حسام الدين الفرّا ، شاعر وكاتب سوري
أوراق 19- 20
نصوص
لِبدة الأسد
لم يُطلْ صديقي لحيته يوماً، ولم يكن من أصحاب السكسوكة، أو العُثنون، أو الشاربين، يحلق ذقنه وشاربه كل يومين، منذ أن كان شاباً.
بعد أن سيطر على المدينة التنظيم المتشدد، أمر بإطالة اللحى، وعدم الحلاقة، لذلك كان صديقي عند حلاقة ذقنه، يُضطرّ للمكوث في البيت، حتى لا يُحاسب على ذلك.
يقول صديقي: لم يعد أحد يستخدم شفرات الحلاقة، وولّى عهد (ناسيت) و(جليت) الذهبي، وبالتأكيد خسرت شركات الحلاقة، وخسر الحلّاقون، وعانَوا من التضييق في عملهم.
في أحد الأيام حلقتُ، ولم أخرج إلى السوق، لكنْ خرجتُ إلى باب البيت الخارجي، لأتفاجأ بسيارة (دبل كبين) فيها بعض العناصر، ناداني أحدهم لأقترب من السيارة، ليقول لي:
ألَا تعلم بأن حلاقة الذقن ممنوعة، وأن إطالتها من السُّنة الشريفة؟
كانت لهجته تشير إلى أنه من دول المغرب العربي.
قلت له: أمرك شيخي.
قال: لا تحلقها بعد الآن، ومضى.
يتابع صديقي: كأن هذا العنصر المتشدد أصبح يتعمّد المرور في شارعنا، لأنه بعد بضعة أيام، وأنا واقف أمام البيت، ناداني وبنبرة صوت فيها تقريع قال: ألمْ أنبهكَ حول اللحية، وعدم الحلاقة؟
وتابع ما رأيك الآن أن آخذك إلى الحسبة؟
وسألني: أتعرف ماذا يصير الأسد، إذا حُلق شَعرُه ولِبْدتُه؟
قلت له، وأنا أكتم ضحكةً مجلجلةً، بسبب الخوف: يصبح حينها لبوةً.
قال: هذه آخر مرة أراك حليق الذقن.
وفعلاً كانت آخر مرة، فبعد كلامه بأيام غادرتُ تهريباً المدينة، تحت جنح الليل، إلى مكان آخر.
ملوخية وحشيش
تفاجأ سكان الحي الذي يقيم فيه صديقي، بتطويق الحي من قبلِ عناصر ملتحين، وسيارات وعربات الدوشكا، وقيامهم بتفتيش بعض الشقق والبيوت، ليعودوا بعد ذلك من حيث أتَوا.
سألت صديقي عن السبب فقال:
اشتبهوا ببيتٍ فيه مخدرات، وكان السبب في ذلك أن أحد الجيران، يطبخ ملوخية، ويبدو أنه نسيَ الملوخية على الغاز، لتحترق، وتنتشر رائحتها التي تشبه رائحة المخدرات، كما قيل.
واضح بأن هؤلاء الذين يلبسون الزِّي الأفغاني، لديهم خبرة كالأفغان، في الحشيش والمخدرات.
تصوّرْ صديقي أن الأفغان كانوا يحملون حشيشهم إلى أي مكان يذهبون إليه.
حتى إنّ الفندق الذي استضاف مؤتمراً لقادة الفصائل الأفغانية، ذات يوم برعاية إحدى الدول الخليجية، اشتكى صاحبه وعماله، من روائح التحشيش والمخدرات التي تنبعث من غرف هؤلاء القادة.
ثورة أم ثروة؟!
قبل الثورة كان صديقي يراه على شاشة التلفزيون، وقد ذهب شَعره، وبقيتْ بضعُ شعيراتٍ، يبرع في توزيعها، لكيلا يبدو أصلعَ تماماً.
ينظر من خلال نظارته السميكة العدسات، ويتكلم كأكاديمي ومُناهض للنظام، يجذب المشاهد بجرأته، وكلامه الثوري الجميل.
بُعيدَ الثورة تفاجأ صديقي به، وبسحنته الجديدة(النيو)، فلم يعدْ يرتدي نظارته السميكة، ولم يعدْ أصلعَ، فقد أصبح أغزر شَعراً (بفتح الشين) من القرد.
يقول صديقي كأن طاقة القدر فُتحتْ له، ويبدو أنه أخذ نصيبه من ملايين الدولارات التي وصلتْ لدعم الثورة، وآلتْ بقدرة قادر إلى بعض الأفواه والبطون.
كأن الثورة قامت ليزرع هذا شَعراً وأسناناً، وليُصحح بصره، ويُبقي على عمى البصيرة.
يتابع صديقي: هذا ما يظهر من تغيير على شاشة التلفزيون لصاحبنا، وما خفي أعظم، فمَن يدري فقد يكون عِنّيناً، وقام بتركيب وصيانة أعضاء أُخرى؟!
عاشق البالة
تعجّبَ صديقي لرؤية أحد جيرانه، في أسواق الألبسة المستعملة (البالة) باستمرار، وكان كلَّ مرّةٍ يقول لصديقي: في (البالة) تجد ألبسةً أفضلَ من محلات الألبسة الجديدة، وغالباً ما تكون ماركات عالمية، إضافة إلى أسعارها الرخيصة جداً، لضيق ذات اليد التي ازدادت ضيقاً بعد الثورة.
رآه صديقي ذات يومٍ يتفحّص الملابس بدقة، ويضع يده في جيوبها، ويبحث عن شيءٍ ما داخلها، وعندما خرج من المحل لم يشترِ شيئاً، لذلك سأله، وعرف قصته مع (البالة).
يقول صديقي: جاري لا يريد الملابس، بل يريد ما فيها من هدايا، قطعتِ البحار والمحيطات لتسعده، لأنه وجد مئة يورو في إحدى السُّترات التي اشتراها، وبعدها دأب على الدوام في محلات البالة، لعله يجد فيها بضعة يوروهات، أو دولارات تسدّ الرمق.
مقاطعة
ماذا أفعل لأقاطع أمريكا؟
هل أقلع صمام قلبي الأمريكي الصنع الذي وُضعَ لي ذات يوم، وأرميه أمامكم لكي أكون وطنياً مثلكم؟
قال هذا الكلام أحدهم لصديقي، في تسعينيات القرن الماضي، عندما سرتِ الدعوات لمقاطعة أمريكا وبضائعها، بدعم من أولي الأمر الذين يكدّسون أموالهم، في البنوك الأمريكية والغربية، والذين أعطَوا الإذن بالتظاهر (العفوي) أمام السفارة الأمريكية، وعندما هبّ الناس، واعتلى ثلة من الشباب مبنى السفارة، لُوحقوا من قبل رجال أمن أولي الأمر، لزيادة حماسهم.
يبدو أن منسوب الهبّة والحماس ارتفع عندهم قليلاً، لذا وجبَ اعتقالهم لا لشيء، إنما لخفض منسوب الحماس والهبّة العفوية.