حوار انريكو دي انجيليس مع ليلى الشامي وفيليب رزق
“كانت مسألة تقرير المصير في صميم الثورة. إلى أيّ مدى يمكن للأفراد والمجتمعات أن يختاروا كيفية العيش على أراضيهم وممارسة سلطتهم؟”
“دروس خرايط” (Mapping Lessons) (2020) هو أحدث أفلام صانع الأفلام القاهريّ (من القاهرة) فيليب رزق. يسعى رزق في هذا الفيلم إلى خلق حوار بين صور مختلفة ونضالات سياسية، بدءًا من مناهضة الاستعمار ووصولًا إلى الثورة السوريّة، ومن كومونة باريس إلى السوفييت.
انطلاقًا من “دروس خرايط” لاستهلال النقاش، جلس كلّ من رزق والكاتبة ليلى الشامي مع إنريكو دي انيجليس للنظر في أهميّة تنظيم الذات في الثورة السوريّة، والاطلاع على الدروس المستقاة منها.
خضع الحوار للتنقيح لدواعي السلاسة اللغويّة ونُشر أولًا باللغة الإنجليزيّة، وهذه ترجمته العربيّة.
انريكو: يركّز فيلم “دروس خرايط” على الثورة السوريّة، بالإضافة إلى نضالات أخرى حديثة في المنطقة. لمَ ارتأيت أن تعالج هذا الموضوع؟
فيليب: كان تاريخ 26 تشرين الثاني 2013 المرّة الأخيرة التي صوّرت فيها في شوارع القاهرة. في ذاك اليوم، كان النظام العسكري السابق المشرّع حديثًا آنئذ قد طبّق قانونًا جديدًا يمنع التظاهرات كليًا. شرّع القانون للدولة أن تسجن أيّ شخص لمجرّد رفع يافطة عليها شعار “لا” أو السير ضمن مجموعة من خمسة أشخاص. بعد فترة وجيزة، انتقلت إلى الجهة المقابلة للنهر من وسط مدينة القاهرة، وبدلًا من أن أكون في الشارع، اختبأت في سريري في حي الدقي، وقرأتُ عن أماكن أخرى، وصببت طاقتي في تلك الأماكن، واستوحيت من نضالات الغير.
كانت سوريا إحدى البلدان التي استوقفتني، تلك البلاد التي ربط أغلبية الناس اسمها، بحلول منتصف 2014، بالحرب وبأزمة اللاجئين. لكنّني وجدت فيها المشروع الاجتماعي الأكثر جذريّة الذي تشهده المنطقة منذ أعوام، ولست أتكلّم هنا عن الحركة الكرديّة في منطقة الإدارة الذاتيّة لشمال وشرق سوريا، كما خُيّل إليّ للوهلة الأولى. في نهاية 2011، مع تسلّح الجهة المقاومة لدكتاتوريّة الأسد، ومع كلّ صراعات السلطة التي ترتّبت على ذلك، اضطُرّ النظام إلى الانسحاب من مناطق بأكملها من البلاد. مع تحرر المدن والقرى من الحكم الاستبدادي، أنشأوا نسخًا مختلفة من الحكم المحلي، حيث بات ممكنًا للمجتمعات أن تقرر بنفسها أسلوب حياتها. قضيت السنوات الأربع الماضية في تعلم المزيد ومحاولة اكتشاف كيفيّة سرد تلك القصة من وجهة نظري، ليس كمشارك أو شاهد حتى، إنّما كشخص خاض معركة مماثلة في بلد مجاور.
في صيف 2017، سألني أحد الأصدقاء عن سبب عملي على فيلم عن سوريا الآن، علمًا أنّ معظم الناس اعتبروا أنّ ذروة الصراع السياسي تصل إلى نهايتها وأنّ النشطاء السوريين باتوا يتهافتون إلى أوروبا على درب اللاجئين. لم يتضح لي الجواب إلّا لاحقًا. لم أرغب في إطلاع المشاهدين على الأحداث التي جرت أو الدفاع عن قضيّة ما، كما هو الحال في الاستخدام الشائع للنمط الوثائقي في صناعة الأفلام. ببساطة، لا نملك الترف لذلك الآن.
أردت أن أتخيل ماذا كان ليحدث لو نجحت هذه التجارب التي سعت إلى العيش في استقلاليّة، لو لبرهة من الزمن. نظرًا لأنّ الكثير منها لم تدُم طويلًا قبل أن تقضي عليها قوى رجعيّة مختلفة، أردتُ أن أرى ما يمكن أن نتعلمه من تلك اللحظات الجذريّة وأن أطلق حوارًا عن كيفيّة الاستعداد للمرة القادمة. في كثير من الأحيان، نكون غير مستعدّين عندما تسنح الفرصة. أردت أيضًا أن أخلق حوارًا بين السرديّة في سوريا وفي أماكن أخرى. في النهاية، لا يُعتبر فيلم “دروس خرايط” في جوهره فيلمًا عن الثورة السوريّة، إنّما يتناول الحكم الذاتي، سواءً في سوريا، أو فلسطين، أو إسبانيا، أو روسيا السوفيتيّة، أو الأرجنتين، أو أي مكان آخر.
إنريكو: يمكننا إيجاد عدد من العناصر المشتركة بين فيلم “دروس خرايط” والكثير من كتابات ليلى خلال الأعوام السابقة، مع التركيز خصوصًا على المجالس المحليّة في سوريا وشخصيّات مثل عمر عزيز، وهو ناشط قد فارق الحياة في سجن للنظام في العام 2013.
يكمن أحد هذه العناصر في محاولة الربط بين تجربة الثورة السوريّة والنضالات والتواريخ في حقبات وأماكن أخرى.
على هذا الصعيد، أعتقد أنّ فيلم فيليب يبذل جهدًا من خلال عرض أجزاء صوريّة مختلفة لطرح أساليب جديدة لصياغة سرديّة أكبر. أستعمل كلمة “طرح” لأنّه من الواضح أنّ هذه السرديّة الكبرى غير موجودة أو لم تُكتشف بعد.
يجب استكشاف استمراريّة معيّنة، من خلال الصور أيضًا. يشبه الفيلم أحجيّة بعض الشيء، ويقدّم للمشاهد قطعًا ليتلاعب بها بغية إيجاد خيوط وأشكال محتملة.
أمّا ليلى، فتقترح مقارنة مع كومونة باريس التي تحتلّ مكانة شبه أسطوريّة في أوروبا. ليلى من الكتّاب النادرين الذين غالبًا ما يذكرون عمر عزيز، الذي جسّد أكثر من أيّ شخص آخر أفكارًا تعكس تجارب لاسلطويّة أو شيوعيّة دارت في مكان آخر.
أما سؤالي فهو: هل من الممكن فعلًا التجرؤ على اقتراح أوجه الشبه هذه؟ يرتبط اسم سوريا بالحرب، والإرهاب، والتطرّف الإسلامي. هل من الممكن إيجاد خيط آخر يربطها بنضالات متنوّعة وجذريّة أخرى في مناطق وأزمنة أخرى؟ هل يمكن أن تصبح سوريا مرجعًا أو إلهامًا للنضالات الطبقيّة والتابعة، ونضالات ما بعد الاستعمار وتلك المناهضة لليبرالية حول العالم؟ بالنسبة لكثيرين، هذا أمر شبه مستحيل.
ليلى: مهما كان السياق الثقافي والتاريخي، كلما انهارت سيطرة الدولة لأيّ سبب كان –سواء انتفاضة أو حرب أو كارثة اقتصاديّة أو طبيعيّة– تأخذ المجتمعات السلطة بأيديها وتخلق آلياتها الخاصة لحل المشكلات المجتمعيّة. تشمل الأمثلة كومونة باريس عام 1871، وإسبانيا الثوريّة، وإعصار كاترينا الذي ضرب الولايات المتحدة في عام 2005. سوريا هي أوضح وأحدث مثال على ذلك، ومن المؤكد أنّ هناك الكثير ليتعلمه الناس في أماكن أخرى. ثمّة دروس في التنظيم الذاتي الإبداعي للمجتمع، ويمكن تطبيق بعضها على المجتمعات التي لم تتداعَ فيها الدولة. يمكن لبعض التجارب الناتجة أن توسّع مساحة التنظيم الذاتي المستقل داخل هياكل الدولة وتفتح عيون الناس على إمكانيات التنظيم الذاتي بدون الدولة. من المؤسف أنّ الناس غير قادرين بشكل عام أن يتعلّموا الدروس من سوريا أو حتى أن يدركوها بسبب تناقل طريقة تصوير سوريا في الغرب عبر الخطابات التي ترتاح لها الثقافة الغربيّة بشكل كبير. وُضعت الثورة والحرب المضادّة لها في إطار الإرهاب، والتهديد الإسلامي، والخصومات بين السنة والشيعة، والألعاب الجغرافيّة-الاستراتيجيّة بين الدول. كما أنّ هيمنة نظريات المؤامرة والبروباغندا تعكّر المياه بشكل إضافي. يشير كلّ ذلك إلى مجموعة من المشاكل الثقافيّة الأعمق في الغرب، والتي تمنعنا من الإنصات إلى أصوات القواعد الشعبيّة من الثوار السوريين والاعتراف بإنجازاتهم.
فيليب: أشعر أنّ الناس غالبًا ما يصدقّون ما يريدون تصديقه، أو يجدون سرديّات تلائم نظرتهم للعالم. من المستبعد أن تطغى في أيّ لحظة سرديّة استمراريّة التنظيم المجتمعي الجذري (بربط المجتمعات الأكثر تأثرًا بإعصار كاترينا، وكومونة باريس، وإسبانيا في الثلاثينيات، وأشكال التنظيم في المجتمعات الأصليّة، وغيرها). لكن، يجب ألّا يمنعنا ذلك من نسج هذه الروابط المهمة. من المهمّ أيضًا أن نستمرّ في البحث عن هذه الروابط.
ربّما علينا عدم التفكير كثيرًا في الغرب وفي السرديّات التي تتطور هناك، إنّما إتاحة مثل هذه السرديّات المضادة للمجتمعات في أيّ مكان للتفاعل معها والتعلم منها. في النهاية، لا شكّ في أنّ الحياة اليوميّة وديناميكيات علاقات القوة في سوريا مألوفة لشخص في جنوب أفريقيا أو إندونيسيا أو الجزائر أكثر ممّا يعرفها غالبية الناس في البلدان الأكثر ثراءً. لكن، في هذا السياق أيضًا، إنّ الدروس التي يمكن تعلمها من التجربة السوريّة الجذريّة للثورة هي أكثر صلة بالمجتمعات التي تطرح هذه الأسئلة، والتي تهتم بحياة المجتمع المستقل، والتي تستعد للتجربة المقبلة، أينما كانت.
ليلى: أعتقد أنّك أصبت في القول إنّ الناس يجدون سرديات تتوافق مع نظرتهم للعالم، وقد يعرقل ذلك قدرتهم على الاستماع إلى السرديات المضادّة من نواحٍ مختلفة من العالم، وعلى الإنصات والتعلّم. أظنّ أنّ المشكلة هي مشكلة تواصل عبر الثقافات، وتعود إلى عدم إدراكنا بأنّنا نفتقد إلى الوعي الذاتي الثقافي، وإلى أساليبنا الإيديولوجيّة في فهم الثقافات الأخرى. كما يقول المثل: “لتضع نفسك مكان الآخرين، عليك أوّلًا أن تنسى نفسك”.
أعتقد أنّ الكثير من الناس لا يشككون أبدًا في افتراضاتهم الإيديولوجيّة أو قيمهم الثقافيّة. بالطبع، هناك مشكلة كيفيّة فهم الإسلام والمسلمين وظاهرة الإسلاموفوبيا (رهاب الإسلام) الكامنة، وهي قضيّة بارزة في الاستجابة للأحداث في أجزاء كثيرة من العالم، من ميانمار إلى الصين، فأوروبا والولايات المتحدة.
انريكو: لا بدّ أنّكما تعيان أنّ الثورة السوريّة، على الرغم من هشاشتها، وتشرذمها، وتنوّعها، وطابعها المؤقت، هي إحدى التجارب السياسيّة الأبرز خلال الأعوام القليلة الماضية في المنطقة. ذكرت ليلى في إحدى مقالاتها أنّ عمر عزيز قال: “لسنا أقلّ من عمّال كومونة باريس، هم صمدوا 70 يومًا فقط، وها نحن مستمرّون بعد عام ونصف”.
يحاكي ذلك أسطورة لنين وهو يرقص في الثلج، حاملًا زجاجة شامبانيا، بعد 73 يومًا على انطلاق الثورة الروسيّة.
يتذكّر الجميع كومونة باريس أو ثورة أكتوبر/تشرين الأوّل 1917 في روسيا، لكن يبدو أنّ البعض فقط يعتبرون الثورة السوريّة تجربة بارزة.
لمَ يصعب الاعتراف بأهميتها؟ هل ذلك بسبب صعوبة تضمينها في سرديّة كبرى؟ ماذا علينا أن نستخلص من تلك التجربة وكيف، وكيف يجب أن نوصلها إلى العالم كي يتعلّموا الدرس؟ أعتقد أنّ هذه الأسئلة تتوسّط إنتاجاتكما.
ليلى: يجب أن نكون قادرين على الاستماع إلى أصوات من الشارع وفهمها في سياقها الخاصّ، وعدم الوقوع في فخّ الافتراضات الإيديولوجيّة المسبقة. في حالة سوريا، يبدو أنّنا كنّا نفتقر ليس فقط إلى شبكات التواصل ومعرفة المعلومات الأساسيّة، إنّما في حالات عديدة، إلى الرغبة في الاستماع إلى الأصوات السوريّة في الشارع. إنّ العديد من المعلقين البارزين على سوريا غير سوريين وليس لديهم خبرة أو تجارب في البلاد. لذلك، يجب أن تتّخذ أي سياسة تقدميّة للمشاركة في النضالات العالميّة كمبدأ أول تشكيل فهمها على أساس الأصوات الثوريّة على الأرض، وعدم إضاعة كلّ الوقت في الاهتمام بأفعال وتصريحات الدول. كان هذا بالنسبة لي أهم درس في العقد الماضي: يجب بناء التضامن من الأسفل إلى الأعلى.
على صعيد الدروس التي يمكن تعلّمها من التجربة الثوريّة في سوريا، أعتقد أنّ عمر عزيز أصاب في المحاججة بأنّ التظاهرات وحدها غير كافية لتحدّي أنظمة السلطة. اعتبر أنّ التنظيم الذاتي للمجتمع المستقلّ يسمح بمقاومة بعيدة الأمد ويخلق بدائل قابلة للتطبيق لاستبداد الدولة.
كانت هذه الحال في سوريا طبعًا، حيث تأسيس المجالس المحلية وغيرها من المبادرات المدنية في قطاعات التعليم، والرعاية الصحية، والإعلام أتاحت للناس التحكّم بحياتهم وتجاوز تحديات كثيرة، على الرغم من الهجوم المستمرّ من الدولة.
أعتقد أنّ عددًا كبيرًا من الناس لا يشكّكون أبدًا في افتراضاتهم الإيديولوجيّة أو قيمهم الثقافيّة.
شكّلت التجربة العملية للتنظيم الديمقراطي الشعبي درسًا أهمّ بكثير للثوّار السوريين من أيّ كمية من النظريات. بالنسبة للأشخاص الذين اختبروها، يبدو أنّها كانت تجربة قويّة، وإيجابيّة، وتحوّليّة. بات الأشخاص الذين كانوا مجرّدين من القوة في المجتمع سابقًا منخرطين في صنع القرارات وتنظيم المجتمع، وشعروا أنّ لهم مصلحة في ذلك، خصوصًا الشباب والنساء تحديدًا. ستترك هذه التجربة آثارًا دائمة على جيل كامل من السوريين وعلى مستقبل البلاد.
توقّع عزيز أيضًا أن تعزّز هذه الأساليب التنظيميّة التضامن الشعبي والأواصر الاجتماعيّة وتغيّر العلاقات. في الأيام الأولى من الثورة، ميّز التنوّع والشموليّة الحراك. تمكّن النساء والرجال من خلفيّات اجتماعيّة مختلفة ومجموعات إثنيّة ودينيّة أن يتخطّوا الانقسامات السابقة ويعملوا معًا باتجاه هدف مشترك. عندها، كان الحراك في أقوى حالاته وكانت فرصته في النجاح أكبر، وقدّم دروسًا مهمة للنشاط التنظيمي في أماكن أخرى.
المسألة الأخرى التي كانت في الواجهة في التجربة السوريّة هي الجدل حول العسكرة. حمل الناس السلاح للدفاع عن أنفسهم وعن مجتمعاتهم، ونظرًا إلى المستوى الاستثنائي من عنف الدولة ضدّ السوريين، ربما كان ذلك أمرًا لا مفرّ منه. لكن، لا شكّ في أنّ مجموعة من المشاكل والتحديات أحاطت بالنضال المسلّح، مثل التدافع للحصول على الأسلحة والأموال، والاعتماد على القوى الأجنبيّة. في حالات عديدة، تحوّلت المعركة إلى صراع على القوة والأراضي بين المجموعات المستبدّة المتنافسة (الذكوريّة عادةً). بالمقابل، ظلّ الحراك المدني ملتزمًا إلى حدّ كبير بالأهداف الأصليّة للثورة ومتجذّرًا بعمق في المجتمعات المحليّة. قد تقدّم عندها التجربة السوريّة دروسًا للمجتمعات التي تجد نفسها في وضع مشابه.
فيليب: خسرت الثورة السوريّة حرب البروباغندا. تتنافس سرديّة تلك الروح الثوريّة مع عدّة سرديات أخرى، خصوصًا تلك المتمحورة حول الدولة، بحيث تتلخّص الأعوام العشرة الأخيرة في سوريا بحرب أهليّة وأزمة لجوء بسبب القوى المختلفة التي تتنافس على السيطرة، أو بسبب بعض اليساريين وسط محاولات الولايات المتحدة الإمبرياليّة للإطاحة بنظام الأسد. ليست هذه السرديّات الكبرى انتقائيّة فحسب، إنّما هي أيضًا مليئة بالأكاذيب لأنّها تحجب بعض الأحداث لتبسيط سرديّة يريد معارضوها بيعها، لا بل الأصحّ، تصديقها. لست أحاول أن أعدّ سرديّة كبرى جديدة، لكن أريد أن أشيد بإحدى أقوى التجارب التي شهدتها المنطقة في تاريخها الحديث، والتي أعتبر نفسي محظوظًا لأنّني سمعت وقرأت عنها.
أعتقد أنّ أيّ شخص مهتمّ بتغيير هيمنة الاستبداد في المنطقة عليه أن يكرّس بعض الوقت للتفكير والتعلّم. لكن، تجدر الإشارة إلى أنّ الفيلم ليس سهلًا. لمشاهدته، على المرء أن يطلق العنان لحواسه ويتخلّى عن توقّعاته من “فيلم عن سوريا”. كذلك، لنستوعب الحكايات عن التجارب الاجتماعيّة الجذريّة في سوريا، علينا التخلّي عن خيالنا الجماعي الثابت حول ما حصل وأن نسمح لأنفسنا أن نكون متواضعين ونتعلّم من المجتمعات القويّة التي تعيش حياة متحرّرة جذريًا في ظلّ ظروف قاسية للغاية.
إنريكو: في هذا السياق، لمَ اخترت أن تستعمل الأفلام كوسيط؟
فيليب: للإجابة على سؤالك، عليّ أوّلًا أن أسترجع بعض الأحداث الماضية. في 1917، عندما نجحت الثورة الروسيّة في الإطاحة بالقيصر، قلبت النظام رأسًا على عقب في روسيا. في عالم الأفلام، فرّت الشركات الخاصّة لتأسيس أعمالها في أماكن أخرى، وشُطبت الأعراف التجاريّة المتّبعة في إنتاج الصور، وانتهت جميع أشكال رقابة الدولة، أقلّه لفترة وجيزة من الوقت.
باتت الصفحة بيضاء أمام صانعي الأفلام الصاعدين ليشرعوا في تخيّل صناعة الأفلام من دون الضوابط القديمة للربح التجاري أو قيود الدولة، لكنّهم تأثروا بشكل كبير بالعقليّة الثورويّة وأسلوب العيش المتغيّر كليًا في تلك الأزمنة.
كانت التجارب محور الحياة اليومية، وكذلك إمكانية اختبار كيفيّة استعمال الصور لإشراك الناس ضمن تلك المساحة الواسعة لدفعهم للتساؤل عن عادات العيش القديمة وطرح عادات جديدة، إلى أن جاء توطيد البلاشفة للسلطة ليقمع اللحظة الثوريّة.
جرّب صانعو الأفلام أيضًا أساليب توزيع مختلفة، من خلال إنشاء قوارب السينما المتنقّلة وقطارات السينما التي أتاحت لطواقم العمل السفر وتصوير أعمالهم، ومعالجتها، ثمّ عرضها أثناء جولاتهم. تضمّنت أحد الجوانب التي طوّرها صنّاع الأفلام السوفييت الأكثر جذريّة إحداث تداخل بين الصوت والصورة، بدلًا من الاكتفاء بتسليّة المشاهدين أو إراحتهم من خلال تلقيمهم أفكارًا وصورًا معهودة.
كان الهدف الوحيد من وراء بلورة هذا الشكل من “المونتاج السوفييتي” إحداث تباين مع توقعات المشاهدين. أطلق أحد المنظّرين في وقت لاحق على هذه العملية اسم ostranenie، أي “التغريب” أو جعل المألوف غريبًا. ليس من السهل دفع الناس إلى تغيير طريقة رؤيتهم للأمور، وتستغرق هذه العمليّة وقتًا طويلًا، تحديدًا للراشدين المتشبثين بأساليب عيشهم.
“كانت مسألة تقرير المصير في صميم الثورة. إلى أيّ مدى يمكن للأفراد والمجتمعات أن يختاروا كيفية العيش على أراضيهم وممارسة سلطتهم؟”
خلال عملي على فيلم “دروس خرايط”، فكّرت كثيرًا بمبدأ المُتخيَّل، وفهمنا للعالم، ونظرتنا إليه وإلى كيفية تنظيمه، وكيف نتخيّله أن يكون.
في مقال كتبتِه حديثًا، ليلى، ربَطُتِ حركة الحكم المحلي في سوريا بكومونة باريس في 1871، وذكرتِ “الخيال الجماعي”، أيّ النظرة المشتركة للعالم لدى الناس تجاه الحركات السياسيّة. تحرّكنا هذه الأفكار وتكوّن رؤيتنا الجماعيّة للعالم والأحداث فيه. تساعد الخيالات الجماعيّة مثلًا في تحديد ما إذا كنّا سنربّي أطفالًا وكيف نفعل ذلك، أو كيف نلعب دورًا بارزًا في تحديد المسائل التي نؤمن بها ونكرّس لها وقتنا، وتلك التي تمنعنا من تكريس الوقت للآخرين. يعيدني ذلك إلى سبب اختياري الأسلوب الذي اخترته في صناعتي لفيلم “دروس خرايط”.
لا أستعمل لغة الأفلام المعهودة، إذ لم أكُن أريد أن أخبر قصّة عن “أحداث مهمة”. سبق أن صُنعت أفلام مماثلة، وهي لا شكّ ضروريّة، على الرغم من مأخذي الشخصي على بعض المشاكل فيها. لا يحاول فيلمي السير على خطى تلك الأفلام واستعادة وتصوير أحداث الثورة، إنّما أردت أن أتيح للصور التي اخترتها أن تتصادم مع خيال المشاهد عن ذلك الزمن، وأن أترك الصور تحدث أثرًا في المشاهد بدلًا من دعم سرديّة عن الثورة. بشكل أو بآخر، إنّني أطلب المزيد من تلك الصور، كما أنّني أطلب أكثر بكثير من المشاهدين. أعتقد أنّ هذا الشكل من أشكال التعامل مع الصور قد يتيح للجمهور طرح أسئلة عن المفاهيم المسبقة حول معنى الاستقلاليّة وكيفيّة عمل المجالس المحليّة. في الواقع، إنّ هذا الشكل من أشكال الحكم المجتمعي قديم ومجرّب، لكنّه طُمس في معظم الأماكن اليوم لأنّ الدول المهيمنة في العالم لم تسمح له بالازدهار.
في الحالة السوريّة، اكتشفت أنّه، بعد سقوط الإمبراطوريّة العثمانيّة، بدأ بعض الناس يجرّبون أشكالًا محليّة من الحكم، بحيث قرّرت المجتمعات كيفيّة عيش حياتها بدلًا من اتباع قوانين وقواعد تضعها السلطة المركزيّة. في أقلّ من عام، غزا المستعمرون الفرنسيون تلك المناطق ووضعوا حدًا لتجاربها ونفوا قادتها. ثمّ، وضع الفرنسيون أُسس الدولة الديكتاتوريّة القمعيّة التي لا تزال تحكم في سوريا الآن، نزولًا إلى أصغر وأدقّ ممارسات رقابة الدولة وأنظمة السجن والتعذيب، في نمط بدأ خلال الاستعمار ولم ينتهِ في حقبة الاستعمار الجديد.
من خلال فيلمي، أحاول أن أتيح للصور والأصوات أن تتصادم مع توقعاتنا لما هو “طبيعي”، وكيف يجب أن يعمل العالم، وكيف يجب أن نُحكم، ونزرع أطعمتنا، ونفكّر بالتعليم. جميعها نواحٍ مهمة للاستقلاليّة وعلينا التفكير بها كي يتحرّر العالم الذي نعيش فيه من القوى التي تقمعنا.
إنريكو: إنّ دور الأرض من العناصر التي علينا أيضًا التركيز عليها. في فيلم “دروس خرايط”، يبدو أنّ ذلك عنصر مشترك يحافظ على تماسك جميع الأشياء، حتى النضالات والسياقات التي تبدو بعيدة ثقافيًا وجغرافيًا.
في كتابات ليلى، يحملنا التركيز على البُعد المحلي المفرط للثورة إلى هذا العنصر، وإلى “الزمن الثوري”، كما يسمّيه عزيز. يمكّننا النضال من أجل الأرض (الذي يشمل الزراعة، والهندسة الديموغرافيّة، والحُضريّة، والطبقات، والحدود) من جمع نضالات ما بعد الاستعمار، والنضالات ضد الاستبداد، ونضالات التابعين.
أعتقد أنّ هذا أيضًا أمر بارز، إذ أنّ الحركات المناهضة للاستبداد تميل إلى التركيز أكثر على التغيرات في قيادات الأنظمة السياسيّة أو على حقوق الإنسان بالطبع. يعيد عملك تسليط الضوء على أمر ملموس أكثر على أرض الواقع.
ليلى: تمامًا كما أشرت، من السمات التي ميّزت الثورة السوريّة أنّها طالبت بأراضٍ من الدولة. بعد استبداد النظام الخانق وسيطرته، ليس فقط على الأرض، إنّما أيضًا على الفضاء العام، افتخر الناس كثيرًا باستقلاليتهم. أظهر مقطع فيديو من يبرود، في الأيام الأولى للثورة، شبابًا يزيّنون الممرات والساحات العامة بالزهور، ويطلونها بألوان علم الثورة. زيّن فنّانو الجرافيتي المساحات التي لم تعرض سوى صور الرئيس. أثارت الثورة مجموعة متنوعة من المبادرات المجتمعيّة، وكانت مسألة تقرير المصير في صميم الثورة. إلى أيّ مدى يمكن للأفراد والمجتمعات اختيار كيفيّة العيش على أراضيهم وممارسة سلطتهم؟
رأى عمر عزيز أهمية الأرض للنضال السوري. قال في إحدى أوراقه إنّ دور المجالس المحليّة يجب أن يكون “الدفاع عن أرض المنطقة من مصادرة الدولة لها، لأنّ مصادرة الأراضي في المدن والريف السوري وما يترتب على ذلك من تهجير لسكانها، من الركائز الأساسيّة لسياسة الهيمنة والإقصاء الاجتماعي التي ينتهجها النظام”. كتب عزيز ذلك في الأيام الأولى للثورة، في إشارة إلى سياسات مصادرة الدولة للأراضي التي سبقت الثورة والتي كان يعتقد أنّها دافع رئيسي لحدوثها. قال إنّ الحركة الثوريّة في المناطق الريفيّة والضواحي نشأت جزئيًا بسبب رفض الناس لفصلهم عن قاعدتهم المعيشيّة.
ترسّخت هذه السياسة كاستراتيجيّة مضادة للثورة. عندما استعاد النظام الأراضي، بعد أن حارب بشدّة في سبيل ذلك من خلال القصف العنيف وتنفيذ حصار التجويع، كانت السياسة الرئيسيّة تهجير السكان الأصليين الذين قاوموا النظام ولم يستطع السيطرة عليهم. رأينا موجات هائلة من النزوح القسري، وأعطى النظام الأراضي التي استعادها للموالين، سواء أكانوا أصدقاءه الذين سيطورون الأرض من خلال بناء المساكن ومراكز التسوق التي لا يستطيع السكان الأصليون تحمل كلفة العيش فيها أو ارتيادها، أو من خلال تسليم الأراضي والممتلكات لعائلات الميليشيات التابعة للنظام، أو حتى إلى القوى الأجنبيّة. تشتري إيران عقارات في مدن ومناطق حدوديّة ذات أهميّة استراتيجيّة. بهذه الطريقة، يضمن النظام وجود جمهور موالٍ له، بالإضافة إلى سيطرته المستمرة على الأراضي. الآن، بعد نفي الكثير من السوريين من أراضيهم أو حتى من البلاد، نواجه أسئلة حول كيفيّة مواصلة (أو إعادة بناء) الحراك في ضوء هذا التفكك الجغرافي.
فيليب: ليلى، كلماتك بالفعل ثاقبة وتعالج لبّ المسألة. فالنضال في سوريا نضال لمدى الحياة، ولعيشه بحريّة، تضافرت مجتمعات عبر تشكيل شبكات أو مجموعات جغرافيّة للإطاحة بالطغاة. كان الثمن باهظًا، لأنّ النضال كان من أجل ركن أساسي وفي غاية الأهمية: الأرض.
يقول عناصر جيش “الزاباتيستا” إنّ كل صراع يجب أن يكون مرتبطًا بالأرض، وإنّه بدون أرض، لا وجود للحكم الذاتي. غالبًا ما ننسى في المدينة أهميّة الأرض. صحيح أنّنا نعيش على الأرض، لكننا نأكل أيضًا منها. بالنسبة لي، يكمن الفارق الواضح بين الثورة في مصر والثورة في سوريا في أن الأخيرة انتزعت أرضًا من الدولة. تختلف معادلة النضالَيْن تمامًا. أعتقد أنّه بسبب ذلك أيضًا، كان من السهل على غالبيّة العالم دعم الثورة المصريّة، لأنّها لم تهز نظام السلطة في جوهره، بالتالي أتاحت مساحة للنظام للظهور من جديد. لكن، في سوريا، كان ردّ فعل النظام كالحيوان المسعور عندما أخذ الثوار أرضًا منه، وناضل بأيّ ثمن من أجل استعادتها.
إلى جانب أشكال لا تُعدّ من العنف الأكثر وحشيّة، حاصر النظام هذه المناطق المتمتعة بالحكم الذاتي، وقصف المخابز والآبار، مستخدمًا تكتيكات “الحياة العارية” في النضال من أجل السيطرة على تلك الحياة ذاتها. يجوّع النظام السكان قبل التنازل عن أيّ جزء من السلطة. الأرض هي جوهر الموضوع، فبدونها، لا وجود لنا. لذلك، عندما نفكّر في المرة القادمة، علينا قطعًا أخذ الأرض في الاعتبار. كيف نطعم أنفسنا منها، وكيف نتشاركها بين بعضنا البعض، وكيف نعيش عليها، وكيف ندافع عنها، ولكن أيضًا كيف نحترمها؟ أثناء العمل على فيلم “دروس خرايط”، وجدت أنّ هذه الأسئلة مشتركة بين النضالات حول العالم عبر الأزمنة والأماكن، وقد تكون حاسمة لخلق التضامن بيننا، لكن أيضًا لتعلّمنا أن نبحث في مكان آخر عن الدروس التي يمكن تعلمها، وعن الإلهام والأمل.
(حكاية ما انحكت) (الصورة لقطة من فيلم “دروس خرايط”)