ميسون شقير: الأغنية بوصفها ثورة وتوثيقا لا يموت.. سميح شقير نموذجا

0

الأغنية هي سيرة الشعوب التي لا يستطيع أحد أن يسجنها، فالهواء لا يسجن، والأغنية مثل كل الفنون هزمت الموت وهزمت المستبدين” هذا ما تقوله الكاتبة ميسون شقير في نصها الذي يركز على تجربة الفنان والمغني الملتزم “سميح شقير” باعتبارها “بانوراما حقيقية كاملة عن تاريخ المنطقة طيلة أربعين عاما”.

يقول الفنان الملتزم عادل بو عناق في حوار أجراه معه موقع درج: “نحن في مرحلة شبه انتقالية من الموسيقى التي كانت موّجهة للترفيه، أو من موسيقى بلاطات، إلى موسيقى تعبيرية، بمعنى أنّ الموجة الجديدة للفعل الموسيقي تختلف عمّا سبق، إذ أصبحنا نتعاطى مع فن الموسيقى وليس مع فن الغناء فقط. لأن تاريخ الموسيقي العربي تاريخ غناء ولم ننفصل عن سلطة الخطاب، في حين أنّه مع الموسيقى الملتزمة أصبحنا نستمع إلى قطع موسيقية بمحاور معينة، لقد دخلنا مرحلة جديدة، وهي فن الصوت وتشابك الأصوات. وأصبحت بذلك علاقتنا بالكلمة جزءاً لا يتجزأ من فعلنا الموسيقي وهذا المعطى سيحدث نقلة نوعية في تاريخ الموسيقى العربية”، في حين يعرف الكاتب والمخرج المسرحي والمعتقل السياسي السوري غسان جباعي في كتابه “الفن والثورة السورية” الصادر عن مركز حرمون للدراسات المعاصرة، الدوحة، الفن على “أنه نشاط ذهني وظاهرة اجتماعية خلّاقة، متحرّك ومتجدد في المعنى والمبنى، وفي جوهره نشاط ثوري دائم، ولا يمكن أن يكون غير ذلك. يعمل جيلاً بعد آخر على تجديد نفسه وهدّ السائد الثابت الرسمي المتجذّر ليبني بديلاً جديداً يستند إليه. ويتطلع إلى قيم ورؤى فكرية وجمالية حديثة”، ويرى أرنست فيشر، في كتابه “ضرورة الفن”، أنه “لا بد للفنان، حتى يكون فناناً، أن يملك التجربة ويتحكم فيها ويحولها إلى ذكرى، ثم يحوّل الذكرى إلى تعبير أو يحول المادة إلى شكل، فليس الانفعال كل شيء بالنسبة للفنان، بل لابد له أن يعرف حرفته وأن يجد متعته فيها”.

لذا فـــــ”للفن طبيعتة الثورية” لأنه ثورة بحد ذاتها، لكنه تلك الثورة التي نقيمها على أنفسنا أولا، وتلك الثورة الخاصة المختلفة التي تحاكي الروح وكذلك تجد طريقها العميق إلى الفكر والمفاهيم، وهذه الطبيعة الثورية للفن تتجسد بقوة أكبر ووضوح أشد في الأغنية، ذلك لأن الأغنية تمتلك بالإضافة إلى قوة الكلمة، قوة أخرى أشد تأثيرا هي قوة الموسيقى وقدرتها على دخول الروح والحفر في الوجدان دون الحاجة إلى جواز سفر، وعلى المساهمة في تشكيل وعي جمعي، وفي بناء هوية كل من الفرد والمجتمع، ولا تحدّ من قدرتها لغة ولا تحتاج إلى ترجمة، وهذا ما يجعل الأغنية الملتزمة تقوم أحيانا بعملين هما عمل الكلمة أو الأدب الملتزم، وعمل الموسيقى القادرة على تجاوز كل الحواجز والوصول أبعد وأعمق مما نتخيّل، الأمر الذي يجعل الأغنية الملتزمة تصبح انعكاسا حقيقيا لزمانها، وتوثيقا للحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للشعوب التي أنتجتها، وسردا مموسقا لتاريخ السكان الأصليين في جميع أنحاء العالم، سردا لنضالهم ضد الاحتلال والإبادة الجماعية، سردا للحقائق التي قد يتم استبعادها من كتب التاريخ، لأن التاريخ يكتبه المنتصر، لكن الأغنية هي سيرة الشعوب التي لا يستطيع أحد أن يسجنها، فالهواء لا يسجن، والأغنية مثل كل الفنون هزمت الموت وهزمت المستبدين، فكما يقول محمود دروبش “على هذه الأرض ما يستحق الحياة خوف الطغاة من الأغنيات”، خوفهم من الأغنيات القادرة على توحيد الناس لأنها تصلهم جميعا ولأنها تسمح لهم بأدائها مجتمعين وهو ما يعطي الشعور بالقوة والنشوة والألفة والحماية حتى لو كان الرصاص ينهال فوق رؤوس المغنين.

نمط موسيقي جديد

لقد شهد العالم في بدايات القرن الماضي ظهور نمط موسيقي جديد، كانت بوصلته الأولى هي أوجاع الناس ومقاومة كل أشكال الاستبداد السياسي والعنصري والديني والقمع والاحتلال المباشر، ولقد تحولت هذه الظاهرة إلى عدوى تنتقل بين دول العالم مستنهضة، بكل مقوماتها السحرية، المقاومة من أجل التغيير ونيل حقوق الإنسان في أيّة بقعة على هذا الكوكب البائس.

وحين كانت أغنية “بيلا تشاو” في إيطاليا قد تحوّلت إلى نشيد يغنيه كل المستضعفين في الأرض، نشيد لمقاومة الفاشية وترنيمة للحرية والمقاومة. مثلما تحولت أغنية “غوانتامانيرا” في كوبا إلى إيقاع لرفض الاحتلال ولرقص الحرية، ووثقت أهم مراحل التاريخ الكوبي، وأغنية “الحرية لنلسون مانديلا” التي كتبت بعد القبض عليه عام 1962، وأغنية “تربص في الليل” لبوب مارلي التي كتبها بعد محاولة اغتياله 1976، وتتحدث كلماتها عن سياسة جامايكا التي كانت تفرض على الشباب خوض حروب بأوامر من السياسيين الذين يبقون بعيدين تماما دون تورط في تلك الحروب.

كانت ظاهرة الأغنية السياسية قد وصلت إلى المنطقة العربية، وكانت الانطلاقة الحقيقية مع السيد درويش، والذي توضح في أغنية “أهو دا يللي صار” 1919وكلماتها “تلوم علي إزاي يا سيدنا؟.. وخير بلادنا مهوش في إيدنا؟”، تلاه الشيخ إمام الذي تحوّل سريعاً إلى أيقونة هذا النمط الفني التي وثقت لمعظم مراحل تاريخ مصر الحديث، وخفقت معها قلوبنا ونحن نكرّر حتى اليوم، “شيّد قصورك في المزارع، واقفل زنازينك علينا“، وكذلك أغاني إيمان البحر درويش، ومحمد منير، وأيضا أغاني سامي كمال في العراق، حيث وثقت أغنية “صويحب” لمرحلة حكم الاقطاعيين، ولبدايات انتشار الفكر الماركسي في البلاد، وأغنيات مارسيل خليفة التي جمعتنا حولها كلمات درويش وهي تصيب فينا القلب، وصوت أحمد قعبور وهو ينده “أناديكم وأشد على أياديكم“.

ولا يمكن أن ننسى، نحن هذا الجيل أنّ الأكثر تأثيرا في وعينا كان الأغنية التي حاكت القضية الفلسطينية، أو الجرح العربي الذي لم يزل ينزف، فكان نشيد “يا ليل خلي الأسير تا يكمّل نواحه” الذي كتبه عوض النابلسي بآلة حادة على جدران زنزانته، عام 1929 رافضا توافد المهاجرين اليهود إلى فلسطين، في الليلة السابقة لإعدامه على يد قوات الانتداب البريطاني المتواطئة مع اليهود. هو نشيدنا، وكانت أغاني فرقة العاشقين الفلسطينية “والله لأزرعك بالدار يا عود اللوز  الأخضر” وأغاني فرقة الأرض الفلسطينية، تشد قلوبنا وتعيد فينا إحياء الجرح الفلسطيني من أوله، وصوت الفنانة الراحلة ريم البنا يحمل روح الفلسطيني في كل مكان “يا ليل ما أطولك مشيتني حافي”.

الأغنية الملتزمة سوريا… سميح شقير نموذجا

وإذا ما اقتربنا من التجربة السورية في الأغنية الملتزمة فسنذكر تجربة بشار زرقان، وتجربة فهد يكن، أغنية زياد حرب “كل ما النا لورا” الساخرة من الوضع السوري المأساوي.

لكن التجربة الأهم في الأغنية السورية الملتزمة هي تجربة الفنان سميح شقير التي يمكن اعتبارها بانوراما حقيقية كاملة عن تاريخ المنطقة طيلة أربعين عاما، ففي شريطه الأول “لمن أغني”، غنّى “للفقراء رماد حرائق هذا العالم” ولقمع حرية الرأي وللجرح الفلسطيني، واضعاً نفسه وصوته وأرواحنا على طريق تحدّي أن تعيش مختاراً الطريق الوعرة لتقاتل الظلم في كل أشكاله، ولتقاتل الإسفاف والابتذال، ولتقدّم فنّاً يحاكي عمق ما نعيش ويلتزم بملامحنا الحقيقية حين نقاوم قهرنا، وحين نعود لأنفسنا متعبين وسالمين.

مضت هذه التجربة في طريقها لتكمل ملامحها ولتقترب أكثر منّا، ولتقدم “بيدي القيثارة” في العام 1984، ثم “حناجركم” في العام 1985، ليأتي شريط “زهر الرمان” في العام 1990، وليبدأ فيها سميح بتشكيل هوية لتجربته، ولتأخذ انتشاراً واسعاً ليس عن طريق الإعلام الذي حارب التجربة كلها، وإنّما عن طريق الأشخاص الذين بدؤوا بنقلها.

غنّى سميح في هذه الفترة أكثر من عشرين أغنية لفلسطين، فوثق مجزرة صبرا وشاتيلا وحصار بيروت وترحيل الفلسطينيين منها في أغنية “رمانة”، وغنى للأسير الفلسطيني في أغنية العصفور، ولأسير الرأي في كل السجون العربية في أغنية “بغرفة صغيرة وحنونة”، كما غنّى قصائد لمحمود درويش في ثمانية أغاني منها “بيروت”، “منكم السيف“، وغنّى للشتات الفلسطيني في أغنية “حين نعتاد الرحيل”، ولهجرة العقول السورية ولموت السوري الكريم بحثا عن لقمة العيش لأن نظام بلاده يسرقه علنا في أغنية “في حانة صغيرة“، غنّى للأكراد ولحقهم بالحياة المتساوية العادلة: “غنّي يا شيفان غنّي” وللجولان السوري المحتل “يالجولان ويللي ما تهون علينا“، ووقف في عين التينة طيلة عشرين عاما في يوم الاستقلال السوري يغني “يا زهر الرمان“. كما غنّى سميح أيضا أغنية “مظاهرات” وبشّر فيها بالانتفاضة الفلسطينية قبل أن تقوم، وبشر أيضا بانتفاضة الربيع العربي.

الأغنية والربيع العربي

ولأن المنعطف التاريخي الذي عشناه نحن هذا الجيل المحظوظ والبائس بنفس الوقت، كان انفجار ثورات الربيع العربي والغناء الذي رافق هذا الانفجار، والذي حمل شعلته من تونس إلى ميدان التحرير في القاهرة إلى ساحات صنعاء،  ثم إلى أول صوت سوري صاح “عاشت سوريا ويسقط بشار الأسد”، فلا يمكن  أن ننسى ما الذي فعلته بنا أغاني الثورة السورية، وكيف استطاعت هذه الأغاني ليس فقط أن تساهم في الفعل الثوري بحد ذاته، وأن تلهب حماس المتظاهرين وتحمل عنهم عبء الرعب من الاعتقال والقتل والتعذيب، مثل أغنية “جنة جنة يا وطنا”  للساروت، و”يلا ارحل يا بشار للقاشوش“، بل كيف استطاعت هذه الأغاني توثيق ثورتنا وأهدافها الأولى النبيلة، فجاءت مثلا أغنية زياد حرب “إلى داريا” لتوثق أجمل حراك سلمي فيها، وأغنيته “إلى السويداء” لتوثق عودة الحراك السلمي بعد تسع سنوات من موت كل شيء فينا، ولكننا مع ذاكرتنا لهذه الأغاني سنتوقف دائما عند أول أغنية حاكت الثورة السورية بعد عشرة أيام من سقوط أول أربعة شهداء في مظاهرات درعا في 18 مارس 2011، إنها أنشودة “يا حيف” التي أطلقها الفنان سميح شقير موثقا فيها لما لم نكن نتوقع أن ينساه العالم يوما، اعتقال النظام السوري لأطفال درعا، واستخدامه الرصاص الحي في مواجهة أول مظاهرة خرجت رفضا لاعتقال الأطفال، وطبيعة نظام الأسد الذي كان يركع أمام إسرائيل ولا يفتح جبهة معها طيلة أربعين عاما، لكنه ضرب شعبه بالرصاص الحي،  فجملة “يا حيف” التي يعرفها ويفهمها جيدا الفلسطيني والسوري والأردني وكل سكان بلاد الشام، ويعرف تماما أنها تعني الحسرة الهائلة التي تترافق مع القهر وعزة النفس في آن واحد، تعني ذلّ الكريم الحر، وتحكّم النذل فيه، ولا يقولها إلا الكريم الحر، يا حيف التي تحولت بسرعة البرق إلى أيقونة الثورة، لم يستطع النظام السوري سجنها ولا محي الحقائق التي قالتها الأغنية بلحن المجروح حتى العظم، وبصوت شعب كامل مذبوح، ثم جاءت بعدها أغنية “هي يا بنات” لتكمل روي الحكاية.

وفي لحظات تفاؤلنا جميعا قبل أن يخذلنا العالم جاءت أغنية “قربنا يالحرية”، وحين خذلنا العالم وخذلتنا كل القوى الاقليمية وبدأت هجرة السوريين وموتهم المالح في البحر المتوسط، غنّى سميح أغنية قادر يا بحر . وبعد بدء تشكل أعلام وروايات لا تشبهنا تحت اسم المعارضة السورية، وبدأت أحلامنا تتسرب من بين عيوننا، حاول سميح أن ينبّه في أغنيته “يا ابن البلد خلي عينك عالبلد”، ولكي يقول أنّ الثورة هي الفكرة الحيّة التي لا تموت غنّى سميح “أيظن أن أحصنتي مرادي “، مؤكدا على أنّ فكرة الثورة التي نادت بالحرية والعدالة وبإقامة دولة المواطنة والمساواة، دولة تسع الجميع يحكمها القانون المدني الذي يكرم الجميع من خلال الديمقراطية، هي فكرة مثل طائر الفنيق السوري الذي يحيا من رماده كلما احترق.

في السنة العاشرة لأجمل الذكريات وأوجعها، نقول لتعش وتستمر كل تجربة حاولت أن تبنينا وتبني فينا وعينا لأنفسنا، لتعش الفكرة، ولتعش الثورة ولتورق الأغنية في كل بقاع الأرض ولتزهر جمالا ومقاومة وصوتا لا يمكن لشيء أن يقتله ونقول مع سميح شقير:

لو رحل صوتي ما بترحل حناجركم

عيوني على بكرى وقلبي معكن

لو راح المغني بتظل الأغاني

تجمع القلوب المكسورة وال بتعاني.

*حكاية ما انحكت