عتاد طفل صغير أسمر البشرة على الذهاب إلى حقل والده يوميًا بعد الإياب من المدرسة؛ ليعطيه ما خصصته أمه من طعام، ثم يتبادلان الحديث بلهجة رقاوية سورية عن الحال والأحلام، كان أيضًا يشارك والده، فيروى القمح والقطن والذرة الصفراء بمياه نهر الفرات؛ كي تعطي بجود هذه القطعة الخصبة التي تقع ضمن أهم مناطق «سلة الغذاء السورية».
لكن مع سيطرة «تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)» على الرقة عام 2014، ورغم الخوف الشديد الذي حل بسكان المحافظة من (داعش)، تحول الفلاح الصغير نحو حلم كبير عليه، حلم بأن يحلم السلاح، ويصبح ذا محفظة ممتلئة بالمال، ويقود سيارة «تويوتا»؛ فقد أُغرى بأن الانضمام للتنظيم هو سبيل تحقيق هذا، ولم يكن الأمر ليتم إلا بعد صراع أسري تحكي تفاصيله الموجعة شقيقة الطفل لـ«ساسة بوست».
حضر «داعش» فذهبت «الأحلام الصغيرة»
في قرية «كسرة شيخ الجمعة» التي تتبع مركز محافظة الرقة السورية، ولد طفل صغير يدعى عبد الله، عاش في كنف أسرة ميسورة الحال تلبي حاجاته التي تسعده حسب مقدرتها المالية.
أطفال سوريون يلهون في الشارع (المصدر: رويترز)
تغيرت الأمور كليًا حين سيطر تنظيم (داعش) على المحافظة في يناير (كانون الثاني) عام 2014؛ فقد اكتسى السواد الجدران التي رسمت عليها شعارات التنظيم، وتحولت ملابس النساء والرجال إلى اللون الأسود، ودب الخوف الشديد من تشدد التنظيم في قلوب السكان، وكان من جملة ما فرضه التنظيم على قرية عبد الله إغلاق المدارس التي كان من المفترض أن يلتحق بها.
لم يجد الطفل مكانًا يخرج إليه إلا طرقات الشوارع، وعلى هذه الطرقات كانت أعين التنظيم تتبع الفتى كما غيره من أطفال الرقة، فهؤلاء «الأمراء» الصغار نظر إليهم كخزان بشري يجب أن يسد النقص في عدد المقاتلين التابعين للتنظيم، لكن سرعان ما حصن أهل عبد الله ابنهم من أساليب التغرير بالأطفال التي تبعها التنظيم؛ فمنعته من الذهاب إلى الحدائق والأماكن العامة التي تحولت إلى مناطق لتنفيذ الإعدامات، ومنع من الذهاب إلى المخيمات الدعوية التي كانت توزع الهدايا والألعاب، ومنع من الذهاب إلى المدارس التي أنشاها التنظيم للتأطير له.
لكن جار عبد الله الذي كان يكبره بعام واحد لم يكن في دائرة التحصين الأسرية؛ إذ تسبب تفكك أسرته الناجم عن انفصال أمه عن أبيه في سرعة انتسابه للتنظيم، وذلك إثر قبول أمه تزويج شقيقته لأحد عناصر التنظيم، وهو مغربي الجنسية، هذا الجار الذي رافقه عبد الله خارج المنزل استجاب لإغراءات التنظيم؛ فتبع أوامره، ثم دار حول عبد الله يستقطبه، فحين حدثه عبد الله عن حلمه بأنه يقود «ماتور» (الدراجة النارية) بعد منع أهله عن ذلك لصغر سنه، أقنعه بأن (داعش) يتيح للجميع فرصة قيادة «ماتور»، وقيادة سيارة، وحمل السلاح أيضًا، وأن امتلاك هذه الأشياء تعني أنه لن يكون لأحد سلطة عليك.
عندما رفض أهل عبد الله إغراء التنظيم الذي كان يدفع المال للأهالي مقابل تجنيد أبنائهم ليصبحوا «أشبال الخلافة»، أو «فتيان الجنة»، بحسب دعاية التنظيم، خاضوا معركة أسرية ضخمة في محاولة لمنع عبد الله من الالتحاق بأطفال الرقة ذوي العاشرة من العمر فما فوق، والذين جندوا، والذين كانوا يتجولون في شوارع المحافظة حاملين أسلحة منوعة، كالمسدسات والكلاشينكوف، وأحزمة ناسفة أحيانًا، واضطروا لحبسه في إحدى غرف المنزل، بعد أن لبوا الكثير من مطالبه، مثل الحصول على موبايل، ودراجة نارية، وأشياء أخرى، دون أن يتراجع عن رغبته.
ما بعد المنع.. إلى «داعش» بالخداع
الكثير من المفاجآت تحملها التفاصيل؛ فقد تمكن الطفل من خداع أهله الذين فكوا قيده من المنزل؛ بعد أن أقنعهم بأنه أخرج فكرة الالتحاق بـ(داعش) من رأسه، وتظاهر ليومين بالطاعة لهم، قبل أن يقرر الاستجابة الفعلية لعمليات الإغراء التي تعرض لها من قبل التنظيم؛ فانتسب إلى (داعش) بسهولة، بعد أن هرب من أهله.
عنصر من (داعش) يدرب طفلًا على إطلاق النار (المصدر: أ ف ب)
بعد ذلك غالب أهله الخوف الشديد الذي انتابهم، واقتربوا من عناصر التنظيم لسؤالهم عن وجود عبد الله لديهم، فكان الرد المتوقع من التنظيم، وهو عدم الاعتراف بوجود عبد الله. تقول شقيقته نداء: «لا غرابة في أن يفعل الطفل ذلك؛ فالأطفال عامة في الرقة كانوا يفعلون الكثير مما يفوق أعمارهم، لقد وشى بعضهم بذويهم الذين انتقدوا (داعش) بين جدران منازلهم، قسوة قلوبهم بفعل التأطير كانت مفجعة».
واصل ذوو عبد الله البحث عنه حتى تأكدوا من ابن الجيران أنه يخضع لدورة عسكرية مغلقة مدتها ثلاثة شهور، ملتحقًا بذلك في المعسكرات الخاصة التي أقامها التنظيم في أطراف المدينة، حيث يسجل الفتية دون موافقة أهلهم، ويخوضون تدريبات في معسكرات بتل عفر في الرقة السورية، فعلى الطفل اجتياز دورتين: إحداهما شرعية، والأخرى عسكرية؛ الدورة الأولى تعتمد على تلقين عقيدة التنظيم. أما الثانية فهي الخضوع لتدريبات عسكرية، منها آلية استعمال الأسلحة والرمي بالذخيرة الحية. التحق عبد الله، ودرب على القتال وصناعة القنابل والعمليات الانتحارية. بعد أن بايع «البغدادي»، صار مقنع الوجه، يحمل السلاح، ويهتف بشعارات التنظيم.
في هذه المعسكرات عاش عبد الله تجربة مخالفة لما كان يسمع عنه، تقول نداء: «حدثنا أنه رأى أمورًا مرعبةً: وضعوهم تحت الأرض، دون أن يصلهم أي ضوء لهم، كان الوقت يعرف عند أمرهم بالصلاة، أما الأخطر من ذلك، فهو ما اقتضته التدريبات، كإشعال النيران بينهم في الغرف الضيقة، أو إطلاق الرصاص في الغرف المجاورة، حتى تصبح قلوبهم جريئة وقوية».
أطفال في مخيم تدريبي لـ(داعش) (المصدر: شبكات التواصل الاجتماعي)
لكن بعد ستة شهور تمكن عبد الله من العودة لأهله، حين نجح في خداع التنظيم أنه مستعد لتلبية طلبه بتفجير نفسه، لقد كان رغم صغر سنه يدرك أن العودة المؤقتة تحت ذريعة وداع الأهل مباحة، أما غيرها فلا، وقد رأي بأم عينيه كيف نفذ التنظيم عمليات اغتيال ضد عناصره الذين رفضوا تنفيذ العمليات الانتحارية.
وبالفعل وصل عبد الله ذويه بعد هذا الغياب، كان مرهقًا للغاية، يريد فقط الاعتذار لأهله وحمايته، وتضيف نداء: «وصل في حالة يرثى لها، لم يكن بكامل قواه العقلية والجسدية»، لم يتوان الأهل عن الوقوف مع طفلهم الذي كبر عامًا جديدًا؛ فكروا في الذهاب إلى التنظيم للسؤال عنه من جديد؛ بغية تضليله بأنه فر، ولم يصلهم، ولتفادي إلحاق الأذى برجال العائلة أصر أهل الطفل على إدعاء فقدانه، ثم استكملوا خطواتهم بتهجيره إلى تركيا لإنقاذه من براثن (داعش).
الخلاص من أيديولجيا «داعش».. هل يمكن تطهير الدماغ من الذكريات؟
الخلاص من (داعش) لم يعن ألبتة الخلاص من فكرهم الذي ترعرع في نفس عبد الله. يعيش الآن الطفل ابن الخامسة عشرة من العمر في تركيا حيث يعمل في مشغل خياطة، وفي خطوة أولى خضع لمراجعة طبيب نفسي، تقول نداء: «ربما كان تأثير داعش على غيره من الأطفال أكبر بكثير، لكن عبد الله سرعان ما تجاوب مع الإصلاح والدعم النفسي وخرج من فكر التنظيم» وتتابع: «خصصنا له طبيبًا نفسيًا، وتمكن الفتى من التجاوب معه، والتغلب على الأفكار التي زرعت في رأسه».
أطفال مجندون في داعش (المصدر: شبكات التواصل الاجتماعي)
وفيما أخذت الاستخبارات الغربية تحذر من الأطفال الذي ترعرعوا في كنف (داعش) وخضعوا في مدارس التنظيم لغسل الدماغ، يرى بعض المختصين في علم النفس أن هؤلاء لن يصبحوا بالضرورة متطرفين؛ لأنهم في الغالب تلقوا أيديولوجية دون استيعاب لها، وهم ضحايا، والمطلوب أن يكبروا في ظروف سليمة، وتوفر لهم أماكن آمنة، ومراقبة لمنع حصول (داعش) على فرصة جديدة لتجنيدهم.
يقول الباحثان في جامعة «كوينزلاند» الإسترالية، همت جيمس موريس، وتريستان دونينج: إنه «يجب النظر إلى برامج إعادة التأهيل على أنها عملية مجتمعية. حتى لو لم يشارك الأطفال مباشرة في أنشطة (داعش)؛ فقد أفسد التنظيم نظرتهم للعالم، ورسخ فيهم فلسفاته للحياة. ربما تكون هذه الفلسفات فعالة، لاسيما في منطقة فيها السخط من التدخل الأجنبي – الغربي – والاستغلال طويل الأمد، ومتعدد الأوجه»، ويضيف الباحثان: «ستساعد هذه الأدوات على مداواة جروح الاحتلال (الداعشي) والعنف الدولي، وتأمين إزالة أثر العنف الدوري. إذ إن فِعل الاستيعاب أيًا كان سيعوق قدرة (داعش) على النهوض من جديد».