حقوق الفكر لدى الكُرد
حين غنت أصالة أغنية” آز كافوكم” وجرى سجال طويل حول الحقوق الكردية، لم أهتم بالأمر، ولكن حين تلقيت رسالة من صديقة غير كردية، تسألني عن رأيي، فإنني قلت بأنها لفتة جميلة من أصالة، أن تغني بلغة يتحدث بها عدد لا بأس به من السوريين.. لكن صديقتي كان لها رأي آخر، بأن ما حصل هو سرقة، بسبب عدم وجود مؤسسات لدى الكرد لحمايتهم فكريًا، كما الأمر لدى باقي الشعوب المضطهدة كالفلسطينيين، حين تقوم إسرائيل بسرقة تراثهم في الطعام والموسيقى وغيرها، وكما سرق الترك من الكرد من موسيقى نسبوها لأنفسهم.
اندهشت آنذاك من دفاع قسم كبير من العرب عن حقوق الملكية الفكرية، وتوقفت كثيرًا وقتها لدى نقطة أصابتني بالقلق: لماذا لا يعرف الكرد كيف يدافعون عن ممتلكاتهم الفكرية؟ هل هو الإحساس بالتبعية وفكرة الأقليات التي تسيطر على العقل الجمعي الكردي، تجرّدهم من الشعور بأنهم أصحاب حق؟
وصل الأمر إليّ، أي ما يشبه حقّي الفكري، والذي لست حتى اللحظة في وارد تأكيده، باعتبار لا توجد مرجعيات عربية حول الأمر.
قبل فترة وجيزة، أرسل لي صديق غلاف كتاب الروائي عبده خال، بعنوان “حبل سري”، كتبتُ على الفيسبوك وتويتر، بكل حيادية، أن رواية لي وصلت قبل عشر سنوات إلى لائحة البوكر العربية وكانت بعنوان ” حبل سري”. لم أعبر عن أي استياء ولم أطالب السيد خال بأي شيء، فقط طرحت الأمر للنقاش.
دون تعميم، لكن ضمن إحصائية صغيرة، فإن أغلب تعليقات الكرد جاءت مرحة وساخرة، دون التنبّه إلى فكرة الحق، عدا ما قاله الشاعر مروان خورشيد، الذي ذكر حادثة جرت عام 1966 لميشيل فوكو، واضطر فيها لتغيير عنوان كتابه لتطابقه مع عنوان سابق.
بينما حرص الأصدقاء الكتاب العرب على حق العنوان، وأكد الروائي طارق إمام على ضرورة أن يقوم السيد خال بتغيير العنوان، قائلًا إن هذه لا تحتمل وجهة نظر.
الروائي السوري إسلام أبو شكير وجد أنه من الجيد طرح الموضوع والنقاش في بيان المشروعية الأدبية، ورأى أنه شخصيًا، يجد أن ما حدث زلة كبيرة وقع فيها عبده خال.
في تويتر، قام الأصدقاء بتقاسم تغريدتي، وحصل ما يشبه الأغلبية، بلغة السياسة، على ضرورة تغيير العنوان، مما جعل الروائي خال، يكتب تغريدة يوضح فيها موقفه.
تنبّهت مجددًا، لخصوصية الكرد في التعامل مع مسألة الحق، يبدو، أن عدم امتلاك الكرد لفكرة الوطن، يجعلهم أيضًا غير مؤمنين في العمق، بحقوقهم الأخرى.
العدالة الإلكترونية
وجدت هذه التجربة التي استمرت لأقل من أربع وعشرين ساعة، فعّالة وناجحة. إذ أن كثرة تقاسم ما كتبته في مواقع التواصل من قبل الأصدقاء، بل والأغراب الذين اهتموا بالأمر، جعل رأيي يصل للسيد عبده خال، فاستشار بدوره أصدقاءه ومتابعيه على تويتر، حول تغيير العنوان.
إن فكرة العدالة التي تحققت بالنسبة لي بهذه السرعة، دون صخب وضجيج وأي ابتذال، تعود لقوة مواقع التواصل، والسلطة التي صارت تشغلها اليوم، والتي يمكننا الاستفادة منها، أعني هذه السلطة، في قضايا نبيلة وجادة، تمنحها المزيد من السلطة الإيجابية في تصحيح الأخطاء وفتح النقاشات العميقة، بدلًا من تركيزها على تفاهات وتسطيح اهتمامات العالم واختزالها في تفاصيل لا قيمة معرفية لها.
العنوان حق لصاحبه؟
ونعود لأصل النقاش: هل يخضع عنوان الكتاب للملكية الفكرية؟
تعددت الآراء حول ذلك، وإن كانت الغالبية تعتقد بأن العنوان أيضًا حق لصاحبه، كما قال الشاعر مروان خورشيد بأنه عام 1966 صدر كتاب “الكلمات والأشياء” لميشيل فوكو، وهو مضطر لأن يضع هذا العنوان، لأن كتابه كان يحمل عنوان “نظام الأشياء”…. لكن وجدوا أن هناك كتابًا تحت الطبع يحمل نفس العنوان، ولم يتمكن فوكو وناشره من إقناع الكاتب بتغيير عنوان كتابه، فقام فوكو بتغيير العنوان من نظام الأشياء، الذي كان مؤمنًا به، إلى الكلمات والأشياء.
كذلك رأى الشاعر السوري نادر القاسم، بأن السيد خال لم يبذل جهدًا في وضع العنوان الذي اختاره على محرك البحث وكذلك دار النشر.
بينما اعتقد قسم آخر، بأن العنوان لا يصبح ملكًا للكاتب، إن دل على شي شائع، كما قال الشاعر السوري عارف حمزة: هناك عناوين يمكن أن تتكرر إذا كانت تدل على شيء شائع، أو ليس ملك الكاتب أصلًا، ومنها أعضاء الإنسان أو الحيوانات أو الجمادات.. إلخ. فمثلًا حبل سري هو اسم لشيء موجود مسبقًا في جسم الأم، وهناك الكثير من الكتب التي حملت هذا العنوان، سواء علميًا أو أدبيًا، بمعنى أنه ليس مثل “ليس لدى الكولونيل من يكاتبه” أو “بينما أرقد محتضرة”.
كذلك وجد الكاتب المصري أحمد عايد بأنه يمكن التحدث عن الحقوق حين يكون العنوان متفردًا، وإلا فمن حق أول إنسان قال صباح الخير أن يطاردنا في جميع المحاكم الدولية. واختلف معه الروائي المصري مجدي الكومي، الذي قال: “تخيل واحد جه وقرر يسمي روايته “بين القصرين” هيكون إيه رأيك فيه؟ ما هُوّ نجيب محفوظ أخد اسم الحي المتداول والشائع والمعروف وجعله عنوانًا لمتن أدبي”.. ويتابع الكومي: الكاتب الذي أخرج عبارة متداولة من متنها، لتصبح عنوانًا لمتن آخر، له الحق في الشكوى.
أما رأيي الشخصي، ليس فقط كصاحبة العنوان الأول، لأن هذه القضية قد سُويت كما أعتقد، وإنما من أجل مستقبل الكتابة في عالمنا العربي الذي يفتقد للكثير من المهنية والوضوح في فكرة الحقوق، فإنني أعتقد أن استخدام العنوان، مهما كانت بساطته وعاديته وتداوله، هو من حق صاحبه.
مثلًا هناك شعارات أطلقتها الثورة السورية: الشعب السوري ما بينذل، أو الموت ولا المذلة، وهذه كلمات رائجة منذ أكثر من عشر سنوات في سورية، لكن حين يفكر أحد الكتّاب في اتخاذ شعار ما كعنوان لكتابه، يصبح هذا العنوان، أدبيًا، من حقّه هو.
كما أن هناك الكثير من الكلمات الرائجة في العالم، مثل: الغثيان، الذباب، الفراشة، الغريب، العاشق… ولكن في الأدب، حين نتحدث عن رواية” الغثيان” أو “الذباب”، فنحن نعرف أننا نقصد سارتر، وعنوان ” الفراشة” يعني هنري شاريير، ثم كامو ومارغريت دوراس… إن استخدام أي مفردة أو تعبير دارجين في الشارع أو المشهد اللغوي، كعنوان لكتاب، يُملِّك صاحبه حق ابتكار هذا العنوان.
لا أتخيل مثلًا، أن أفيق ذات صباح، لأجد ثمة من عنون روايته بـ”قريناتي”، هذا العنوان الذي جهدت طويلًا حتى عثرت عليه، أو “حي الدهشة” أو “طبول الحب”… حيث أعتبر أن هذه العناوين مرتبطة بي، بل ثمة من يعتقد أن “مترو حلب” مثلًا هو تعبير خاص بي، تمامًا كتعبير: طبول الحب، أو عمت صباحًا أيتها الحرب.
بصراحة، ككاتبة، أعتبر أي عنوان لكتابي، بمثابة الاسم الذي نطلقه على أبنائنا، فيتحول الكتاب إلى حالة مادية، نشعر بامتلاكنا لها، وبخصوصيتها في حياتنا، ويعرف جميع المشتغلين في الكتابة، كيف تؤرّقنا العناوين، وكيف يكون العثور عليها أحيانًا أصعب من الكتاب كله، بل وفي حالات، يأتي العنوان قبل الرواية، ونبني روايتنا الكاملة، على حجر أساس، هو عنوانها.
في النهاية، إذا قرر الروائي عبده خال تغيير عنوان روايته، فإن ذلك سيكون أفضل لروايته القادمة، التي من حقّها أن تنفرد بعنوان غير مسبوق، ولو كنتُ مكانه واخترتُ عنوانًا لكتابي، ثم اكتشفت أنه موجود، فإن حبي لكتابتي، وحرصي عليها، سيدفعانني إلى اختيار عنوان آخر غير موجود كعنوان أدبي.
ضفة ثالثة