مصعب قاسم عزاوي، طبيب استشاري في علم الأمراض. مؤلف ومحرر للعديد من الكتب والأبحاث والدراسات باللغتين العربية والإنجليزية.
مجلة أوراق- العدد 16
دراسات
قد يستقيم القول بأن ليس هناك مؤامرات تحاك وراء الكواليس من قبل الفئات المهيمنة محلياً وعالمياً لأجل توطيد هيمنتها، إذ أن ما تقوم به تلك الفئات هو السلوك الطبيعي الذي يقوم به الأقوياء للتنسيق فيما بينهم لضمان استمرار هيمنتهم على المستضعفين، وبشكل يؤطر وينظم كيفية اقتسامهم لمكاسب الهيمنة بشكل مضبوط يخفف من إرهاصات الاحتكاك فيما بينهم، والتي قد يتسرب جراءها بعض الوهن إلى لحمة تكاتفهم إن تكاثرت مفاعيلها، وتحولت إلى شروخ وصدوع في منظومة التنسيق والتكاتف المشترك فيما بينهم في أي زمان ومكان، و هو ما قد يفضي إلى تآكل قدرات هيمنتهم الكليانية على مفاصل الثروة و السلطة و ما يستتبعهما في المجتمعات التي يتغولون عليها.
وسلوك التنسيق السالف الذكر لاستدامة وتوطيد هيمنة الأقوياء على المستضعفين يتم ممارسته في كل الحقول الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ابتداءً من تنسيق تجار الكمبرادور في الدول النامية لاحتكار سلعة ما عبر اصطناع شُحِّها، لأجل رفع سعرها بالتنسيق فيما بينهم، مروراً بالتنسيق بين دول ومجتمعات الأقوياء لضمان هيمنتها على دول ومجتمعات المفقرين التي تقوم باستغلالها، والذي استمراره مفتاح ديمومة بحبوحتها الاقتصادية وما يستتبع ذلك من قوة سياسية، وصولاً إلى ما تقوم به الشركات الكونية العابرة للقارات بشكل مستمر من تنسيق لا ينقطع فيما بينها، وهي صاحبة الحل والعقد الفعلي على المستوى الكوني، لضمان استدامة هيمنتها على موارد الكوكب ونهبها المنظم لثروات بني البشر بغض النظر عن مكان تواجدهم في مجتمعات غنية أو مفقرة.
وإذا أخذ واقع تنكس الإعلام على المستوى الكوني بعين الاعتبار، مشخصاً في حالة تصحر الصحافة الاستقصائية بشكل شامل عمقاً وسطحاً، وتسيد الإعلام الإخباري السطحي وليس النقدي التحليلي، وهو ما يشي بفقدان الوظيفة الجوهرية الاجتماعية المرتبطة بالصحافة أساساً، والمتمثلة بالرقابة على السلطات الاجتماعية الأخرى بشكل يكشف ويعري إفراطها وخطلها وزللها، ويمهد الطريق لأجل نزع الشرعية عنها واستبدالها بأخرى في أي نسق اجتماعي ديموقراطي مهما كان شكلياً أو سطحياً ، وهو الدور الذي تداعى بشكل زلزالي خلال العقود الأخيرة من تغول الرأسمالية المتوحشة بشكلها العولمي على عموم أرجاء الأرضين، والتي حولت الإعلام في سياق تغولها الكوني الكلياني إلى أداة لتشتيت انتباه المقهورين المستضعفين المفقرين، وإشاحة أبصارهم عن العلل الاجتماعية الحقيقية التي أدت إلى واقع البؤس المقيم الذي يعايشونه في حيواتهم يومياً، وحالة انغلاق الآفاق والاكتئاب الجمعي الشمولي الذي تعاني منه جل المجتمعات في عموم أرجاء المعمورة بدرجات مختلفة وأشكال وتلاوين متباينة؛ بالتوازي مع عملية تمسيخ منظم للإعلام والعمل الصحفي المجتهد بحيث تحول هدفه الأسمى في سياق الرأسمالية العولمية المتوحشة إلى أداة للدعاية المضللة، وبوق لتسويق خطاب الفئات المهيمنة في المجتمع على حساب إقصاء كل ما قد يتعلق بالدفاع عن حقوق المستضعفين، إلا إذا كان ذلك يصب في سياق مصلحة تكتيكية بؤرية تتمثل في تحقيق مكاسب مرحلية في سيرورة تنافس الأقوياء اللاتشاحني على حصة كل منهم من غنائم استغلال المفقرين في المجتمع، وهو ما يمكن تحييده ودفعه إلى الصف الخلفي من المهمات في حال نهوض المستضعفين عند أي منعطف لمواجهة الأقوياء الذين لا بد أن يترفعوا حينئذ عن أي تنافس «لا يفسد الود السرمدي بينهم اتفاقاً على نهب المستضعفين»، لأجل غاية أسمى هي التكاتف في وجه نهوض المستضعفين وإعادتهم إلى موضعهم السلبي الخنوع الذي شعوره الوجداني الأزلي لا بد أن يظل مراوحاً في حالة من الإحساس العميق بالعدمية والعجز وانغلاق الآفاق، وأنه لا حول له ولا قوة إلا بالخنوع لإرادة مستبديه ومستغليه الأفظاظ الغلاظ والمشذبين المزوقين المنمقين على حد سواء.
وعلى الطرف الآخر من حالة التصحر الإعلامي كوسيلة أساسية لدفاع المجتمعات عن حقوق المتشاركين بها، لا بد من الالتفات إلى الحقيقة المرة على المستوى الكوني المتمثلة بحالة شاملة من فقدان «المناعة المعرفية» التي تمكن الإنسان من استنهاض قدرات العقل البشري الفائقة في التحليل والنقد والتفنيد لفرز الغث عن السمين، وهي مهارة عقلية لا يمكن ظهورها إلا بتدريب الإنسان على استخدام قدراته الدماغية الفائقة والتدرب عليها، بنفس الشكل الذي يتعلم به الإنسان المشي أو الكلام، وإن كانت أعقد نسبياً لتعدد أشكال ومناحي تطبيقها فكرياً، دون أن يغير ذلك من جوهر عمل الدماغ البشري، والمستند إلى البناء على أرضية القدرات الفطرية الغريزية للدماغ بالتعليم والتدريب والتهذيب والتشذيب والخبرة والتعلم من التجارب وغيرها من مدخلات الحياة لأجل تحويل تلك القدرات الغريزية الفطرية إلى مهارات عقلية فائقة تميز بني البشر عن غيرهم من الكائنات الحية الأخرى. وهو الواقع الذي يصعب تكامله فعلياً في واقع حيوات البشر المعاصرة المحكومة بقوانين الرأسمالية الوحشية المعولمة، وهيمنة الأقوياء فيها على الفئات المستضعفة كأهم جزء محوري في تكوينها وبنيانها وآليات عملها؛ وهو ما يفصح عن نفسه في الميدان المعرفي الفكري بفقدان «بوصلة المناعة المعرفية» بشكل صارخ لدى الغالبية العظمى من بني البشر، ليس لعلة عقلية في أدمغة أي منهم على الإطلاق، وإنما لعدم اكتراث المنظومات التعليمية أساساً في عموم أرجاء الأرضين بتنمية قدرات العقل النقدي والتحليلي والاستنباطي، الذي يؤمن بأن امتلاك الحقيقة المطلقة وعي زائف، وأن المنطق هو سيد الأحكام في فرز الغث عن السمين، وهو الأداة الوحيدة لكشف الحقيقة التي لا يمكن استشرابها ناجزة كاملة دون التفكر بها، إذ أن ذلك يحولها من حقيقة استنتاجية خاضعة للتغير بتغير الشروط التي أدت إلى استنباطها إلى أفكار جمودية متكلسة ليس فيها من أحقية معرفية ومصداقية منطقية سوى العمق اليقيني للمُعْتَقِد بها. وللأسف فإن جل المنظومات التعليمية على المستوى الكوني تؤسس لنموذج من العقل الخضوعي الاستحفاظي الاستذكاري الذي لا هدف له من العملية التعليمية سوى النجاح في الامتحان واستشراب المسلمات الجمودية التي يتم زرق عقل المتعلم بها، والتي تصب مجملها في سلة مفاهيم الرأسمالية المتوحشة المعولمة التي تنظر إلى الإنسان حيواناً برياً في مجتمع هو غابة يحكمها البقاء للأكثر «فتكاً وبأساً»، وأن الذرائعية بكل أشكالها القذرة والبائسة السلاح الأفضل للبقاء في لج تلك الغابة، دون التطرق إلى أن إنسان الغابة الحقيقي في صيرورة تكون الجنس البشري في مرحلة الصيد والالتقاط كان مغرقاً في تعاضده وتكاتفه وإيثاريته وغيريته التي تمثل ميولات غريزية لدى بني البشر كما تثبت كشوفات فيزيولوجيا الدماغ المعاصرة، والتي لولا تلك الميول لكان جنس البشر الذين ليس لهم مخالب فاتكة أو أنياب قاطعة أو فراء تقيهم عسف الطبيعة، انقرض منذ أمد بعيد قد يمتد على سبعة ملايين من السنين هي مرحلة تطور بني البشر الحاليين.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار عنصري الفوات الآنفي الذكر، وأعني هنا التصحر الإعلامي الصحفي، وفقدان المناعة المعرفية، وأضفنا إليهما الميل الفطري لدى بني البشر لإيجاد أي تفسير سببي للظواهر التي يصادفونها في حيواتهم، وهو ميل عضوي مبتنى في القشرة الدماغية ما قبل الجبهية في دماغ كل كائن بشري، فتبدو حينئذٍ «نظرية المؤامرة» بكونها «حبل الإنقاذ» الذي يتوق إليه العقل المجهد والمنهك في محاولة تفهم الواقع البائس الذي يعيش في لجه، وهو ما يعززه فقدان ذلك العقل لأي سند أو معونة كان مفترضاً بالصحافة الاستقصائية تقديمها له للتفكر بها، وهو نموذج العمل الصحفي الذي أصبح شبه معدوم كما أشرنا إليه آنفاً، في سياق تحول الإعلام المتسيد إلى نافذة وبوق يصرح ليل نهار للمستضعفين بأنه لا خيار لهم في حيواتهم سوى الخنوع والقبول بواقعهم البائس الذي هو من طبائع الحياة والأمور، بالإضافة إلى عدم تمكن العقل البشري من إدراك الإمكانيات الفائقة التي يمتلكها في التحليل والنقد والاكتشاف والاستنباط خلال سيرورة العملية التعليمية التي انخرط بها من قبل، والتي كانت محصورة في تعليمه فن الخضوع للأوامر وتنفيذها ببراعة، للتحول إلى عامل حاذق يمكن له خدمة الأقوياء وتنفيذ أوامرهم، دون التفكر والمجادلة بأحقيتها أو أخلاقيتها أو قانونيتها.
و في خضم ذلك الواقع البائس الكالح المحزون تبزغ «نظرية المؤامرة» وتفتقاتها بكونها الوسيلة الوحيدة التبسيطية لإيجاد علاقات سببية حتى لو كانت تلفيقية مختلقة لتفسير ما يكابده الإنسان من عسف وقهر وجور في حياته اليومية لحرمانه سلفاً من إمكانيات الاتكاء على إمكانيات دفاع المجتمعات عن كينونتها الجمعية متمثلاً في حق أبنائها في الدفاع الجمعي عن تلك الكينونة بالاجتهاد لكشف الحقيقة وهو النهج الناظم لأي عمل فكري أو صحفي ذي قيمة معرفية واجتماعية، بالتوازي مع حرمان ذلك الإنسان المقهور من فرصة الاستناد على قدرات دماغه الفطرية في الإبداع والتفكر والاستنتاج والتحليل عبر قمع كل إمكانيات تنميتها تعليمياً وتربوياً واجتماعياً لتحويل ذلك الإنسان المظلوم المقهور إلى إنسان فاقد للمناعة المعرفية وقدرات العقل المنعتق من قيوده وأغلاله، غير قادر على استنهاض إمكانياته وقدراته الكامنة متحولاً إلى نموذج الكائن الخنوع الذي يصبح ويمسي ليتلقى أوامر المتغولين على حياته، والتسبيح بحمد ذلك التوازن الشاذ في منظومة علاقات البشر ببعضهم على كل المستويات، والذي ليس أسهل من نظرية المؤامرة وإفرازاتها حلاً ناجزاً لتفسير ذلك التوازن الشاذ الذي يكاد يقود الجنس البشري إلى حافة الانقراض أو ما كان على شاكلته عملياً إن لم يكن هناك تحرك كلي جمعي لتصحيح مفاعيله التدميرية التي قد تذهب بكوكب الأرض نووياً أو بالجنس البشري انقراضاً تدريجياً خلال بضع عقود جراء الكارثة البيئية الكونية التي أصبحت قاب قوسين أو أدنى إن لم يجتهد المظلومون المقهورون في النهوض من واقعهم البائس بأظافرهم وأسنانهم وعقولهم المؤمنة بحقها في التفكير والتعبير والاجتهاد والتضحية للدفاع عن حقهم الطبيعي في حياة حرة كريمة وعادلة.