مها حسن: كيف يقرأنا الغرب

0

لم يمض شهر بعد على صدور روايتي الأولى باللغة الفرنسية، ولكنني مزدحمة بالأحداث واللقاءات، والمقارنات.

لماذا تحظى روايتي بهذا الإقبال لدى الجمهور الغربي، ولماذا يقرأنا الغرب؟

تسيطر عليّ الكثير من الأسئلة، وأنا أتنقل من مدينة لأخرى، لألتقي بجهور جديد علي، وأنا جديدة عليه، يسمع بي للمرة الأولى، أتعلم منه، في كل لقاء، درسًا جديدًا.

الدرس الأول الذي لفت انتباهي، ولا يزال يتكرر، هو الحضور الطاغي للنساء في هذه اللقاءات.

أولا: النساء يقرأن كثيرًا

منذ الأسبوع الأول لصدور الكتاب، وفي اللقاء الخامس خلال أسبوع، منذ حفل إطلاق الكتاب في مقر الدار، وأنا ألاحظ أن أغلب الحضور هو من النساء. إما أن النساء هن الشريحة الأكثر قراءة في فرنسا، أو أن عنوان الرواية (نساء من حلب) يجذب النساء، أو أن تكون صاحبة الكتاب امرأة هو السبب… أو جميع هذه الأسباب.

لم تكد تسمع ماري فرانس، رئيسة جمعية نسوية في مرسيليا بصدور الكتاب، عبر صديق لها، حتى طلبت منه أن تتواصل معي لتدعوني إلى تقديم روايتي في مكتبة مهمة بالنسبة لي تحمل اسم بوريس فيان.

بفضل كتابي، ذهبت إلى الجنوب الفرنسي الدافئ والمشمس، والذي لم تتح لي من قبل فرصة الذهاب إليه، لعدم توفر المناسبة والظروف، خلال أكثر من ثمانية عشر عامًا من إقامتي في فرنسا.

في مدينة صغيرة، وفي مكتبة ساحرة، هي مكتبة ومقهى، وفي ساحة مشمسة، تضع فيها مايلا، صاحبة المكتبة، أريكة كبيرة، تلتف حولها أرائك صغيرة، مع إبريق شاي كبير وكؤوب ملونة، جلست أتحدث إلى النساء: كان الحضور جميعه على الإطلاق من النساء.

قالت سيدة جاءت تشتري هدية لحفيدها بالصدفة، بأنها رأت كتابي “نساء من حلب”، فجذبها العنوان، وقررت انتظاري لأكثر من ساعة، حيث صادف أنني سأكون هناك لتوقيع الكتاب، دون أن تعرف بالأمر من قبل.

أما ماري روز، السيدة السبعينية، فراحت تحدثني عن طبيبها السوري في باريس، والتي ما إن رأت عنوان الكتاب، حتى قررت أن تقتني نسختين، واحدة له، وواحدة لها.

في القسم الثقافي للمتجر الكبير الذي أقيم قربه، وهو مول تجاري أذهب للتسوق فيه غالبًا، دعوني لتقديم الرواية..

كنت في غاية الارتباك وأنا أرى الزبائن يمرون ويلقون نظرات فضولية، ليعرفوا من هذه المرأة القادمة من حلب.. وهنا التقيت بجون وليلى وغيرهما. لكن هذين الشخصين تركا أثرًا لدي أكثر من الآخرين في ذلك اللقاء.

قال جون بأنه يناصر قضايا النساء، وأنه حين رأى عنوان الكتاب في الجريدة، سارع لا لاقتنائه فقط، بل للقاء بي، كما لو أنني قطعة قادمة من تلك البلاد، يريد جون وزوجته سيمون أن يلمسانها.

لم تأت سيمون إلى اللقاء، ولم أسأل، فأنا لا أعرفها، وبالكاد أسمع عنها، لكنني وقعت الكتاب لهما معًا، إلى سيمون وجان، ثم مازحت جان: أنتما مثل جان بول سارتر وسيمون دون بوفوار!

طلب جان وسيلة تواصل معي ليكتب لي بعد القراءة، فما كان من شريكي في الكتاب، إسماعيل دوبون، إلا أن أعطاه إيميله، وإيميل الناشر، ومرر لي الورقة لأكتب إيميلي أيضًا، فترددت، قلت له: اكتب لإسماعيل وهو سيرسل لي كل شيء. ترددت لأنني إن فتحت باب أن يكتب لي الآخرون المجهولون، فسوف أجد نفسي أمام اشتغال آخر، بسبب فضولي الروائي وسوف أدخل في مراسلات جديدة وطويلة، كما حدث مع باتريك.

ولكن لحظة، لأتحدث عن ليلى، ثم اليزابيث وكابرين، لأصل إلى باتريك.

ليلى لم تكن قد سمعت بقصة قيس وليلى. كانت عابرة في نهاية الأسبوع للتسوق مع صديقها، حين رأت الكتاب، ولأنها رأتني مشغولة مع قراء آخرين، لوحت لي بالكتاب من بعيد، كعلامة محبة واحترام، دون أن تقترب طالبة التوقيع، لكن إسماعيل ناداها مشجعًا، فقالت وهي تقترب: أخشى إزعاجكما!

حين عرفت أنها تدعى ليلى، وأنا أوقع لها، سألتها إن كان اسمي هو السبب الذي جذبها لاقتناء الكتاب، قالت إن العنوان “نساء من حلب”، أي النساء مجددًا هن السبب. لم تكن ليلى تعرف أي كلمة عربية، صبية من أصول جزائرية مولودة منذ أجيال هنا، أي أن أبويها أيضًا مولودان هنا في فرنسا..

طار عقلها من الفرح حين حدثتها عن قيس وليلى، وأسطورة الحب الشهيرة، فوعدتني بحياء أن تبحث عنها.

ثانيا:

Au café des délices

حين رأيت صورة المقهى ـ المكتبة في الإنترنت، شعرت بالدهشة، فالمكان كأنه مقطوع من تونس، ليُلصق في هذه المدينة المطلة على الأطلنطي..

مقهى بواجهات زرقاء، يشبه المقهى الشهير في سيدي بو سعيد في تونس، والذي خصص باتريك برويل أغنية خاصة باسمه: كافيه دي ديليس..

وصلت مع إسماعيل، قبل الموعد المحدد، لأكتشف المكان، ولم يكن قد سمع بهذه الأغنية. رحنا نمشي على الرمل قرب البحر، ونحن نستمع لأغنية جاك بريل..

في بدايات شهر نيسان/ أبريل، مع برد خفيف في آخر النهار، دخلت المقهى لأجد سيدة تبدو هاربة من سينما الستينيات في فرنسا، تجلس على الأرض وتعتني بإشعال موقد الحطب..

كان الجو ساحرًا، كابرين، التي عرفت اسمها لاحقًا، التي أسست هذا المقهى منذ أكثر من أربعين عامًا، حولت المكان إلى تحفة فنية.. كتب وموسيقى ولوحات ومشاريب نحتسيها على هوانا…

لم أبذل أي جهد للتحدث مع كابرين، التي شعرت أنني أعرفها، وأنها مرت بعديد من الأفلام التي أثرت عليّ في صباي ومراهقتي.. فهي تحتفظ بتلك الأصالة الفرنسية الفنية ـ الثقافية…

يبدو أن الفن لا يحتاج إلى لغة.. إذ شعرنا على الفور بتلك الكيمياء التي تربط بين الذين ينتمون إلى عالم فكري واحد ويحملون التطلعات ذاتها..

نحن النساء نشكل عالمًا خاصًا، لا نحتاج فيه إلى التعارف وفق الأنماط السائدة، اللون، العرق، المنشأ، قالت إليزابيت، شريكة كابرين في المقهى..

كانت شمس المغيب تطلق أواخر أشعتها على القاعة الكبيرة، حين كنت أتحدث مع اليزابيت، وأحسست أن هذا العالم كله، هو هويتنا، وأننا نحن النساء، نتمتع بهوية جامعة نابعة من علاقتنا البيولوجية بالكون، فكأن العالم كله أولاد لنا، وكأننا أمهات لأي إنسان في الأرض، دون تمييز.

أنواع القراء الذين صادفتهم

طلب مني رجل يرتدي بزة صفراء، توضح أنه عامل عادي، ربما في البناء أو النجارة، أن أوقع كتابي لصديقه ميشيل، عامل السيراميك، الذي يصادف عيد ميلاده غدًا، وحيث سيهديه الكتاب بمناسبة عيد ميلاده.

لم أوّفق بسؤالي حين قلت: هل تعتقد أن ميشيل سيهتم بقراءة الرواية؟ 

كان سؤالي يحمل مواقفي المسبقة من تصنيف القراء، لم أنتبه إلى أن هناك عمالًا يقرؤون كتبًا معقدة..

راح الرجل الذي لم يقدم لي اسمه، طالما الإهداء سيكون باسم صديقه، يشرح لي بفرح، أن ميشيل عامل سيراميك، اشتغل من قبل على تركيب كلمة “حلب” بحجم كبير، وأن عنوان الرواية سوف يجعله يفرح كثيرًا، وأضاف بأن ميشيل قارئ نهم، والكتب تملأ بيته في كل زاوية وركن..

أما أناييس، مصففة شعري التي استقبلتني بترحاب كبير وهي تقول لي إنها رأت صورتي في الجريدة، وإنها أخبرت معارفها أنها هي من صففت لي شعري قبل الذهاب إلى حفل إطلاق الكتاب، فقالت لي: سأقتني الكتاب لتوقعيه لي في موعدنا القادم، لا بل وأنا منذ الآن، من خلال أحاديثنا السريعة، أتحدث عنك لصديقاتي وأشجعهن على قراءتك والتعرف على أفكارك..

وبالنسبة إلى ليو، الطفل الذي لا يتجاوز الثالثة من عمره، وقد جاء مع جدته ماري لور، حيث تترك ابنتها الطفلين لدى والدتها في العطلة، وحيث اضطرت الجدة للمجيء مع الطفلين، فقد نام الصغير طيلة الندوة في عربته الخاصة، وليو كان يصغي إلي، دون أن أنتبه..

حين وصلتني الصور، سقط قلبي من الفرح. كانت نظرة ليو إليّ وأنا أتحدث، تستحق التوثيق. نظرة مليئة بالتركيز والشغف والانتباه.

قالت لي ماري لو، التي التقيتها لاحقًا، إن ليو قال لأمه بفخر: لقد حضرت اليوم ندوة أدبية!

في حفل توقيع آخر، حيث برنامج التوقيعات مزدحم لغاية شهرين حتى الآن، جاءت طفلة مع والدتها، التي طلبت مني بحياء أن أكتب اسمها بالعربية. وحين فعلت، قالت الطفلة لأمها إنها تريد مني أن أوقع لها كتابها أيضًا باللغة العربية.

كان الموقف طريفًا، لأن الطفلة اقتنت كتاب أطفال، ومع ذلك كتبتُ اسمها بالعربية: غوينين.. اسم بروتوني يصعب لفظه حتى بالفرنسية.. شكرتني الطفلة وانصرفت وهي تحتضن كتاب القصص المصورة.

هدايا الكتابة

جرت بعض الدردشات بيني وبين الذين كانوا يعرفونني معرفة سطحية عبر وسائل التواصل، ولم يحصلوا على كتابي بعد، وحين التقيت بهم، حصلت أشياء جميلة، وتلقيت هدايا ثمينة بالنسبة لي.

أحضر فريدريك لي كتابين بالفرنسية، كتاب ألف ليلة وليلة، طبعة شعبية، وموسوعة الحب في الإسلام لمالك شبل، وكان يحاورني بفرح عن احتمالات كتبي القادمة بالفرنسية ومواضيعها التي كان يقترح عليّ الاشتغال عليها.

باتريك، الذي فاجأه أن يطلع في كتابي على اسم جاك فاشيه، الذي كان قد التقى بأندريه بروتون في نانت، والذي قرأت عنه قبل سنوات طويلة وأنا في سورية، أحضر لي مقالًا كان قد كتبه قبل أكثر من عشرين عامًا عن جاك فاشيه، مع صورة لجاك، سوف أعلقها في منزلي دون شك.

أما الهدية الأثمن بالنسبة لي، فكانت عبارة ليناييك، صاحبة المكتبة التي استقبلتني بحرارة شديدة، وقالت لي أمام الجمهور: يشعر القارئ بالصداقة صوب شخصيات كتابك.

أحسست بالأمان، أنني أضع شخصيات روايتي في أيدٍ أمينة ستعتني بهن، وأنني لست الصديقة الوحيدة لشخوصي..

لا تزال اللقاءات مبرمجة، ولا تزال تنتظرني العديد من الخبرات والمفاجآت، ولا أزال أتعلم في كل لقاء، وأكتسب درسًا جديدًا من القارئ الفرنسي، الذي لا يمكن حصر أسباب اهتمامه بالقراءة عمومًا، وبقراءة أدبنا خصوصًا، وبقراءتي أنا حسب خبرتي، لأن كل قارئ ألتقي به، هو درس خاص، وتجربة ملهمة، وهدية استثنائية.

*ضفة ثالثة