ممدوح فراج النابي : مذكرات ناظم حكمت

0

 

يظل الشاعر التركي ناظم حكمت (1902-1963) واحدا من أهم الشعراء في القرن الماضي، وعلى الرغم مما تعرض له شعره من مصادرات ومنع إلّا أنّه ظلّ الصّوت الأكثر انتشارا وأيضا تأثيرا- على مستوى الثقافة التركيّة وكذلك الثقافة العربيّة- في إلهام الشعوب النِّضال ومقاومة المستعمر والسَّعي إلى التحرّر.

ويُعد ناظم حكمت واحدا من الأسماء البارزة في الشّعر التركي المعاصر، حيث كان في شعره عرض مخلص لجميع القضايا الإنسانية، ورفض لعدم المساواة، والأنانية، والبربرية الرأسمالية قديمها وحديثها، كما هو دعوة إلى المحبة الخالصة والأخوة الصافية والطهر والبراءة. كما يُعرف ككاتب مسرحي وروائي. وقد تُرجمت أشعاره إلى أكثر من خمسين لغة، وحصلت أعماله على الكثير من الجوائز.

وقد شارك في حرب التحرير مع بطل التحرير مصطفى كمال أتاتورك في ذلك الوقت، الذي نهض بعبء تحرير الأناضول وإسطنبول ودحر اليونانيين وحلفاءهم من القوى الغربية. ونظرا لحالة المراقبة والتعقُّب التي كان واقعا تحتها بسبب انتماءاته اضطُر ناظم حكمت إلى استخدام أسماء مستعارة في السنوات التي كان يمنع فيها من دخوله إلى تركيا، مثل أحمد أوغوز وممتاز عثمان وأرجومنت أر وأورخان سليم.

 

مجموعة بِيرايا

بعد مرور أكثر من نصف قرن على وفاته في موسكو، يعود اسم ناظم حكمت من جديد، بعد العثور على مذكراته الخاصة التي دوّنها أثناء فترة سجنه، والتي قضى منها 15 عاما ثم هرب إلى موسكو. الآثار الجديدة لناظم حكمت تتكوَّن من ستِّة دفاتر كرّسها لفترة السجن. صدرت هذه الدفاتر في سبعة مجلدات عن دار كريدي كابي للنشر بإسطنبول 2018، وهي من إعداد هاندن دروقوت، وتغطي الفترة من 1937 إلى 1942 في سجون إسطنبول وأنقرة وشانكاري وبورصة. والكتابات الجديدة هي الآثار الباقية عن محمد فؤاد بعد وفاته. وكانت مصنفة تحت عنوان “أرشيف محمد فؤاد” وقد ظهرت في ما بعد باسم “مجموعة بيرايا“. وقد احتوى هذا التراث النادر على أعمال لم تُنشر من قبل لناظم حكمت. وتضمنت المجموعة أشعارا، وروايات غير مكتملة، ومسرحيات، ورسائل. ويتألف “منتدى أعمال مجموعة بيرايا” من أردان أك بولوت، وياشيم بيلقه، وهاندن دوقوت، ومحمد أولوصا.

ناظم حكمت يعد واحدا من الأسماء البارزة في الشّعر التركي المعاصر

أهمية هذه الآثار الجديدة أنها تعطينا فكرة عن كتابات السجن خلال هذه الفترة، وتوضح لنا كيف عاش الشاعر ناظم حكمت في هذه الفترة العصبية، وكذلك ما الذي كان يشغله ويفكر فيه على الدوام. وكذلك في كونها المسودات الأولى لأعماله التي ظهرت في ما بعد. كما تظهر هذه الكتابات أن ناظم حكمت كان يكتب شعره بسهولة مقارنة بنصوصه السردية. كما تكشف عن مراحل تطوُّر القصيدة لديه من كلمة أو من صورة صغيرة. أي كيف تتطوّر القصيدة وتصير شعرا مكتملا، وكذلك كيف يتطوّر الفكر والخيال عنده من خلال تصويباته المئات من المرات، وتكرار الكتابة.

وقد أشارت تولاي جونقن المدير العام لدار نشر كريدي كابي للفنون والثقافة في تصريح خاص للصحافيين بعد تدشين النُّسخ الجديدة التي طُبعت منها 5 آلاف نسخة في أوَّل مرحلة “لقد نشرنا تقريبا 5 ملايين كتاب في عام 2017، ومنها 5 آلاف نسخة من آثار ناظم حكمت الشعرية”. وعن الكتاب الجديد مذكرات ناظم حكمت تقول إنه “تمت طباعتها في أحجام صغيرة رقيقة، وبعضها بأحجام أكثر سمكا، وقد جعلناها في مقاسات خاصة، وأشرنا إلى صفحات تمّ حذفها مكتوبة بالقلم الرصاص، وقد حذفت بسبب طول الوقت، بالإضافة إلى النصوص القديمة والجديدة، تم إدخالها في صفحات الكتاب مع تصميم خاص، من أجل أن تقرأ بصورة جيدة، وسليمة، ومرتبة وفقا للترتيب الأبجدي.

وكان ناظم يُسجِّل أسفل الصفحات ملاحظاته على هذا العصر وكان بعضها عبارة عن رسومات ومسودات عن القصائد والملاحظات حول الحالات. وهكذا صارت لدينا 6 دفاتر و6 كتب. بالإضافة إلى ذلك، تم تقديم العديد من الوثائق، والصور، والرّسائل، والبرقيات- التي تم فتح العديد منها للمرة الأولى- وتمّ جمع بعض المراجعات الإضافية في الكتاب السّابع المسمّى ‘ملحق’. فصار مجموع الأجزاء سبعة أجزاء في علبة واحدة، وتمت طباعة 5000 نسخة منها”.

 

أيّام العزلة

يحكي ناظم حكمت تحت عنوان “العزلة” ذكريات موجزة، فيبدأ بزواجه في 31 يناير 1935، من السيدة بيرايا في “قاضي كوي“، ولقد ظلت لسنوات طويلة أشبه بعلاقة عشق رسمية، وقد وصفها في إحدى قصائده قائلا “إنها امرأتي العسلية العينين، النارية الشعر والجدائل….”، وقد عاشا الاثنان على أحد الأسطح الفقيرة. وفي هذه الأثناء أخذ يكتب ناظم حكمت في الصحف والمجلات، وكذلك يؤلِّفُ الكتب. كانت كما يصفها بأنها “سنة مثمرة جدّا“. وفي نفس العام من ديسمبر نُشرت في صحيفة شيكتش قائمة عرفت بالقائمة السوادء. كان اسم ناظم حكمت واحدا منها، بعد أن تم تفكيك شفرة الاتصالات السرية. وفي 27 ديسمبر 1937 أُخذ ناظم حكمت إلى السجن، كان الاتهام الموجّه له أنّه حاول نَشر الأفكار الشيوعية عن طريق منظمة شيوعية، لكن المحكمة برأته.

وفي أغسطس من عام 1937 زاره عمر دينيز في مدرسة الحرب، وكان يسعى من هذه الزيارة لحمايته، ولكن أراد ناظم أن يضع حدّا لهذه الأنشطة فأخذ قرارا بمنع الأنشطة. وفي 17 يناير 1939 اقتيد للحبس مرة ثانية بتهمة تحريض طلاب مدرسة الحرب العسكرية على التمرد. وقد اقتيد هذه المرة من منزل نسيبه جلال الدين أزينة، دون تمهيد أو إذن أو إنذار، ومن ثم نقل إلى السجن المركزي في أنقرة. وكانت هذه بداية فترة اعتقال ناظم الطويلة. وقد بقي طيلة 56 يوما في حبس انفرادي. وقد حُكم عليه في أحداث مدرسة الحرب بالحبس لمدة خمسة عشر عاما. وفي نهاية يونيو من عام 1938 أخذت منه وظيفته كضابط في الحربية. وقد حكم عليه في هذه الدعوى الخاصّة بتحريض الطُّلاب بالعصيان لمدة 13 عاما وأربعة أشهر. ومجمل الأحكام الصادرة في حقه كانت 28 عاما وأربعة أشهر، بالحبس المشدد، وقضى السنوات الأخيرة بين سجون إسطنبول وأنقرة وشانكاري وبورصة. كان يسجّل ناظم حكمت في دفاتر صغيرة هذه الوقائع، ويدون الملاحظات في هذه العزلة، وراح يكتب الكتب النثرية، وأيضا يفكر في الشّعر.

وقد دوّن في الكتاب الأوّل من الدفاتر أحداث عام 1937، وهو بعنوان “رحلة سفينة يوسف الحزينة إلى برشلونة” وشغل الكتاب الثاني أحداث مدرسة الحرب عام 1938، وجاء بعنوان “رسائل رجل في الحبس الانفرادي“. واشتمل الدفتر الثالث على مسودات قصائده في هذه الفترة.

وعن فترة سجنه في سجن سلطان أحمد وفترة الاستخدام في حبس شانكاري جاء الدفتر الرابع ومعظمه أشعار مختصة بهذا السجن، ومسودات هذا الدفتر ستكون في ما بعد كتابا بعنوان “الأربعة محابس” أما الدفتر الخامس فقد جهزه لزوجته بيرايا، وهو بعنوان “رسائل إلي بيرايا من شانكاري“. أما الدفتر السادس فهو يشغل عام 1941، ويحتوي على المسودات الأولى من الديوان الذي سيصير “مناظر بشرية من بلدي“. أما الدفتر السابع فقد جاء في 298 صفحة، وهو عبارة عن “ملحق” ويحتوي على معلومات عن الدفاتر الستة السابقة، وهو بمثابة توضيحات عن الدفاتر الستة، ومزود بملحق غني بالمعلومات والصور عن ناظم حكمت.

ويصنف الناشر هذه المجموعة الجديدة “بأنها أكبر تركة تركها ناظم حكمت“. ومن المصادفات العجيبة أن مجلة “خزانة الكتب” في عددها 195 لشهري يناير وفبراير 2018، نشرت مقالة لسزين أي دامير، بعنوان “سيدة من البوسفور: منوّر آردنش“. وذكر فيها أن هناك مراسلات كثيرة كانت بين ناظم حكمت وزوجته منوّر هانم، في الفترة ما بين 1955 إلى 1961. ووصل عدد الرسائل إلى 800 رسالة، وهي غنية من حيث المحتوى، وأشار إلى أن هذه الرسائل تعكس لنا الأجواء السياسية والثقافية في هذه الفترة من تاريخ تركيا.

ذكريات موجزة

الجدير بالذكر أن هذا الاهتمام بشاعر تركيا الكبير، يأتي بعد مرور أكثر من 116 عاما على مولده. حيث ولد في عام 1902 بمدينة سالونيك التي تقع في شمال اليونان. وقد ظلت أعماله ممنوعة في تركيا بسبب أيديولوجيته اليسارية، حيث ارتبط بالشيوعية عندما ذهب إلى موسكو للدراسة عام 1921، ودرس هناك علم الاقتصاد والعلوم السياسية في الجامعة الشيوعية لكادحي الشرق. وهناك في موسكو أصدر أول ديوان له عام 1924.

وعاد ناظم حكمت إلى تركيا وعمل في مجلة “التنوير”، لكنه سُجِن بسبب قصائده الشعرية والمقالات التي كتبها في المجلة لمدة خمسة عشر عاما. ومن ثم اضطر إلى الهروب إلى الاتحاد السوفيتي التي لم تكن كما زارها في العشرينات نابضة بالفن والحياة والجرأة. صارت موسكو ستالين قاتمة رمادية تعلّم كتابها وفنانوها قمع أفكارهم قبل أن يقمعها ستالين بالنيابة عنهم كما ذكر بنفسه، حيث كظم المبدعون الشيوعيون غربتهم لأنهم تصوروا أن العالم يحتاج إلى شيوعية ناجعة.

سكت مغني الحرية كما وصفه بابلو نيرودا عن تجاوزات ستالين، ولكنه عاد إلى تركيا مجدّدا عام 1928، واستفاد من قانون العفو وبدأ العمل في جريدة “القمر الساطع“، ولكن بعد ذلك عوقب بالسجن لثمانية وعشرين عاما في عام 1938. وهي الفترة التي دوّن فيها هذه الدفاتر، لكنه استمر في الحبس لمدة 12 عاما وبعدها فر إلى موسكو من جديد عام 1950، وفي عام 1951 سحبت منه الجنسية التركية بقرار من مجلس الوزراء، وإن كانت أعيدت له الجنسية عام 2009 بعد مرور 46 عاما على وفاته، التي كانت حدثت في موسكو إثر أزمة قلبية عام 1963.

الغريب أن ناظم حكمت الذي انتمى إلى الحركات الشيوعية في ولائها للشعوب المقهورة، ينتمي إلى أسرة عريقة، وقد عبّر عن هذا في إحدى قصائده بأنه “عندما كان في الثالثة كانت وظيفته في الحياة هي أن يكون حفيد ناظم باشا عمدة حلب” فأمه جليلة هانم أرستقراطية أيضا والدها أنور باشا تربوي عظيم، كانت رسامة وتجيد الفرنسية كما كانت عازفة للبيانو. وقد درسَ في المدرسة البحرية وتخرج فيها ضابطا، ثم عمل مدرسا في إسطنبول.

وعندما وقعت إسطنبول تحت الاحتلال، كتب قصائد تحث على المقاومة والنضال، كما ذهب مع صديقه ولاء نورالدين (ابن آخر الولاة الأتراك في بيروت) إلى إسطنبول لحث الشباب على الانخراط في أعمال النضال والمقاومة، عن طريق الشعر، ثم سافر هو وصديقه إلى موسكو للدراسة في الجامعة هناك. وعندما عاد إليها مرة ثانية، وافته المنية في ظروف غامضة في الثالث من يوليو عام 1963. وقد تحققت نبوءته في موته غريبا ومتألما على الرغم من حبه لوطنه حيث قال عن نفسه “أنا الذي تجسدت فيه مدينة إسطنبول … فاشهد يا شعب تركيا، وآن لكَ أن تشهد ما أعاني من آلام …” وقد كتب عنه بابلوا نيرودا “إنه شاعر كبير، وشعره كان للعالم بأسره/ ورجل كبير ينتمي إلى غالبية البشر” أما ميغيل إنجيل استورياس فوصفه بأنه “لقد كان في شعره نشيد المقاتل من أجل السلام، وهو في خندقه”.

 

المصدر : الجديد

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here