مها حسن: لبنى قنواتي: “لقد سقطتُ مع الغوطة”… عن الكثير من حكايات النساء التي لم تُروَ بعد

0


 مها حسن
السبت 2 يوليو 202204:14 م

ثمانية عشر عاماً تفصل بين منفَينا، منفى “لبنى قنواتي” التي وصلت إلى فرنسا قبل عدة أشهر، ومنفاي، أنا كاتبة هذه السطور. 

سوريا جديدة ومختلفة عليّ، تلك التي تتحرك مع لبنى، والتي تتقاطع حكايتها الشخصية مع حكاية البلد، خاصة في السنوات العشر الأخيرة.
 سوريا التي أراها امرأة، ثارت ضد جميع قوى الاستبداد، ابتداءً بالنظام، مروراً بالفصائل المتطرفة، وصولاً إلى العالم الذكوري المتمثل حتى في الأصدقاء وزملاء النضال الذين ” لا يأخذوننا على محمل الجد”، كما تقول لبنى.
التقيت لبنى قنواتي، وكانت لنا هذه الجلسة المليئة بالحيوية والرغبة في المتابعة والعمل.

“ليس هناك مكان لليأس أو الحزن أو الانسحاب، أنا قادرة على المساهمة بفعل التغيير”، تقول قنواتي، متمسكة بدورها في صناعة المشهد الحالي، والقادم.

خروج تلقائي: حين قامت الثورة 

كانت لبنى شابة تعمل كمصممة ديزاين على الأقمشة، في محل للرسم خاص بها في حرستا، حين بدأت الثورة.
تلتمع عينا لبنى وهي تحدثني بفرح ونشوة، متذكرة تلك البدايات، إذ ثمة تضامن عام بين الأهالي، للخروج ضد نظام الأسد.
لم تبدأ لبنى بالتظاهرات المباشرة، خوفاً من التعرّف عليها في المنطقة، بل عبر مشاركتها بتشييع الشهداء الذي كان يتحول إلى مظاهرة ضد النظام.
وحين بدأت سلسلة اعتقالات أصحابها المقربين، واقترب منها خطر الاعتقال، وطلبت منها صديقات مقربات المغادرة إلى مصر، اضطرت إلى ترك البلد.
لكنها لم تحتمل البقاء في مصر لأكثر من أربعين يوماً، حين عرفت باستشهاد صديق لها، وشعرت أن مكانها هو هناك في سوريا، فعادت إلى لبنان، ثم قطعت الحدود اللبنانية السورية بمساعدة مقربين من الحراك الثوري، ووجدت نفسها مجدداً في دمشق، وبعدها في حرستا التي غادرها أكثر من تعرفهم من قبل، وخاصة عائلتها التي فقدت بيتها فيما بعد. 

من النشاط الإغاثي إلى حكايات النساء 

تعتبر لبنى هذه المرحلة بمثابة مرحلة النشوة. 

أتخيلها وهي تروي لي وابتسامتها تشرق على وجهها، كبطلة في فيلم ربما نراه ذات يوم، أو نرى ما يشبهه، عن ذلك الحراك الجمعي المدني التلقائي، الذي يحمل الكثير من الحب والشغف لمساعدة الجرحى والمصابين، لتقوم بالتحرك بين التجار، لجمع المال وتحويله للمنكوبين الذين تدمرت بيوتهم وفرّوا دون مأوى، ولمساعدة المشافي الميدانية. كانت تجمع الأدوية والمواد الطبية وأكياس الدم لتنقلها من مكان لآخر.

تفتّح وعيها النسوي هنا لدى احتكاكها بعالم النساء الجريحات، وسماعها لقصص لم تكن تتخيل وجودها، هي التي لم تكن تمتلك أية خبرة في التمريض، لكن نقص الإمكانيات جعلها تقدم على هذا العمل… تضميد الجروح وحقن الإبر.

تسألها إحدى السيدات التي أُجريت لها عملية قيصرية، بخجل وارتباك، عن الوقت الذي يمكنها فيه “تلبية حاجات زوجها “الذي صار يغضب لأنه لا يستطيع الاقتراب منها.

 لبنى التي نشأت في بيئة منفتحة تعتبر حق المرأة في الراحة في هذه الحالات أمراً بديهياً.

 تتالت عليها قصص النساء المعنفات، فراحت تفكر في طريقة لمساعدتهن.
“أبو مرشد”، أحد قادة الحراك الثوري السلمي في المدينة، والذي استشهد لاحقاً في غارة للطيران، أثناء هرعه لإسعاف الجرحى، نقل للناشطة رزان زيتونة آنذاك – المغيبة قسرياً منذ عام 2013 –  حلم لبنى في تأسيس مقر للنساء لتمكينهن من الاستقلال الاقتصادي، عبر دورات يتعلمن فيها مهارات محددة، في تلك الظروف المعقدة.

وتحقق الحلم، حين تبنت منظمة “النساء الآن للتنمية” المشروع، وراحت الشابة تبحث عن مقر، فعثرت على قبو مجاور لمبنى متهدم، حوّلته إلى مكان يحتضن عشرات النساء، بادئة من دورات مهنية لتعلم الخياطة والحياكة، ليصبح فيما بعد، بمثابة حاضنة تمكّن الكثيرات تحت الحرب والحصار، لتبدأن نشاطهن المهني والتعليمي. 

في هذا الاحتكاك اليومي مع النساء، بدأت هوية لبنى النسوية تتشكّل، تقول لي: 
” لم أُخلق نسوية، لكنني كنت على اطلاع دائم على حياة النساء”، ثم تضيف: “لدي نقاشاتي الطويلة مع ذاتي حول تعريف النسوية، التي أراها نضالاً واسعاً يشمل الكثير من الفئات المهمشة في المجتمع، وليس فقط النضال من أجل النساء”. وتتحدث عن نسوية اختارتها، إذ أن هناك الكثير من الأفكار والمدارس حول النسوية: “النسوية التي أريدها هي تلك التي تمثل الحقيقة التي أعرفها، أي تشبه الناس وتلبي احتياجاتهم/هن برفع الظلم وتحقيق العدالة الاجتماعية”.

الحصار: “لقد سقطتُ مع الغوطة”

تقول لبنى إنها بدأت تعرّف نفسها كنسوية، بعد سقوط الغوطة، “حين تهجرت النساء اللواتي كنت أشعر أنني مرتبطة بهن  بشكل أساسي”.

 تحدثني عن “بنات الغوطة” اللواتي تعرضن للتهجير القسري ولمستويات جديدة من الظلم الذي امتد ولحق بهن أينما ارتحلن، في ريف حلب، في إدلب، وصولاً إلى اللواتي غادرن إلى تركيا، واللواتي بقين في الغوطة.

” لما تهجروا أنا سقطت معهن” تقول بالعامية، وتضيف “هذا فريقي! كنت مسؤولة عنه، هذه تجربة شنيعة، لقد انشلعن من بيوتهن”.

تتحدث لبنى عن السلطات القمعية ضد النساء، حتى داخل الجزء الثائر ضد النظام، لأن هذه السلطات لا تحب أي صوت مخالف: “يضاف أنه أنا كامرأة أعمل من أجل حقوق النساء، وهذه المطالبات من قبل متهمة بأنها تفسد المجتمع وتقوم بتخريب بنية الأسرة”.

لهذا وجدت لبنى نفسها في خصومة مع هذه السلطات، التي هددتها بالاغتيال، واضطرت إلى المغادرة إلى تركيا.

في تركيا: ضرورة التحدث عن تجارب النساء في الحصار 

” حين وصلت إلى تركيا شعرت بالصدمة”، تصف لبنى مشاعرها الأولى وهي تنتقل من حياتها في الغوطة، حيث تعيش في “الردم” وبقايا البنايات المهدمة، عالم دون ألوان، لترى نفسها محاطة بالعمران والأضواء والألوان في غازي عنتاب التي وصلت إليها. 
كانت تنظر إلى الناس “الملونين”، كما تقول، وتندهش من توفر الطعام، بعد أن تركت الغوطة غارقة في الجوع.
هذا الفرق بين العالمين، جعلها تشعر بحدة الظلم، وبأنها يجب أن تتحدث عما يحصل هناك.

تشرح لبنى هذا الفرق الحاد بين الحياتين، الأمر الذي لا يمكن فهمه حين يكون أحدنا في الحصار: “سنتين في الغوطة، حالة موت يومية، كل ما تحاول أن تفعله، محاولة النجاة “، وتستطرد بوصف كل ما ينقص هناك: “ما في كهرباء، ما في ماء، ما في فوط نسائية، ما في كريمات، ما في تدفئة، ما في مواد تنظيف، ما في توم، ما في بصل، ما في شيء، عايشين بمكان مثل المرمي في الصحراء.. ما في ألوان، ما في ملابس، ما في جرابات…”.

تقول إنهم كانوا يرتدون الملابس التي يجدونها في البيوت التي تركها أصحابها.

الهم الوحيد الذي كان مسيطراً عليهم في الغوطة، هو النجاة. لكن بخروجها إلى تركيا، انتبهت إلى ما كانت تحياه النساء هناك، وهنا تنبّهت لبنى لمفهوم النسوية الخاص بها والمشتق من تجربتها: “هنا شعرت بمعنى النسوية. ليس المهم أنني غادرت، المهم أن قضيتي لم تغادر معي، فأنا خرجت مكرهة، ولكن تشكل لدي حسّ اجتماعي لم أستطع مغادرته، هو واجبي وقدرتي على العمل مع النساء”.

تخصّ لبنى نضالها مع النساء لأنها منهن، وترغب أن تحكي عما عاشته هي وعما عاشته أولئك النساء، إذ لا يزال هناك الكثير من المرويات التي لم تسرد بعد.

لكن الأمور ساءت أيضاً في تركيا، تقول إن وضع حقوق النساء في تركيا سيىء، وأن هناك تياراً قمعياً للسوريين، إذا لم يسيروا على مزاج الحكومة التركية، كما أنها خشيت من الترحيل إلى سوريا، حيث النظام من جهة، وسلطات الأمر الواقع من جهة، وهي هدف لكل هؤلاء، خاصة أن معها ابنها الوحيد وزوجها اللذين لا يحملان أوراقاً في تركيا.

في فرنسا: العزلة اجتماعية مع استمرار العمل اليومي من أجل السوريات 

لا تعتبر قنواتي تجربتها القصيرة في فرنسا، كافية للحكم على الحياة الفرنسية، فهي هنا منذ تسعة شهور فقط، غيّرت خلالها أربع مدن، لكنها تشعر أنها في عزلة اجتماعية، لأن طبيعة المجتمع الفرنسي مختلفة.
في تركيا ثمة كثافة للسوريين، بحيث أن أحدنا لا يشعر أنه غادر سوريا، لكن الأمر في فرنسا مختلف.

إلاّ أن النقطة المهمة والفعالة في حياة لبنى، رغم المنفى والمسافات الطويلة التي تفصلها عن النساء هناك، هي عملها مع منظمة “النساء الآن للتنمية”، إذ إن استغراقها في العمل يشعرها أنها لا تزال على اتصال بأولئك النسوة، وأنها أيضاً قادرة على الاستمرار في الحياة : “حتى اليوم، حتى اللحظة، تستمر النساء في الوجود في مراكزنا التعليمية المنتشرة هناك، رغم كل الظروف السيئة من قصف وقمع”.

تصف لبنى نفسها بأنها “ضيفة” على المجتمع الفرنسي، وأن وجودها مؤقت، لأنها تحلم بالعودة، في حال تحقق الأمن، ومحاسبة المنتهكين لكرامة السوريين والسوريات، وأولهم نظام الأسد.

“مكاني هو في سوريا” تختم لبنى كلامها، “الذين مثلي، حاملو قضايا محددة، مكانهم هناك، بين الناس، وأنا أعمل، حتى يتحقق ذلك المكان، وأرجع إلى هناك”.

من الضروري معرفة أن لبنى قنواتي كانت قد شاركت في فيلم “سوريا، نساء في الحرب” الذي عرضته القناة الخامسة في فرنسا، وهو من إخراج كمال رضواني، وكذلك شاركت في شهادة في كتاب “تسع عشرة امرأة – سوريّات يروين” للروائية السورية سمر يزبك.

تكمل منظمة ” النساء الآن للتنمية” السنة العاشرة لتأسيها وقد أطلقت في هذه المناسبة فيلماً من إخراج غيفارا نمر، شاركت فيه لبنى قنواتي مع العديد من النساء الداعمات والمشاركات ضمن عمل المنظمة، ليتحدثن عن تطلعاتهن لمستقبل النساء السوريات، وليتذكرن كل من فقدن في هذا الطريق الطويل.

(رصيف 22)