ميس داغر: قصة سمّاعة

0

لفّت مشدّ الخصر على صدرها فعصرت به نهديها حتى اطمأنت إلى تسطيح تكوّرهما. خطر لها أنه لو أمكنها التحول إلى ذكرٍ يوميًا ما بين الساعتين الخامسة صباحًا والرابعة عصرًا لما ترددت. استكملت ارتداء باقي ملابسها، ثمّ أخذت تتحسّس السمّاعة على أذنها اليمنى. لقد باتت تتأملها كثيرًا مؤخرًا. تذكّرت تفاؤلها قبل عامين عندما بشّرتها موظفة المركز الصحي بتوفير سماعة أذن لها. فكّت السمّاعة عن أذنها وركنتها على الأرض بجوار فراش نومها. ثمّ لفّت الطرحة على رأسها وخرجت من البيت تنتظر الحافلة.

البرد لاسع في فجر النهار. شعرت به ينخر أذنها اليُمنى برغم ارتدائها الطرحة. في مثل هذا الوقت من كل يوم ينتابها القلق من خروج مُصلّي الفجر ومرورهم عنها أثناء انتظارها الحافلة. لكنها بدت في هذا اليوم أقلّ قلقًا بفضل الاستغناء عن السمّاعة. مرّ الرجالُ عنها عائدين من مسجد المخيم إلى بيوتهم. حدّثها قلبها بأنهم تمتموا كالعادة..

برغم أنها لم تسمع شيئًا، إلا أنها شعرت فور أن تجاوزوها بثقل خفيفٍ في أذنها.

ظهرت الحافلة البيضاء قادمة من بعيد فاستعدت. استقرت الحافلة بجوارها وإذ بغطائها الجانبي ملطّخ بدهانٍ أسود على شكل نجمة سداسية، من تحتها مكتوب بخط اليد: “باص عاهرات”. تحوّل البرد فجأة إلى إبر مغروزة على كامل جسدها. ارتجفت وشدّت جانبي معطفها على صدرها المُسطّح.

أنزل سائق الحافلة زجاج النافذة وأخذ يشرح لها…

أشارت بيدها إلى أذنها ففهم السائق أنها لا تضع سماعة. دلُفت إلى الحافلة بجوار زميلاتها واكتفت بالحملقة في ظهر كرسيّ السائق طوال الطريق من المخيم إلى المعبر.

*

لم تسمع مناداة ذاك الذي بات يخرج لها كل يومين أو ثلاث على المعبر أثناء انتظارها في الطابور الطويل. أشارت زميلتها سمية له بأنها لا تضع السماعة في أذنها، ولكزتها بمرفقها، فانتبهت له، ثم أشاحت بوجهها عنه أثناء كلامه غير آسفة لعدم سماعها ما يقول. خاصّةً وأنّ الشعور الثقيل في أذنها بات يُصعّب عليها التركيز فيما سواه.

انتظار طويل على المعبر بين مئات العمّال. مئات العيون التي تترقب أمر السماح بالمرور، وينزلق بعضها في هذه الأثناء على النهود القليلة المتواجدة في المكان. نهود خفية، تكاد انحناءاتها تتميّز من تحت طبقات الملابس الثخينة، غير أنّ الأجساد الملاصقة لها طوال ساعات بإمكانها التيقظ إلى دفء جوارها في صقيع الصباحات الباكرة.

لم يخطر ببالها يومًا أنها ستتخيل الوقت كما باتت تتخيله أثناء انتظارها على المعبر. جثة تمساح تزحف ببطء قاتل بين جانبي النقطة العسكرية. لا تعرف ِلمَ تراودها خيالات غريبة على هذه الشاكلة. أخبرت سمية مرة عن هذه الخيالات، وعن رغبتها السخيفة بقنص هذا التمساح لو أنها تراه، فضحكت سمية حتى دمعت عيناها، ثم قالت لها إنّ للمعبر قدرة عجيبة على توليد هذا الإبداع في خيال الإنسان.

زحفت جثة تمساحها ببطئها المعهود حتى حان دورها. لحظة وقوفها أمام البوابة الالكترونية تمتزج عادةً بالفرح والرعب. وكأنّه يصعب عليها في اللحظات الأخيرة تصديق قرب انعتاقها من أزمة المعبر، فتغشاها خشية أن تكون نسيت دبوسا أو أي قطعة معدنية مشابهة في ملابسها، فتطلق البوابة زعيقها المرعب وتقتادها مجندتان إلى غرفة التفتيش العاري. حدث هذا معها مرارًا من قبل، وكان أسوأ ما فيه القهقهاتُ الفجّة التي تطلقها المجندات ذوات الصدور المكتنزة عند اكتشافهن مشدّ الخصر الملفوف على صدرها.

دخلت في الإطار الإلكتروني للبوابة. ذهنها الشارد في الدبابيس وسحّابات البناطيل والأزرار المعدنية أنساها غياب السماعة. فتسمّرت للحظات داخل الإطار في انتظار سماع أمر السماح لها بالمرور من العسكري المختفي خلف نافذة جانبية. لم تنتبه للأمر إلا عندما أطلّ العسكري برأسه محتدًا من النافذة. صاح فيها بما لم تسمعه، ولوّح لها بيده كي تمرّ.

تابعت طريقها، حيث أبرزت لعسكري آخر تصريح مرورها. فتفقده كما يفعل يوميا. وألقاه إليها من غير تعقيب. خرجت من المعبر، وبقيت جثة التمساح على جانب المعبر، في انتظار عودتها عند المساء.

*

في الحقل الممتد، كانت على وشك إتمام قطف الدلو الأول من البندورة الكرزية عندما دقّت سمية على ظهرها، وأشارت لها إلى تجمّع العاملات. أدركتْ ما يحدث من غير حاجة للشرح من سمية. اقتربت من التجمّع بغير أملٍ كبير. راقبت الشفاه، وفهمت معظم الذي قيل، ثم أدارت ظهرها وعادت إلى قطاف البندورة مع ثقل إضافيّ حلّ على ما في أذنها اليمنى من ثِقَل. تعلم أنّ الغاية الوحيدة المقبولة هنا هي إتمام قطاف اثني عشر دلوًا يوميا من البندورة الكرزية، مع ضرورة احتفاظ الحبّات بقوامها الكروي الممتلىء. غير هذا من الغايات غير مصرّحٍ به.

من بعيد، كان عبد السلام ويائير يتبادلان الحديث. اقتربا بعد أن لفت تجمّع العاملات أنظارهما. راقبتهما يتحدثان مع بعضهما ومع العاملات، فراودتها الطمأنينة بأنها لا تسمع شيئا مما يُقال برغم قربها من التجمع. سرعان ما أنهى يائير وعبد السلام حديثهما المقتضب مع العاملات، فتفرقن إلى عملهن. ثمّ قادت الرجلين خطواتهما بين أشتال البندورة إلى الاقتراب منها، فأخذت أصابعها تضغط بشكلٍ لاإراديٍ على حبات البندورة أثناء قطفها، حتى كادت تعصرها في يديها.

تحدّث يائير وعبد السلام في جوارها بما لم تسمع. لكنّ الثقل في أذنيها، عندما اهتزّ كتفا الرجلين قهقهةً، بلغ حدّ الإنهاك. هل حدث وأن أنُهِك إنسانٌ ما من ثقلٍ في أذنيه! تبدو الفكرة مُضحكة لمن لم يجرّب. وهما بجانبها، يراقبان ما تفعل، شعرت كما لو أنها اصطحبت جثة تمساح المعبر معها إلى هنا، فالوقت البغيض أصبح بطيئًا، بل عاجزًا عن الحركة.

مرّت جثة التمساح في شعورها، وبقيت أذنها تنوء بالثقل الذي أخذت تتحرك فيه وخزات كوخزات إبر الشوك.

*

وصلت بيتها مساءً. كان الثقل يضغط في قناة أذنها كما لم يحدث لها يوما. والأسوأ من الضغط هو تلك الوخزات التي تتخلله وكأن عشًا من الدبابير يستحلّ أذنها. ألقت بحقيبتها الصغيرة على الطاولة، فاندلقت محتوياتها. تدحرج قرش من جيبة الحقيبة على الطاولة ثم سقط أرضا. فالتقطته وأعادته إلى مكانه. ألقت بنفسها على فراشها.

لمّا يأست من تفكك هذا الثقل وذوبان وخزاته في أذنها مدّت يدها حولها تبحث عمّا تنكش به عشّ الدبابير هذا. وقعت أصابعها على السماعة، فالتقطتها بحركة محمومة، دسّتها في أذنها، وأخذت تهزّها فانفجرت في سمعها دوّامةٌ مما تحاشته منذ الصباح:

اللهم عافِنا.. واستر عوراتنا

استغفر الله

.

.

أولاد حرام كتبوا عليها ليلًا، سأنظّفها اليوم..

.

.

فطّوم.. فطّوم.. ألم تعاودي التفكير في الأمر؟ سترتاحين يا قطة. ماذا؟ تعنين لم تضع السماعة اليوم؟ يا لها من كلبة

.

.

אני הולך  … אני הולך  (امشي … امشي)

תרד מהפנים שלי (انقلعي من وجهي)

.

.

اسمعن يا صبايا. كل واحدة همّها أكبر منها. إمّا أن نعترض اليوم أو سوف يسحقوننا إلى الأبد، ماذا قلتنّ؟

معكِ

معكِ

………..

………..

………..

أين تذهبين؟

جبانة

.

.

 מה הם אומרים (ماذا يقلن؟)

 הם דורשים יותר … אתה יודע את הדחיפות של נשים (يطالبن بأجورٍ أعلى… تعرف نقّ النساء!)

إليكُنّ حكمة هذا النهار: من لا يعجبها العمل هنا، نجد ألف واحدة بديلة لها

.

.

 האם זה בלי שדיים? (أهي من غير أثداء؟)

 האם הם נחוצים לקציר עגבניות? (وهل هما ضروريان لقطاف البندورة؟)

هههههههها هههههههيه هههعهعهعه

سائل أحمر مصفرّ أخذ ينزف من حول السماعة، أحسّت به يسيل على عنقها. أطبقت أصابعها على السماعة تريد نزعها من أذنها فوجدتها عالقة. شيءٌ ما يستبقيها. انتظرت لحظة، اثنتين، ثلاثا… ثم حاولت نزعها ثانية، فهشّمت سمّاعتَها رنّةُ قرشٍ سقط من حقيبتها والتقطته.

*الترا صوت