تؤرخُ الذاكرةُ عبر الصور والأرشيف يوميات العشق في وطن الحرب. تنغمس الرواية بروح ثورية وحداثية في مكان موبوء بالسكاكين والقنابل. مع منْ نتعاطف وبجانب مَنْ علينا أن نقف؟ يرتقي الروائي السوري خليل صويلح بالجانب الإنساني عاطفياً وروحياً ليتغلب على الظروف القاهرة في المتاهة الدمشقية التي سحقت الياسمين ولوثت سماء أبجدية الحب والعاشقين.
تتجاوز الرواية السرد التقليدي كموروث في الأدب الكلاسيكي، وتعتمد لغة سلسة تتوافق مع مفردات الروائي في سعيه نحو ترتيب الأمكنة والشخصيات وعلاقات تلك الشخصيات بالهوية والصراع لاقتناص المتعة بعيداً عن المقتلة وفوضى الحياة اليومية.
“اختبار الندم” عن قاع المدينة، عن ساحة المرجة ( وسط العاصمة السورية دمشق ) ودهاليز حياتها السرية. الرواية هي الجزء الثاني من رواية خليل صويلح “جنة البرابرة”، عن السنوات العاصفة التي هزتْ أغصان الشجرة فتناثرت الثمار من حولها، ثم أتى آخرون وسحقوا بأحذيتهم الثقيلة تلك الثمار… لا يُفصح الروائي عن هوية أولئك، لكننا نتلمس وجوه هؤلاء في تفاصيل الحياة اليومية، وفي سياق زمني مُتماسك نكتشف بأن الجحيم مُقيم هُنا والمناطق الخطرة تتوزع على كامل الجغرافيا الممتدة بين الغوطتين.
اتفقتْ ورشة كتابة السيناريو على رصد ليل ساحة المرجة وتصوير فنادق الغرباء، ونداءات سائقي السيارات، وملامح القوادين، ومهربي الخمور، والغانيات، إنه عالم المرجة الليلي الذي لم يكتبْ عنه بما فيه الكفاية ، ولم يُصورْه أحد ( نتيجة المنع الشديد ) ، ولم يُدونْ تفاصيل الحياة هُناك عمل توثيقي متكامل .
يختار مدرس مادة السيناريو قصة من بين 41 قصة: أي عدسة ستعيد هذه المشاهد بمستوى المذلة التي انتابت الضحية؟ عندها، لا يغفل الروائي تسجيل صور مرعبة عن الموت السوري بكل أشكالها. ساهمت الميديا ببث صور على مدار اليوم ولم تفعل ما يمكنها أن تساهم بوقف أسباب الكارثة: غرقاً أو في مقبرة بلا شاهدة. تختلط صور المفقودين الذين لا نجاة لهم ولا عزاء سواء مَنْ ماتوا تحت القصف أم برصاص قنّاص أو بانفجار.” المجد هُنا للموت غرقاً، فهو أكثر إثارة لغريزة الميديا المتوحّشة التي استهلكت ما يكفي من أنواع الموت السوري في مطحنة الصورة”.
أمير القلوب!
بطل الرواية بلا اسم، حياته تتوزع بين أربع نساء باحثات عن حياة تُرسم لهن سردية أخرى بعيداً عن المأساة. هل سينجحنّ في ذلك؟ شخصية أسمهان مشعل هي ذاتها آمال ناجي، آمال التي تعيش مُتخفية تحت اسمها المستعار لتتخلص من ماضيها الذي كان يؤرق أسمهان المطلقة والتي عانت من خيانة زوجها، باتت رهن مستقبل بلا أمل في بحثها عن جواب لسؤال مُحير: ما الندم؟ الشخصية النسوية الأكثر إثارة في الرواية: نارنج عبد الحميد، شخصية تراجيدية تتمزق بين خيانة العشيق المناضل مُدعي البطولات الذي وشى بها لينجو، وبين مطاردات يومية وكوابيس ورغبة بالانتقام والثأر. في سعيها لتصوير فيلم عن المهاجرين غير الشرعيين عبر البحر، تُغير نارنج وجهة الرحلة وتنجح بالوصول إلى برلين….كان رحيلها بلا وداع، كان أشبه بالموت لبطل الرواية. وأخيراً هنادي عاصي الفنانة التشكيلية التي” كان لها فم فراشة، وعنق غزالة نائمة، وبطن من المخمل”. حاول الروائي محو صورتها بمحاولة يائسة كي ينتهي من مسودة الرواية إلى الأبد، بعد أن فرقتهم حرائق الحرب اختارتْ هنادي منفاها في مدينة مالموالسويدية.
كما يقول الشاعر خضر سلفيج في إحدى قصائده: ” هُناك متسع من الوقت للموت بعد هذا”. سميح عطا سيستعيد تاريخ مسرح القباني ( في قلب دمشق على إحدى زوايا شارع 29 أيار الشهير هناك ) على مدار أربعين عاماً وهو كامل الثقة ليروي مأساة شخصيات شكسبير، وشخصيات من مسرحيات تشيخوف ولوركا بفضل خزانة الملابس لينتهي إلى العبارة الشهيرة”انتهت الحكايا يا سادة يا كرام”. ثم انتحار مايا مروان في كيب تاون، عوالم غريبة لشخصيات تُكررُ الفواجعَ بعبثية ولا مُبالاة. ويستذكر الروائي استشهاد الشاعر بشير العاني كمقاوم لم يستطع النجاة من سيوف الظلاميين بعد أن فجروا الجسر المعلق في دير الزور، وهي رمزية لاستحالة اللقاء بين طرفي النزاع.
الرواية دعوة لتنظيف الروح من حليب الكراهية ونبذ الضغينة. رواية تلخص صراع الروح مع الحواس، صراع الخلود والأبدية مع لحظات العشق العابرة. رواية حافلة بالعناء، مُثيرة وشائكة، مليئة بمشاهد الخيبة والمآسي مما يجري. “أكملتُ مشاهدة فيلم وثائقي بالأبيض والأسود، كان يبثّه التلفزيون، عن الحرب العالمية الثانية، بدا لي الفيلم مُسلياً بالمقارنة مع الحروب الدائرة اليوم. لا مُفخَخات في الأسواق، ولا فتاوى، ولا براميل مُتفجرة، ولا صواريخ موجهة ليزريّاً، ولا حفلات إعدام بالسواطير والسيوف”ص173.
*خليل صويلح من مواليد مدينة الحسكة في سوريا العام 1959. صحفي وناقد وروائي، كتب العديد من الروايات.لاقتْ رواية اختبار الندم صدىً واسعاً في الصحافة العربية وفي أوساط النقاد العرب.”ورّاق الحب” حازت على جائزة نجيب محفوظ للرواية. “بريد عاجل” صدرت عام 2004. “دع عنك لومي” 2006. “زهور وسارة وناريمان”صدرت عام 2008. رواية”سيأتيك الغزال” 2011. رواية “جنة البرابرة” 2014. للروائي خليل صويلح كتاب في النقد الأدبي عن تجربة محمد الماغوط الشعرية “اغتصاب كان وأخواتها” 2002.
*الناس نيوز