مها حسن: كيف يمكننا إنقاذ الثقافة العربية من الهبوط لحضيض جديد؟

0

بين النقد والسجال
بتتبع المشهد الثقافي العربي الراهن، يمكن ملاحظة كثير من الأزمات والإشكاليات التي لا تزال تعاني منها الثقافة العربية. ومع حماس بعض من المشتغلين في هذا المشهد، لاتخاذ مواقف نقدية، هدفها الأسمى، كما يُفترض، هو تطوير الثقافة، عبر تخليصها من هناتها، فإن هذا النقد يتحول أحيانًا إلى ما يشبه التزمت والتشبث بالرأي، فتتحول الحالة المنقودة إلى خلاف شخصي، ويتحول الناقد إلى ناقم.
في حوار مطول مع روائية صديقة، تعتقد بضرورة إدلاء أحدنا، أو إحدانا، بوصفنا كتابًا متواجدين في المشهد الثقافي، برأينا في ما يحدث من سجال دائر حول قضية تتعلق بالكتابة، وتقول لي: إذا صمت الجميع وتركنا ما يحدث من دون تدخل، أين سنصل؟ قلتُ لها إن هذه وظيفة النقد، أن يقول الناقد رأيه، ثم يتابع اشتغالاته، بمعنى أن لا يتحول رأيه إلى معركة يجب إثبات صحة رأيه فيها، وتسجيل نقاط انتصار على الخصم، لأن هذا يعني انزلاق النقد عن مكانه، وتحوّله إلى ملعب للشجار والحسابات الخاصة، باسم الكتابة النقدية، أو الاختلاف في الرأي.
في اعتقادي أن موقع الكاتب هو كتابته، وليس التربص بكتابة غيره، إذ أن هذا التربص والملاحقة لكتابات الآخرين، وإثبات الخلل فيها، هو عمل بحثي طويل الأمد، يجب أن يتمتع بالهدوء والرصانة، بغرض الخروج بمعلومات وقواعد تفيد الكتابة، وليس مجرد مهاترات مؤقتة، يتم فيها تبادل الشتائم والعنف اللفظي، لإثبات حق أحد الطرفين، في قضية مختلف عليها ثقافيًا.
يتحول الموضوع هنا إلى شجار ومضيعة للوقت، وينزلق الكاتب/ الناقد، من موقع المهتم بدقة المشهد وتصويبه إلى لاعب غاضب في ساحات اللعب.


تعليق أفسد علاقتي بصديق
رغم محاولتي عدم الدخول في ما أسميه سجالًا بين عدة أطراف قامت بالاصطفاف العاطفي أكثر منه موقفًا فكريًا، أو إبداعيًا، إلا أنني في الوقت نفسه صديقة لعدد كبير من المشتغلين في الوسط الثقافي، بل وصديقة مشتركة في حالات عديدة، لأصدقاء تفصلهم خصومة، أحافظ، ويحافظون، على الصداقة من دون انحراف، ومحاولة حصري في حالة خصومة ضد طرف ما..

لكنني ككاتبة داخل هذا المشهد، وأعيش مشاكله، يحدث لي أن أقول رأيي في ظاهرة، إذا لم تكن تتعلق بذكر أسماء تضعني في خانة الخصومة. وهذا ما جرى، حين كتب صديق روائي مصري على صفحته في فيسبوك حول اطلاعه على مقال منشور كتبه شخص ما، ونشره شخص آخر باسمه.. وقلت رأيي بحيادية، في الظاهرة ذاتها، مستغربة من وجود هكذا تزوير أدبي.
فوجئت في اليوم التالي، عبر تعليقات لاحقة لما أدليت به، بأن المعلقين، والصديق ذاته، أي الروائي المصري، لمّحوا إلى اسمي الشخصين المشار إليهما، في حالة المقال المزوّر، وبأن أحدهما قام بـ”معاقبتي” في صفحته، وهو يكتب ضدي، بينما غضب مني الصديق الآخر، وعاتبتي بقسوة على تعليقي المحايد، بل والبارد، في صفحة الروائي الخصم.
كل هذا بسبب رأي مارسته بموضوعية، من دون انحياز لطرف، فقط لأنني كاتبة يحق لي الاعتراض على ظاهرة تزوير المقالات، ولكنني لم أنشئ محكمة، لأتأكد من صحة الحكاية المنسوبة للطرفين، أنا قلت رأيي في الظاهرة، قبل أن أطلع على كشف الأسماء.
ولكننا هنا أمام مشهد محتشد بالعنف والـ”فزعة”، إما أن تقف صراحة مع طرف ما، وتتحول إلى عدو لغيره، أو أنك عدو صامت حتى، كما كتب أحد الأصدقاء النقاد، حين وسم المتفرجين على ” الخناقة” بالأعداء الصامتين.
وهنا تكمن كارثة المشهد الثقافي العربي، إذ بدلًا من أن يدافع الكتاب العرب عن حرية التعبير، يسيء بعضهم إلى هذه الحرية عبر الاصطفاف الشخصي، وقد صدمني كاتب معروف، وأنا أراه يصنف أعداءه المثقفين، بمجرد أن أدلوا بآرائهم في قضية اختلفوا فيها معه بالرأي، واعتبرهم منحازين وأصدقاء للطرف الآخر.. أي أن الرأي الشخصي غير معترف به، والرأي غالبًا هو ليس قناعة فكرية، إنما موقف مع طرف، أو ضد طرف.


حق المثقف النأي بالنفس والوقوف على الحياد

اعتدت في حياتي الفرنسية، التي أسستُ عبرها كثير من مفاهيمي النقدية، ومواقفي السياسية والفكرية، على المجاهرة بالاختلاف، والاحتفاظ بالصداقة مع المختلَف معه، لأن الخلاف في الرأي، لا يفسد للود قضية.. هذا الشعار الذي نردده كالببغاوات، ويبدو أننا لا نتبناه في العمق.
حين مارست هذا الاختلاف، بمودة حقيقية مع صديق كاتب عربي، فوجئت بإعلانه الخصومة، بل وراح يتتبع كل ما أقوم به، ليضعه في موضع الشتم والسجال، ويحرض على كراهيتي من قبل أشخاص يستمتعون بهذه الممارسات، حيث أيضًا هناك كراهية مبطّنة للمثقف العربي من خلال المسيرة التاريخية الخاطئة والعلاقة غير الشفافة بين المثقف والسلطة من جهة، وبين المثقف والجمهور من جهة أخرى، وهذا موضوع يحتاج إلى معالجة خاصة، لتفهّم الجاهزية التلقائية من “الجمهور الغاضب” ضد المثقف، من دون الدخول في تفاصيل الموقف، حين يوضع هذا المثقف في خانة الاتهام، ومثال الهجوم على “أدونيس” مثلًا يعطي دلالات واسعة، حول شريحة تنتقده، من دون أن تكون على اطلاع بتفاصيل القصة المثارة حوله، فقط لأن هناك تجييشًا تلقائيًا يسعى لتحطيم صورة المثقف، كنوع من الانتقام التاريخي.
وحتى لا يُفهم أنني أدافع عن أدونيس، وفق التحليل التقليدي الذي قد يتورط به القارئ عن حسن نية، فأنا أعد نفسي من أوائل من انتقد مواقف أدونيس من الثورة السورية، لكنني أكنّ له الاحترام، وأختلف معه في المواقف.

لكن المساحة الصغيرة المُتاحة للكاتب العربي للإدلاء بموقفه الفكري، من دون أن يقصد “الاصطفاف”، وتسييس كثير من الآراء الفكرية والنقدية، وكأننا نعيش في إحدى روايات جورج أورويل، مع فارق أن الرقيب، أو الـ”بيغ براذر” ليس السلطة هنا، بل المثقف ذاته، الذي يتربص بزميله المثقف، ليسجل عليه موقفًا ويضعه في خانة الاتهام، وهذه كارثة ثقافية نحياها اليوم، نحن المثقفين العرب، الذين لم نعد نجرؤ على الإدلاء بآرائنا، حتى لا يفهم الأمر على أنه مشاركة في المعركة والاقتتال الذي يبدو أنه ثقافي، بينما هو في العمق بمثابة تخليص حسابات وديون مستحقة متراكمة.


الخصومات الثقافية بين الماضي والآن
من دون شك، لا يخلو المشهد الثقافي عمومًا من اختلافات بين الكتاب، تحضرني في مثال سريع علاقة سارتر بكامو، التي كانت مشوبة بحساسيات شخصية، لكنها اتسمت دائمًا بالأناقة.. وهناك أمثلة عديدة في العالم العربي لخصومات فكرية بين كتّاب كبار، لكن بوجود وسائل التواصل الحديثة، وسرعة انتشار الخصومات، واتساع دوائرها لتشمل أي شخص حاول أن يدلي برأيه في القصة المتخاصم بها، فإن هذا الرأي يأخذ مسارًا شخصيًا، ويخلق دوائر كبيرة من الكراهية والنبذ.
تحول النقد اليوم إلى تصفية حسابات وتربّص بالكاتب، وهذا ما ينتج بيئة غير مشجعة على الإبداع والابتكار، ضمن حملات الترهيب والتخوين والتهم الجاهزة، التي يمكن إلصاقها بأي مبدع، لأسباب خاصة لا تتعلق بالنص، إنما بصاحبه.
هذه البيئة الخصبة لخلق الكراهية والنبذ لا تخدم الإبداع، بل على العكس تمامًا تساهم في تقليص الساحة الجادة للعمل والحرية، وتخنق المبدعين، وتضيف إشكاليات جديدة على أداء المثقف، الذي يواجه كثيرًا من العقبات، من خلال ممارسته لفعل الحرية في أثناء التفكير والكتابة، فيتعرض لقمع سياسي واضطهاد ونبذ قد يصل إلى الاعتقال، أو الاغتيال، بسبب أفكاره، وكذلك يتعرض لرفض جماهيري أحيانًا، حين يقوم بدور تنويري غير مسبوق.. فتأتي هنا هذه الإشكاليات بمثابة الشعرة التي قد تقصم ظهر المثقف، حين يرى المشهد حوله مليئًا بالبشاعة والسوداوية والضحالة المعرفية والنقدية والإبداعية، فهل يتنبّه المثقف العربي لخطورة أدائه السلبي المؤثر على جيله، وربما المؤذي للجيل التالي!

*ضفة ثالثة