو كانوا وزّعوه علينا. بس اللي صار انو قرأناه وكل واحد قال رأيه فيه وبس.
صرخ أحدُهم:
- هنْتْ عبتكذُب، وإذا ماحطيناك على كرسي الكهربا مارح تعترف، اللي كتب القَسَم هو غياث الضللي.
- سيدي اعدموني. ما عندي شي اقولو غير اللي قلته، ما بعرف اسمو هاد غياث، أوّل مرّة بشوفو.
بعد أكثر من ست ساعات تحقيق تخللتها كل أنواع الشتائم، والنحر، والرفس، والصفع؛ ساد هدوء مفاحيء. سكون تام استمر نصف ساعة وأنا متّكيء على أعصاب ساقيّ. لم أعد أحسّ بأن لدي أطرافاً. عاد الهرج من جديد، لم يدم تحرّك العساكر حولي طويلاً، فماهي إلاّ لحظات حتّى ذُهلت بالمفاجئة، ولم أتوقّع أن يحدث ذلك.
….
مقطع من رواية تحمل نفس الاسم
هوامش:
* ارمِ هذا التافه.
** الأراذل.
* يزورنا.
* الكلام الفارغ.