في رواية غابرييل غارسيا ماركيز”قصة موت معلن” تتآمر القرية كلها بالصمت على نيّة أخوي أنخيلا قتل سنتياغو نصار، بعد أن اتهمته زوراً يوم عرسها أنه هو من أفقدها عذريتها، بعد أن أثار عريسها فضيحة عدم كونها عذراء.
سانتياغو نصار، الذي زعمت أنخيلا أنه أفقدها عذريتها، أصبح مجرماً ليس في نظر أخويها فحسب، بل بنظر أهل القرية جميعا، لذا يصدر حكماً اجتماعياً بقتله، رغم أننا نعرف كقراء للرواية أنه اتهم زوراً، ولكن ماقيمة ذلك عندما يصدر الحكم دون محاكمة، ودون قضاء، ودون حق المتهم حتى بأن يدافع عن نفسه، ويسرد روايته.
سانتياغو نصار كسر التقاليد الاجتماعية بنظر أهل القرية و “شرف” انخيلا بالنتيجة هو قيم وتقاليد المجتمع التي لا يجوز أن تمس وإلا لاهتزّ استقراره وركوده، لذا استحق سنتياغو الموت بنظر كل أهالي القرية.
كم تذكرت تفاصيل هذه الرواية الرائعة عندما سمعت لأول مرة بقضية نور الشلو. نور الصبية السورية التي ترملت وهي بعمر 19 سنة ولها ثلاثة أولاد (كم كان عمرها عندما تزوجت؟)، وأجبرت بعد وفاة زوجها على العيش في بيت حماها، وأنا أعرف عشرات الأرامل اللاتي مررن بهذا الظرف، حيث يتحولن فيه هن وأطفالهن إلى خدم للعائلة كلها، ويلقى إليهم بما تيسر مما يضن به أهل الزوج من ثياب وطعام ومصروف يومي، يحكمن بقوانين العائلة التي تقيد حركتهن و نشاطهن خوفاً على سمعة العائلة، بل يمنعن أحياناً حتى من الخروج من المنزل وزيارة أهاليهن، لأن الأرملة كما المطلقة هي مطمع لضعاف النفوس، وفي نظر المجتمع أسهل للوقوع في “الخطيئة” من العذراء التي تخاف إقامة علاقة جنسية، وكم اشتكت المطلقات والأرامل من هذه النظرة المجتمعية، التي تكاد تصمهن جميعاً، بالرخص وسهولة المنال، واضطرارهن هن أنفسهن بتقييد حركتهن وتصرفاتهن خوفاً من الوصمة المجتمعية.
نور من القلائل اللاتي رفضن هذا الواقع الظالم، فقررت الثورة عليه وارتكبت “جريمتها” الأولى بنظر المجتمع وخرجت للعمل في مجال العمل المدني بتمكين النساء، وفي المجال الإعلامي. وبالطبع رفض بيت حميها هذا الأمر، وقرروا منعها، فارتكبت “جريمتها” الثانية بالخروج من بيتهم مع أولادها الثلاثة، والسكن ببيت مستقل.
وتخيلوا في هذا المجتمع الضيق امرأة في العشرينات من عمرها، إذ لا يتجاوز عمر نور اليوم 28 سنة، أرملة، تسكن وحدها، تخرج للعمل، تحمل كاميرتها وتصور متنقلة من مكان لآخر، وأهل زوجها المتوفى يشتعلون غضباً، ويتهيأون للانقضاض عليها، بل قيل لي أن أهلها نفسهم لم يكونوا راضين عن وضعها، ولكن لم يكن بوسعهم الضغط عليها وثنيها عن قراراتها.
بدأت الأمور تتعقد حين أحس والد زوجها المتوفى أن الموضوع لم يعد يقتصر على خروج نور عن التقاليد الاجتماعية، فابنتاها ستقتربان من مرحلة النضج، وهما في في العرف الاجتماعي والقانوني “ملك” لأهل الزوج، فالأطفال في الأعراف الاجتماعية ليسوا أشخاصاً مستقلين، بل هم بضاعة يملكها الأب وفي حال غيابه العصبة من ذكور عائلته، وأي غبار يلحق بسمعتهن سيطال العائلة، لذا كان قرار العائلة بانتزاع حضانة البنتين من نور، وهذا ما تم، ولم يكن بيد نور سوى اللجوء إلى قضاء هزيل، يحكم بقانون لاأحد يعرف ما هو، فرضته سلطة أمر واقع، فأي عدالة وأي محكمة وأي قانون.
رغم ذلك لم يكن بيد نور إلا أن ترفع دعوى للاحتفاظ بحضانة طفلتيها، وخاضت المعركة وحيدة أمام مجتمع غير متعاطف، أمام عائلة قوية نافذة لها علاقات متينة مع سلطة الأمر الواقع، هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة)، المتشددة تجاه النساء، غير الراضية أصلاً عن خروج النساء من البيوت وعملهن خاصة في المجال المدني والإعلامي. كانت قضية نور خاسرة منذ البداية!
رغم ذلك كافحت نور حتى النهاية، وفي لحظة غضب قالت لصديقة “وفية” هاتفياً بأنها تتمنى أن تفجر عمها والد زوجها، ومن المنطقي أن يكون مثل هذا القول شائع في جو الحرب والفوضى الذي تعيشه المنطقة، فتم تسجيل كلامها، وكان “الدليل” الذي انتظره أهل الزوج، والحقيقة أنهم لم يكونوا بحاجة لدليل، فتمّ اعتقال نور من أمام المحمة التي ذهبت إليها لتدافع عن حقها، فسلبت أمامها كل حقوقها منها.
تم اعتقال نور في 9 أيلول، وأخفت جبهة النصرة مكان اعتقالها ومصيرها، إلا أنه تسرب حوالي منتصف شهر تشرين الثاني الحالي خبر اعتقالها واختفائها قسرياً، ونية جبهة النصرة الحكم عليها بالإعدام وتنفيذه يوم الجمعة 20 تشرين الثاني.
وهنا يتبادر السؤال إلى أذهاننا، أين كان زملاء نور في المجتمع المدني وزملاؤها من الإعلاميين طوال فترة اعتقالها، لماذا لم ينبس أحدهم ببنت شفة؟ لماذا تآمروا جميعا بالصمت؟ هل يعيدنا ذلك إلى رواية ماركيز؟؟؟
الغريب في الأمر أن جبهة النصرة احتارت في التهمة التي ستوجهها لنور، بناء على جملة قيلت في لحظة غضب، فتوالت الاتهامات عليها:
التخابر مع التحالف الدولي وارشادهم إلى مواقع جبهة النصرة، التي تصورها بالكاميرا الهزيلة التي تحملها، على أساس أن التحالف الدولي سيعتمد على صور كاميرا نور، وليس على أقماره الصناعية التي تكشف المنطقة بدقائها وتفاصيلها.
ـ التخابر مع النظام.
ـ التخابر مع قسد.
ـ الانتماء إلى مجموعة إرهابية تضع قنابل تحت السيارات وتفجر أصحابها.
طبعاً، هنا انبرت بعض النسويات السوريات الموجودات في الخارج للدفاع عن نور، وصدر بيان منهن يطالب بحماية نور والكشف عن مصيرها والإفراج عنها، وناشدن فيه كل الجهات الدولية والمعنية بتحمل مسؤولياتها في حماية نور. صمتت المعارضة، وصمت المثقفون السوريون، حتى الموجودون في الخارج، بل حتى الكثير من المنظمات النسوية والحقوقية السورية، فهم مشغولون بقضايا أهم.
فالمعارضة تعد دستوراً وانتخابات لدولة وهمية، ستحصل عليها في مفاوضات وهمية، هي ليست سوريا التي نحلم بها دولة حرة ديمقراطية، بل شيء ما يدعهم يبقون في مناصبهم الوهمية، وفي رخاء استضافاتهم من قبل جهات تبيعهم أوهاماً، هذا في حال افتراضنا حسن النوايا. والكثير من المنظمات والناشطين المدنيين مشغولون بالظهور في الإعلام، أو نيل جوائز أغلبها من جهات لا تستأهل حتى البصاق عليها. وكأن حياة امرأة لا تستأهل أن يضيعوا من أجلها دقائق من وقتهم الثمين، أم أنهم ضمنياً ينتمون وإن لم يصرحوا إلى المجتمع الشبيه بقرية سانتياغو نصار، ويؤثرون الصمت؟ ولولا بعض الأصوات الخجولة التي كتبت، وبعض الأصوات الشجاعة التي وقعت على البيان لفقدت ثقتي وايماني بكل الإنسانية المتبقية على هذا الكوكب.
ربما شعرت جبهة النصرة بشيء من الضغط وحراجة الموقف، فتسرب عنها أن التهم التي وجهت لنور لا علاقة لها بالتخابر، بل هي قضايا “جنائية” و”أخلاقية”، وما أسهل تلفيق مثل هذه التهم لناشطة مدنية وإعلامية، ضربت بعرض الحائط تقاليد المجتمع، واستقلت بحياتها مع أولادها؟ قيل أن التهمة الثابتة عليها هي أنها سربت صورة فتاة إلى شاب، وهذا في حال كون الأمور عقلانية ومنطقية يصنف في باب تصرف غير لائق، أو خطأ يحاسب المرء عليه، أما أن يتحول لجريمة حكمها الإعدام؟؟؟ ياللهول.
حتى النوادر الذين قرروا وتجرأوا أن يدافعوا عنها في الداخل، انسحبوا إما خوفاً أو تم تهديدهم، لا ندري، ولكن ما علمناه أن هنالك محاميان انسحبا من الدفاع عنها نظراً “لتعقيد” القضية، ومن تمكن من الاطلاع على وضعها لم يكن متعاطفاً أصلاً وحكى عن قضايا “أخلاقية” ارتكبتها نور، لايمكن الحديث عنها.
شيء لا يصدق، نحن في القرن الحادي والعشرين، أمام نظر وسمع العالم كله، تعتقل امرأة، وتختفي، ولا يعلم مصيرها، ونصرخ وننادي ونناشد، ولا أحد معني.
بالنتيجة، ربما هي مجرد امرأة!!!!!!
*موقع مساواة