حوار: أسامة فاروق
خمس شخصيات رسمتها مي التلمساني ببراعة في أحدث رواياتها “الكل يقول أحبك” الصادرة عن دار الشروق في القاهرة، تحكي عبرها عما تفعله المسافات والغربة في الحب. شخصيات تتشابه حيواتها وتتقاطع مصائرها فيكتب كل منها سطوراً مهمة في قصة الآخر، وتقودها خلفياتها العرقية المتجاورة والمختلفة في آن لما يشبه صراع الهويات في لحظة اضطراب، سواء في الوطن الأم أو حتى في المهجر. صراع يمر عبر مسارات مختلفة تفرضها ظروف الغربة أحياناً وطبائع الشخصيات في أحيان أخرى، لكن يظل دافعه ومحركه الأول سؤال واحد أساسي هو: الكل يقول أحبك، لكن من يعنيها حقا؟!
تبدأ الحكاية بكمال المصري، الأستاذ الجامعي المهاجر لكندا، الذي يفاجأ بقرينه في المقعد المقابل في قطار. يجلس المصري الذي تجاوز الستين بعكس اتجاه السير وكأنه يتقدم للوراء، مراقباً كريم ثابت، الشاب الأربعيني الجالس في الاتجاه الصحيح، مندهشاً من التشابهات الكثيرة التي تجمعهما. بمرور الوقت، يغرق المصري في دهاليز ذاكرته، لا نعرف إن كان يستعيد ماضيه في صوره جاره أم أن جاره هو من يرى مستقبله فيه، كل ما نعرفه أنهما معا يسيران على القضبان نفسها، مسار واحد مفروض على الجميع، فمن يتحمل عواقب إيقاف القطار أو القفز منه أملا في الوصول لمحطة مغايرة أو تحقيقا لمصير مختلف؟!
بدأت مي كتابة روايتها في سبتمبر 2019،وانتهت منها في غضون عام ونيف: “كتبتُ الفصل الأول من الرواية دفعة واحدة، استغرقت كتابته ليلة كاملة، وصباح اليوم التالي بلا توقف”. لكنها أجرت تعديلات كثيرة عليه في ما بعد، لتتوالى الفصول بحيث يسلم بعضها لبعض، ونلتقي في الثاني بشخصية من شخصيات الفصل الأول، وفي الثالث بشخصية من شخصيات الفصل الثاني وهكذا دواليك.
أما القطار فهو أكثر من مجرد رمز في الرواية، وكان هة عنوانها في مراحلها الأولى، ثم تغير العنوان كثيراً أثناء العمل، تقول مي. وبتطور الشخصيات والأحداث، كان عنوان الملف في الكومبيوتر بسيطاً ومباشراً، “في القطار”. فكرت في عناوين أخرى حتى اهتدت لعنوان أغنية أميركية من الثلاثينيات صار عنواناً لفيلم من إخراج وودي آلن في التسعينيات من القرن العشرين “لم أشاهد الفيلم لكن بعض أغنيات الفيلم متاحة على يوتيوب، وهو أيضا فيلم عن قضية الحب والسفر”.
– في الحديث عن التعديلات، من أول من يقرأ مسودات أعمالك؟ وكيف تتقبلين وجهات النظر في كتاباتك
يقرأها صديقي منتصر القفاش، وصديقي جمال القصاص. هذه الرواية قرأتها أيضاً شيرين أبو النجا، وأمين حداد. والكل أدلى بملاحظات مهمة أخذتها كلها في الاعتبار. حتى وصل المخطوط للناشرة والصديقة منى أنيس، ثم أميرة أبو المجد، وحدثت بيننا نقاشات أضافت للرواية بالتأكيد من حيث الوضوح والعناية بتفاصيل المكان الجغرافي.
– الرواية ذات جغرافيا واسعة، لكن ما هو سؤالها الأساسي.. الحب أم الفقد وفقدان الهوية في لحظة اضطراب كبرى؟.. هل هي اجتماعية أم سياسية؟.. هل تشغلك أصلاً هذه التصنيفات؟ وهل يهمك أن يناقش/يعالج العمل الروائي قضية بعينها؟
تدور الرواية بين مدن كندية وأميركية، من بينها مونتريال وتورونتو ووندسور، وكذا في ديترويت الأمركية وفي القاهرة والإسكندرية وحلب. لا تشغلني تصنيفات الرواية، لكن بالطبع يهمني أن تناقش رواياتي قضية ما، قد لا تكون الأهم من وجهة نظر القارئ لكنها تكون كذلك من وجهة نظري. في رواية “دنيا زاد“، تحيل قضية فقد الجنين في رحم الأم إلى قضايا الفقد عامة، وفي رواية “أكابيللا” ترتبط قضية الصداقة بين امرأتين بممارسة الفن والتحرر من خلاله، وهكذا. في “الكل يقول أحبك” كنت معنية بفكرة القرب والبعد، في الحب وفي الهجرة. فكل الشخصيات تقريباً كندية من أصول عربية، مغتربة عن الوطن الأم أو مولودة لأسرة عربية في كندا، وكلها تعاني بشكل أو بآخر، علاقات حب وزواج مضطربة، سببها في معظم الأحيان إشكالية البعد، الإقامة في مدينتين مختلفتين، إلخ.
–تراجعت موضوعات كثيرة بعد الثورات العربية وراجت موضوعات أخرى تسيطر عليها، السياسة مثلاً، أو الإغراق في التاريخ أو الديستوبيا، هل تتقادم موضوعات الرواية؟ وهل يؤثر المزاج العام في استقبال الأعمال الإبداعية؟ كيف ترين المسألة؟
الرواج والموضة مسألتان تشغلاني من الناحية النقدية والأكاديمية، وليس من الناحية الإبداعية. أعتقد أن الرواية التاريخية راجت في السنوات العشر الأخيرة، وكذا الرواية التشويقية سواء البوليسية أو روايات الرعب الخ، في محاولة لتجنب الخوض المباشر في الحياة الراهنة. لا تهمني الكتابة في تلك الأنواع على الإطلاق، فالرواج كما أفهمه حاضر ومؤقت، يكرر وصفات سبق اختبارها، وله قارئ مدلل، مضمون سلفاً، وهو بهذا المنطق عدو للمستقبل البعيد، لفكرة البقاء والتجديد ولفكرة التصادم مع القارئ وتغيير الوعي. بالرغم من ذلك، أقول إن التاريخ المعاصر حاضر في ما أكتب بقوة، وكذلك ما يمكن أن يمثل عنصراً من عناصر التشويق لدى القارئ، وهو التشويق باستخدام العاطفة، الحب مثلاً وتطوراته، أسراره، إيروسيته، علاقته بالواقع السياسي وتأثير هذا الواقع في المشاعر، الخ.
– نلمح التعقيدات والاضطرابات التي فرضتها الجائحة في مواضع متعددة داخل الرواية، جُمل بسيطة لها تأثير كبير الآن، لكن ربما لا يكون لها التأثير نفسه بعد سنوات..
الكورونا تلعب دوراً هامشياً في النص إلى حد بعيد، والرواية لا تتعامل معها بمنطق الرصد والتأريخ. الأحداث كلها تدور في نهاية شهر فبراير وحتى نهاية مارس 2020، أي في بدايات الوعي في كندا بفكرة وجود وباء. من هنا، أهميتها ليست فقط كسياق تاريخي للأحداث، لكن لأن بعض الشخصيات التي ظلتْ تحيا من بعد لسنوات طويلة، ستجد نفسها بحكم الاضطرار للعمل من المنزل، مجبرة على العودة للحياة معاً في بيت واحد. كما أن بعض الشخصيات التي تعودت السفر والتنقل ستضطر للاستقرار. الرواية تطرح هذا التساؤل من بعيد، بلا إلحاح، بمنطق: ماذا لو؟
– تنطلق الرواية من نقطة الهجرة. وتظهر فيها الحرب السورية بإشارات ربما أكبر من الثورات المصرية مثلاً،لماذا؟
غالبية الشخصيات المصرية التي أرصدها في الرواية، لم تكن لها علاقة مباشرة بالأحداث في مصر، وبعضها يرغب فعلياً في قطع الصلة بالوطن الأم. أما الشخصية السورية الرئيسة، بسام الحايك، فترتبط بشكل لصيق بكل ما يحدث في سوريا، منذ هروبه منها في 1982 وحتى الثورة السورية والحرب. علماً بأني كنت أفكر في الثورتين بشكل متواز، فبعض تفاصيل الأولى حاضرة في الثانية بلا شك. أفرد مكاناً مهماً في الرواية المقبلة للثورة المصرية، مرة أخرى من وجهة نظر شخصية مغتربة، وربما تكون فيها نبرة أكثر ذاتية لم تستغل في “الكل يقول أحبك”.
– معظم الاستشهادات داخل الرواية غربية.. برامج وكتب وأفلام وحتى الأمثال… هل فرضت ذلك طبيعة الشخصيات أم ذائقة الكاتبة؟ وهل خشيت أن يتسبب ذلك في اغتراب الرواية؟
الأساس أن طبيعة الشخصيات مرتبطة بتلك الازدواجية الثقافية، بعضها يستمع لأم كلثوم وفيروز لأن الأغاني لا تتطلب معرفة بالقراءة والكتابة، ويشاهد الأفلام الأجنبية، وليست الكندية بالضرورة، ويقرأ أعمالاً أوروبية نظراً لإتقانه الإنكليزية والفرنسية، الخ. وهذا حال الجيل الثاني من العرب الكنديين ومعظمهم لا يقرأ العربية، ويخلط في الحديث بين اللغات الثلاث التي تتقنها شريحة المتعلمين. أعتقد أنه ملمح واقعي جداً في رسم الشخصيات. بالطبع خفت لوهلة من اغتراب الرواية عن القارئ المصري، لكني أدركتُ سريعاً أن واقع الحال في عصر المعلومات والصورة أننا نعرف عن الغرب الكثير ونتداول الثقافة الغربية على نطاق واسع. ثقتي في سعة إطلاع القارئ المصري والعربي، دفعتني لخوض المغامرة.
– كنت موفقة جداً في الحديث بصوت الرجل في مواضع عديدة، هل استلزم ذلك تحضيرات معينة؟
شعرت فقط أنه آن الأوان لكي أخرج من سياق الصوت النسوي في الكتابة. لا أدري إن كنت قد وفقت، لكني بذلت جهداً خاصاً في سؤال الأصدقاء والمعارف حين يساورني الشك بخصوص بعض المشاعر أو التعابير. ثمة إدانة مستترة للصوت الذكوري، أو لنقل إنه نوع من الحنق تشعر به الشخصيات النسائية في الرواية، لكن الأساس في الكتابة هو التعاطف مع جميع الشخصيات مهما بلغ نقصانها، بما في ذلك الشخصيات الذكورية الرئيسية.
– ما مساحة الخيال في هذه الرواية؟
مساحة هائلة مقارنة بما كتبت حتى الآن. عاونتني عليها ربما معرفتي عبر الدراسة والتدريس الأكاديمي بتاريخ العرب الكنديين ومشكلاتهم الاجتماعية والنفسية وعلاقات الجيلين الأول والثاني بفكرة الوطن الأم. يظهر عالم الأكاديميا في الفصلين الأول والثاني، وهو بالطبع عالم خبرته من قرب، كوني أستاذة في جامعة أوتاوا الكندية. كما يظهر عالم المثقفين الكنديين من أصول عربية، وكذا الدائرة الأوسع المرتبطة بحركات الهجرة بين كندا وأميركا.
– تتناول الرواية حياة الطبقة الوسطى من المهاجرين، بعيداً من دراما الهجرة كما عهدناها، صحيح هناك معاناة لبعضهم في السفر، لكنك لا تتوقفين كثيراً عند تلك التفاصيل، تتجاوزين ميلودراما الهجرة إن أمكن القول. هل كان هذا لصالح الحفاظ على الخط الأساسي للعمل أم أنك لا تفضلين هذا النوع من الكتابة أصلاً؟
لا أفضل الميلودراما، رغم اقتناعي بأنها من موتيفات العمل في بعض المواضع. قصة الحب التي تجمع بين شابة في العشرين ورجل متزوج في الأربعين، لا تخلو من عناصر ميلودرامية، لكني سرعان ما أتخلّص منها لصالح الحبكة الواقعية. الحياة تمضي، لكنها لا تمضي على وتيرة واحدة أبداً. معظم الشخصيات تعي أن الحركة هي العنصر الحيوي والأساسي في كونها قادرة على التغلب على المصاعب النفسية والتحديات التي تواجهها في العلاقة بين حبيبين أو في العلاقة بالوطن كفكرة. البحث مثلاً عن حب جديد ومؤقت، هو في ذاته حركة في المشاعر والزمن.
– تختار الرواية أبسط الطرق الممكنة للوصول إلى القارئ. في أي مرحلة من الكتابة تفكرين في القارئ؟ ومَن القارئ المستهدف بهذه الرواية، إن صح هذا السؤال؟
لا أفكر في القارئ العام في البداية، أفكر فقط في بعض الأصدقاء وأتمنى أن يعجبهم النص. بعد الانتهاء من العمل ككل، أضيف إليه تفاصيل تجعله أكثر قربا للقارئ المصري والعربي، تفاصيل الجغرافيا مثلاً. وأحذف منه أحياناً تفاصيل قد تبدو بديهية. لكني أبحث عن قارئ غير مضمون وغير معروف سلفاً، وعلى مدار أكثر من خمسة وعشرين عاماً من الكتابة والنشر، أعتقد أن هذا القارئ لم يخيب ظني أبداً.
– هل تنشغلين بموقعك بين كتّاب جيلك، أو بين كتّاب مصر عموماً؟ وهل حققت ما تطمحين إليه على مستوى الكتابة؟
لا، لم أعد أنشغل بهذا على الإطلاق، فقد انقطع الحوار بيني وبين الكثيرين بسبب الهجرة، وزادت الفجوات بعد الثورة بالتزامن مع صدور رواية “أكابيللا” في 2012. لكنى مازلت أتابع جيداً كل ما يكتبه الأصدقاء، وكذا كتابات الأجيال الجديدة في القصة والرواية والشعر. ربما أكون قد حققت طموحاً من طموحات الكتابة بالتراكم. فقد أردت منذ البداية أن أبتعد عن التكرار في مجال القصة والرواية، بمعنى أن تكون لكل رواية خصوصية من حيث السياق والأسلوب والقضايا المطروحة. وأعتقد أني حققت ذلك بشكل لا بأس به. كما يعنيني كثيراً الاقتصاد والحفر في المشاعر ورسم شخصيات قوية لا ينساها القارئ، وهذا أيضاً تحقق بقدر لا بأس به من النجاح. البعض يعود الآن مثلاً لرواية “هليوبوليس” ويعيد اكتشافها بعد ما يزيد عن عشرين عاما من نشرها. وهذا يعني أن الكتابة الطموح، والتي تسعى للتجديد والمغامرة، لا تموت.
– كيف تأثرت بجائحة كورونا إنسانياً وإبداعياً؟
فضلت البقاء في مصر لفترات طويلة على مدار العامين الماضيين. مصر هي الرئة التي أتنفس بها على مستوى الإبداع وعلى مستوى الطاقة الإنسانية، ووجودي خارج كندا بفضل الكورونا والتدريس من بعد (أونلاين) وخلافه سمحا لي بالانتهاء من الرواية، وهذا كل ما يمكن أن أتمنى. إنسانياً، أشعر أن إنساناً جديداً قد ولد من رحم تلك الكارثة العالمية، تغيرت ملامح العلاقات الإنسانية بلا شك، نستطيع أن نرصد هذا التغير بالحدس، لكن يلزمنا وقت طويل كي ندرك آثار الوباء والموت الجماعي، في النفس البشرية وقِيم المجتمعات.
– ما الجديد على مستوى الكتابة؟
كنت قد شرعت في كتابة رواية بوليسية أثناء كتابة “الكل يقول أحبك”. أعتقد أني سأكملها في الأشهر المقبلة. لا أعتقد أنها ستكون من نوع الروايات البوليسية الرائجة حالياً في مصر. تدور أحداثها في كندا أيضاً، وستكون بمثابة الجزء الثاني من ثلاثية كندية بدأتها برواية “الكل يقول أحبك”. مع التحفظ على كلمة ثلاثية، إذ أن الشخصيات لا تتنقل بين الروايات الثلاث، بل يجمع بينها المكان وزمن الحكي.
——-
مي التلمساني روائية وناقدة مصرية مقيمة في كندا منذ العام 1998؛ حيث تدرّس تاريخ السينما العالمية في جامعة أوتاوا. لها ثلاث روايات: “هليوبوليس” و “أكابيلا” و”دنيا زاد” التي نالت عنها جائزة الدولة التشجيعية العام 2002. ولها ثلاث مجموعات قصصية: “نحت متكرر” و”خيانات ذهنية” و”عين سحرية”.
*المدن