ممدوح عزام: هل تُعار القصيدة؟

0

أكثر ما يُحيّر في كتاب طه حسين “في الأدب الجاهلي”، هو أنّ عميد الأدب العربي اعتبر قصيدة “سما لكَ شوقٌ” منحولةً، ورفض أن ينسبها إلى امرئ القيس. وليس لديّ ما يثبت العكس أبداً، ولا أزال كذلك، كلّما أعدتُ قراءة الفقرات التي يقول فيها طه حسين ذلك الرأي. والحقيقة أنّ الحجج التي يُقدّمها مقنعة، ومن الصعب دحضها. ومن فحوى الكتاب يمكن أن نستنتج أن أحد اثنين هو الذي كتب القصيدة: خلف الأحمر، أو حماد الراوية. ويقول العميد إنّ كلّاً منهما “ليس له حظٌّ في دين ولا خلق ولا احتشام ولا وقار. وكلا الرجلين كان سِكّيراً فاسقاً مستهتراً بالخمر والفسق”.

لكنّ الغريب في هاتين الشخصيّتين أن “كلّاً منهما كان أستاذاً في حفظ الشعر… ولم يكونا يحفظان الشعر ويُحسنان روايته، وإنما كانا شاعرين مُجِيدين”، والقول أيضاً لطه حسين. ومع ذلك، فإنّ واحداً منهما كتب قصيدة “سما لكَ شوقٌ” ونسبها إلى امرئ القيس. المُحيّر هو السؤال الآتي: ماذا يمكن أن يجني أيُّ ابن آدم من المكاسب أكثر من أن يكتب قصيدةً بهذا المستوى الجميل، الذي عبَر الزمن ووصل إلينا وهو يقول: “سما لكَ شوقٌ بعدما كان أقصرا”؟ وفي القصيدة أيضاً: “بكى صاحبي لمّا رأى الدربَ دونه/ وأدرك أنّا لاحقان بقيصرا”، أو: “فقلت له لا تبْكِ عينُك إنّما/ نُحاول مُلكاً أو نموتَ فنُعذرا”. 

أعرف أشخاصاً وصلوا إلى أعلى المراتب العِلمية والسياسية وكانت أمنيتهم أن يكتبوا شعراً جيّداً، أو يصبحوا روائيّين. فمسألة الخلق والإبداع شهوةٌ أو حلم لا تطاوله إلّا قلّةٌ قليلة بين البشر، ولها علاقة قويّة بالرغبة في البقاء أو الخلود. هل يقبل أيّ شخص في العالم كلّه، خصوصاً إذا كان شاعراً مُجيداً، أن يكتب شعراً جميلاً مِن طراز هذه القصيدة التي خلّدها التاريخ العربي، ثم ينسبها بإرادته إلى شاعر آخر؟ فكيف إذا كان سيختفي، أو سيُحشَر في التاريخ كمزوّرٍ ودسّاس، ويُشتهَر من نسب إليه القصيدة، ويرتفع مقامه في التاريخ الأدبي لأمّة من الأمم؟ 

الطريف في الأمر أنّ القصيدة الجميلة، وكذلك تلك الحكاية التي كُتبت حولها، دخلت التاريخ أيضاً بوصفها تراثاً عربياً، بغضّ النظر عن قائلها أو مؤلّفها، وهي ضربةٌ ثانية تُوَجَّه للمزوّر، إذا كان موجوداً، حين يُزَوَّد تراثُ أمّة بمثل هذه القصيدة بقصد تخريبه أو زعزعته.

وهكذا، فإنّ شاعرين مُجيدين في التاريخ العربي قرّرا أن يتحوّلا إلى دسّاسَيْن مزوّرَيْن من أجل أن يعلو مجد شعراء آخرين، من عصر آخر، لا تربطهم بهم أيّ رابطة قبلية أو عائلية، أو فكرية. وهي فعلة لا مثيل لها في التاريخ كلّه؛ لا أقصد التزوير، بل أقصد التخلّي عن شعرٍ رفيع جميل ونسبته إلى آخَر، للتسلية أو لتأليف تاريخ آخر.

هذه مسألة محيّرة للغاية، والمحيّر فيها متعلّقٌ بشخصية المبدع، أو ذات الكاتب. وإذا ما كان تحليل طه حسين صحيحاً، فالسؤال موجّه لحماد أو لخلف: هل تُعار القصيدة؟

(العربي الجديد)