مناهل السهوي: في اليوم العالمي للشعر.. الصحّة النفسية والقصائد

0

أسألُ نفسي كثيرًا: كيف نجوتُ؟ ماذا كنت أفعل كلما أوشكت على الانهيار؟ وعلى عكس المتوقع، لم أبك كثيرًا، لم أصرخ حين خسرتُ شخصًا أحبّه بشدّة، وسيطرت إلى حد كبير على نوبات الهلع التي عانيت منها. كانت الحرب إضافة مرعبة للخسارات والمواجهات والتحديات. ليس صعبًا الاعتراف بأنني نجوتُ حرفيًا بالكتابة، وبشكل أدق: لقد أنقذني الشعر من أكثر اللحظات سوداوية. لا أتذكر متى بدأت بفعل ذلك، أي الكتابة كلما شعرت أني على وشك الانهيار، أو كلما شعرت باضطراب وقلق. أظنُّ أن هذا حدث باكرًا جدًا. أدركت لاحقًا أني كنت أعالج نفسي من دون معرفة، وأن الشعر كان علاجي النفسيّ للتخلص من العديد من الصدمات والخسارات والمخاوف. نعم، كما فعل كثيرون بقراءة وكتابة الشعر، لقد أنقذت نفسي.


حين اكتشفتُ أن الشّعر يشفيني
تعرضت الشاعرة ميكايلا سبنسر في إحدى الحفلات إلى الاغتصاب عام 2014، شُخِصِتْ لاحقًا باضطراب الإجهاد اللاحق للصدمة. بدأت ميكايلا بكتابة الشعر للتغلب على الصدمة، وقالت في إحدى مقابلاتها: “في كلّ مرة أكتب، أكتبُ شيئًا حقيقيًا عن نفسي لدرجة أن أشفيها في كل مرة”.
نعم، هذا ما يحصل، إننا نشفي أنفسنا، لكن هذا الشفاء لا يحصل لمرة واحدة، إنما هو شيء مستمر، تشعر فيه بلذّة الشفاء، تمامًا كما يحدث حين تُشفى من زكام. ففي مرحلة تقع ما بين المرض الشديد، والشفاء التام، هنالك مرحلة صغيرة تشعر بأنك أفضل، وأنك تشفى وتشعر بالرضى، رغم معرفتك أن الزكام ما زال موجودًا في مكان ما من جسدك.
شعرتُ بالراحة كلما كتبتُ الشعر، وهو أمر لطالما تحدثت عنه مع الأصدقاء من الشعراء والقراء، إذ تغدو القصيدة نوعًا من الشفاء، عن طريق تحويل المشاعر المعقدة إلى شيء مقروء، وتحول اللامفهوم عبر الشِعر إلى شيء محسوس، يُقرأ ويُسمع.
يقول المعالج لويس هوفمان: “غالبًا ما يُكتب الشعر في الأوقات التي يشعر فيها الناس بمشاعر شديدة، في الواقع، غالبًا ما تقود المشاعر الشعر”.

لذلك لطالما علّق كثير من القراء على قصائدي قائلين: “كأنك تكتبين عنّي”، يدركون معي أني لا أكتب عنهم، لكننا نتشارك كثيرًا من التجارب والمشاعر بالفعل، بعضهم قادر على التعبير عنها عبر الفن والشعر، وبعضهم يلمس وجودها عبر قراءة الشعر، ومتابعة أنواع الفنون الأخرى، إلا أن القدرة على نقل تجارب الآخرين عبر تجربتك هو أمر عظيم بالفعل، وهو ما اختصره أرسطو حين قال: “القصائد أرقى من التاريخ، لأن الشعر يعبر عن الكونية”.



جزءٌ من تاريخ الشعر والصحة النفسيّة

في مصر القديمة، كانت الكلمات تُكتب على ورق البردي، ثم تُذوب في محلول ليشربه المريض. وهكذا يتمكن من ابتلاع الكلمات لتمنحه الشفاء بسرعة. يدل هذا على إدراك الإنسان المبكر لأهمية الشعر في حياته. في اليونان القديمة، عُبِد أبولو، إله الحقيقة، باعتباره الإله المزدوج للطب والشعر. وجد الفيلسوف اليوناني جورجياس (480 ـ 375) ق. م أن آثار الشعر مباشرةٌ على الروح، فهو يطرد المزاج السيء من الجسد، أما أرسطو (384 ـ 322) ق.م، وفي نظريته بشأن التجربة الشعرية، فيرى أن الشعر يطهّر الفرد من المشاعر المدمرة، ويريح الروح من الشفقة والخوف والجنون، فكان الإغريق من بين أوائل الأشخاص الذين فهموا بشكل حدسي المكونين الأساسيين لكلّ من الشعر والعلاج: اللغة والمشاعر.

غدا الشفاء عن طريق الشعر أكثر اتساعًا في القرن العشرين، بخاصة مع التحليل النفسي لسيغموند فرويد، الذي حوّل الكتابة إلى مهنة علاجية. وبحسب فرويد، الشعر هو شكل من أشكال التسامي، عادًا الكتّاب والشعراء حالمين محترفين. كتب فرويد: “ليس أنا، لكن الشاعر اكتشف اللاوعي”. وهكذا فهم فرويد قدرة الشاعر على التعمق في الذات البشرية، إلا أنه رأى أن مشكلة الشاعر تكمن في حل “صراع داخلي”، حيث يحلُّ العمل الفنيّ محل الأعراض المرضية، أي أنه جعل بشكل ما العمل الفني، أو الكتابة، نظيرًا للمرض النفسي، إلّا أن طالبه كارل يونغ انتقد نظريته، على الرغم من أنه اعترف بالحقيقة التي لا يمكن إنكارها، وهي أن العمل الفني ينشأ من نفس الظروف النفسية، مثل العصاب، لكنه اعترض على قيام فرويد بمساواة العمل الفني بمستوى العصاب: “إذا تم شرح عمل فني بطريقة شرح العصاب نفسها، إذًا، إما أن يكون العمل الفني عبارة عن عصاب، أو أن العصاب عمل فني”، ليمنح التعبير الإبداعي أغراضًا بشرية صحية، إذ يجب على علم النفس التحليلي أن يخلّص نفسه بالكامل من التحيّز الطبيّ، لأن العمل الفني ليس مرضًا، وبالتالي يتطلب نهجًا مختلفًا عن النهج الطبي، فالفن بالنسبة ليونغ هو فلسفة الحياة الإبداعية، وشكل من أشكال التنظيم الذاتي للوعي البشري، الذي أعطى التراث الجماعي للبشرية إمكانية الاستمرار.



كيف نكتب ونقرأ الشعر الشافي

لكن كيف يمكننا كتابة ذلك النوع من الشعر الشافي للنفس؟ يقول إرنست همنغواي: “أكتب بجدية ووضوح حول ما يؤلمك”. يعني الوضوح هنا ألا نخشى مما نشعر به، الخوف من مشاعرنا وقلقنا يقودنا إلى كتابة شعر ركيك. قد تكون قابلتَ مثلي في وقتٍ ما واحدةً من تلك القصائد التي وصفتَ صاحبها بأنه صادق، أو حقيقي. لا يعني هذا أن قصيدته نقلٌ حرفيٌّ لحياته بقدر كونها انعكاسًا شفافًا لمشاعره، ولِما يحاصره في لحظة الكتابة. يختصر الشاعر الإنكليزي، ويليام وردزورث، هذه الميزة في الشعر الشافي: “الشعر هو فيض عفوي للمشاعر، يستمد أصله من العاطفة التي يتذكرها الهدوء …”.
لكن كيف يمكن أن نستخدم الشعر كأداة للعلاج في حد ذاته؟ واحدٌ من أهم رموز الوقت المعاصر في مجال الكتابة من أجل الشفاء هو الأميركي، جون فوكس، وهو محاضر ومعالج معتمد في كلية الدراسات العليا لعلم النفس في جامعة جون. إف. كينيدي في أوريندا، كاليفورنيا، كما يشغل منصب نائب الرئيس في المجلس التنفيذي للرابطة الوطنية للعلاج بالشعر.

في كتابه “العثور على ما لم تخسره”، يحاول فوكس إيصال رسالة مختصرة، وهي أننا جميعًا شعراء قادرون على إعطاء صوت لمثل هذه الحقيقة. يدرّس جون في برنامج شعراء كاليفورنيا في المدارس، معتمدًا على كتابه “العثور على ما لم تخسره”، حيث يساعد القراء على التواصل مع الصوت الشعري الداخلي كي يتمكنوا من الشفاء، معلّمًا طلابه الاستعارة والصورة والصوت والإيقاع. يكشف فوكس كيف يمكن للعناصر الشعرية أن تحكي قصتنا الداخلية، وتشفي الجروح النفسية، لنطور من خلالها الخيال الإبداعي الموجود في داخل كل واحد منا. يتحدث الكتاب عن كيفية معالجة الشعر لروحٍ مجروحة، وكيف يمكن لكتابة حزنك أن تعطي صوتًا للألم الذي تشعر به في حياتك اليومية، الشعر الذي ينحت المشاعر لتأخذ شكلًا فنيًا جميلًا.
العلاج بالشعر هو نوع فرعي من العلاج الكتابي، وليس شكلًا مستقلًا. يدمجه المعالجون في أشكال أخرى من العلاج، مثل العلاج السلوكي المعرفي (CBT)، بهدف التعرف بشكل أفضل على عواطف الشخص وأفكاره التلقائية. كما أن الصور والاستعارات التي يستخدمها الشخص في الشعر قد تكون نافذة على الروابط العاطفية التي لديه. الشعر قد يساعد الأطفال حتى. على سبيل المثال، يشجع المعالج الطفل الذي تعرض للإساءة على قراءة قصائد عن الغضب، كطريقة للتعرف بشكل أفضل على مشاعره الغاضبة. كما يمكن أن يساعد الشعر الأشخاص الذين يعانون من مشاكل عصبية معقدة على الشعور بالوحدة بدرجة أقل. على سبيل المثال، يمكن للأشخاص المصابين بالفصام التعبير عن تجاربهم من خلال الشعر. يمنح الشعر، كذلك، الناس الفرصة لاستكشاف القضايا الوجودية الصعبة. ويستخدم المعالجون أحيانًا الشعر مع كبار السن الذين يحتضرون، أو يعيشون في دور رعاية المسنين.
وسط عالم معقد، مليء بالحروب، والتغيرات السريعة، والأزمات الاقتصادية، حيث يغيب الحضور الفردي للإنسان، قد يقدّم الشعر أفضل مصدر للوضوح، من خلاله نسعى إلى فهم أفضل لحياتنا وحدنا، وأعمق مشاعرنا ومخاوفنا وأحلامنا، ويحمينا الشعر من خسارة فردانيتنا وسط الجماعة المنهكة بالفعل.

*العربي الجديد
مصادر مُختارة:
What is poetry therapy?\ Zawn Villines\ medical news today\ 1-11-2020
How Poetry Can Heal\ Diana Raab, Ph.D\ psychologytoday\ 11-4-2019
Find what you haven’t lost\ John Fox\ TarcherPerigee\ 1995
History of NAPT\ poetry therapy