من أين يأتي المجتمع بنخبه، أو كيف يصنع نخبه؟ سؤال ليس بالبساطة التي نتخيلها للوهلة الأولى، وفي الإجابة عنه تتكشف أمور وحيثيات كثيرة تتعلق بواقع المجتمع وإرثه التاريخي وطبيعة السلطة التي تحكمه وتتحكم به. يتبع ذلك سؤال آخر؛ لماذا لم تُنتج المأساة السورية، حتى الآن، نخبًا من صميم الواقع، بخلاف تجارب التاريخ المشابهة؟
لا يتطابق مفهوم النخب مع طبيعة الدور الذي يمكن أن تؤديه دومًا، فقد يكون الدور إيجابيًا إن استحوذ على تطلعات الشعب نحو آفاق المستقبل، بمعنى تحقيق المزيد من التقدم المادي والروحي والإنساني؛ المادي لتحسين سبل العيش والراحة، والروحي من أجل تحقيق ذوات الأفراد وإغناء الحياة الثقافية بمختلف تجلياتها، والإنساني لتجاوز الانغلاق الفكري وتذويب العصبيات واكتشاف المشترك مع الآخر – المختلف، كما في تجربة دولة رواندا الأفريقية، الخارجة من واقع كان شديد الانقسام وقاد إلى مذبحة (1994). وقد يكون دور النخب سلبيًا إن عبّرت عن/ استغلت حالة الشعب وحشدته لتحقيق إنجازات عاطفية وآنية لا تصب في مصلحته في نهاية المطاف، كما حدث في الثورة الإيرانية على حكم الشاه (1979)، إذ إن التحولات القابلة للحياة هي التي ترتكز كل خطوة منها على سابقتها وتؤسس لما بعدها على طريق متطورة باستمرار، كما في بناء أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية.
وليس ثمة تطابق بين دور النخب السياسية ودور المثقفين أيضًا، فالمثقف الحقيقي هو الناقد الدائم لسلبيات الواقع، ولا يجوز له أن يدافع عن، أو يوالي، أي سلطة. بذلك يحدد المثقفون مسافة افتراقهم عن النخب ويتجاوزون حالة مجتمعاتهم بالضرورة، بخلاف النخب الذين يبقون على علاقة وثيقة بمجتمعاتهم دومًا، هم سمكها وهي ماؤهم، ويمارسون السياسة بكافة درجاتها، من الدسائس إلى العمل من أجل الخير العام.
ولحل هذه الإشكالية بين دوري النخب والمثقفين، ومن أجل أن يمارس المثقفون دورهم الإيجابي في مجتمعاتهم، “اخترع” الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي فكرة المثقف العضوي، الذي يبقى على صلة وثيقة بشعبه، ويكون مثالًا يُحتذى به حين يقتنع الناس بضرورة تغيير حياتهم نحو الأفضل وتصبح حاجتهم إلى هذا التغيير جلية. بهذا المعنى، يكف المثقف عن أن يكون مجرد منظِّر من برجه العاجي، فهو يتنقّل كالبهلوان بين أرض الواقع وذرى أشجاره، يمزج بين الممارسة الثورية والتنظير، في علاقة جدلية تغتني فيها التجربة والنظرية معًا، ويتحدد النجاح بمقدار ما يحققه المجتمع من تقدم على صعيد العدالة والحريات والخير العام. في هذا التعريف، ينتمي المثقف العضوي إلى النخبة السياسية ولكنه لا يتحدد بها، وهو، كقدوة، مسؤول أمام شعبه ومنسجم مع نفسه.
فما هو حال “النخب” السورية، السياسية والثقافية، استنادًا إلى ما سبق، وما الذي تغير بعد عشر سنوات من الانفجار السوري الكبير؟
من المعروف أنه ليس ثمة معارضة فاعلة في ظل نظام مستبد، طالما أن السياسة والتعبير عن الرأي الحر محظوران وإمكانية تبادل السلطة سلميًا معدومة. من هنا فإن أحزاب المعارضة ليست سوى مجموعة من المغامرين الذين تحدوا السلطة المستبدة ودفعوا الثمن، وهم مجرد طلاب سلطة في نهاية المطاف، ومن دون وجود آليات قانونية للوصول إليها.
لقد بينت التجربة العراقية بوضوح كيف فشلت معارضة تمتلك مظلومية لا ريب فيها في القيام بدور وطني عند وصولها إلى السلطة عن طريق محتل خارجي، وكيف أسست لمظلوميات جديدة ومتطرفة فجًرت المجتمع، لا بل إنها استبدلت محتلًا بآخر (الإيراني مكان الأميركي أو خلطتهما معًا). فالحاجة إلى الخارج تبقى أساسية ما دامت المعارضة غير منبثقة عن الإرادة الشعبية، وهي مستعدة للانقلاب على الديمقراطية بالنار والاغتيالات وكل الوسائل غير المشروعة.
أثر التجربة العراقية ظل ماثلًا في سوريا بعد عام 2011، والمكتوي الأميركي بنار العراق، بقي مترددًا وحائرًا في التعامل مع الحالة السورية. أما المعارضة السورية، فلعبت على حبلي الانتفاضة الشعبية والخارج في محاولة الوصول إلى السلطة، لكن الخارج، وأميركا في القلب منه، لم يكن مستعدًا لمغامرة جديدة في هذا الشرق المليء بالألغام التاريخية، فأكد على الحل السياسي وأدار اللعبة وهو نصف نائم، ولم يفعل شيئًا ملموسًا للوصول إليه وتفعيل قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وخاصة القرار 2254. لهذ السبب، لم تسنح الفرصة للمعارضة السورية بالوصول إلى السلطة، فجفّت وهي ما تزال معلقة على حبل الانتظار.
ولم تكن المعارضة السورية إذن قادرة على إنتاج ذلك المثقف العضوي في ظل حكم مستبد حال دون وصولها إلى الشعب، إذا افترضنا حسن النية وقدرتها على ذلك، فالمثقف العضوي هو مُنتج اجتماعي من “تحت” ويعبر عن مصالح الذين هم “تحت”. وحين بدا أن الأمور تسير في طريق آخر، وكعادة السوريين وشطارتهم في الحلول الفردية و”اللهم أسألك نفسي”، سحب المعارضون السوريون موافقات اللجوء إلى الخارج من جيوبهم، أو جهزوها على عجل استعدادًا للرحيل، المبررات كثيرة بالطبع وبعضها محق بلا ريب. في هذه الأثناء، صار من المستحيل على المثقف العضوي السوري أن يظهر ويعمل، وقد علق في تقاطع النيران المحلية والإقليمية والدولية منذ منتصف عام 2012 على الأقل، وانتظر الجميع انطفاء الحريق.
على العموم، لم يكن المثقف السوري فاعلًا في مجتمعه منذ عام 1970، وكان محني الظهر تحت ثقل “سقف الوطن الواطئ”، ومجرد عضو في شلة يطلب النجاة، ولم يعد سلوكه يتناسب مع المتطلبات الأخلاقية للتغيير، وأهمها المصداقية وتطابق القول مع الفعل والتواضع والإيثار. كما صار المثقف السوري مستعدًا لتبني ثقافات العالم كلها، بينما هو عاجز عن استيعاب ثقافة مجتمعه والنهوض بها ودمجها بالثقافة العالمية والإنسانية، وهي الحالة النقيض لدور المثقف العضوي المفترض. غني عن القول بأن النخب الثقافية التي كانت مفروضة من قبل السلطة المستبدة هي نخب مزيفة تمثّل الوجه “الناعم” لأجهزة القمع، وتبرر عنجهيتها وصلفها وظلمها.
في هذه الظروف غير المواتية، حيث الحريق لم ينطفئ بعدُ تمامًا والتغيير ينتظر قرارات من بعيد والمجتمع السوري مكبّل ومشتت، يصعب على نخب المجتمع الجديدة أن تتبلور، ولكنها باتت حاضرة، كحالة كامنة، بانتظار مستجدات تُخرجها إلى العلن.
*الناس نيوز