على الرغم من وُضوح الأهداف التي تُحارِب أيُّ ثورةٍ في سبيلها، وهي النضال من أجل الحرية والعيش الكريم، فإنّ كثافةَ اليَأس، والشعور الضمني بأنّ تحقيقها صعب، أو مستحيل أحياناً، في مواجهة قوّة عسكرية عاتية، يُفضي إلى تأسيس ذلك المفهوم الغريب الذي يُعبِّر عن فشلِ أيِّ تمرُّد، أو ثورة، أو انتفاضة، وهو اليقين بأنّ هذه الحرب هي إيذانٌ بنهاية العالَم.
في الغالب، وحسب الرؤية الدينية، فإنّ نهاية العالَم ستكون سعيدة؛ وهي تُفضي بالضرورة إلى الحساب؛ حيث يذهب المؤمنون إلى الجنّة، بينما يذهب الكفّار إلى الجحيم. ولهذا فإنّها تمنح المُقاتلِين شُعوراً بالرضا، بالرغم من إدراكهم لخسارة القضيّة. غير أنّها في الحروب تعني فعلاً تدميرياً يمثّل الخسارة الكلّية، والخيبة، والفشل، والعجز عن الوصول إلى الغاية.
تتقلّص الأرض كلّها، والبشرية أيضاً، كي تصبح مطابقة للجغرافية التي يُقاتل ضمنها الثوّار، ويسود إيمانٌ عميق، بأنّ خسارة هذه الثورة، أو هذا التمرّد، (غالبية الثورات في العالم كادت أن تتبنّى مفهوم نهاية العالَم مع اقترابها من الفشل)، يعني نهاية العالَم. لا نهاية العالَم كما نعرفه، بل نهاية كلّ شيء.
يمنح ماريو فارغاس يوسا روايته هذا العنوان: “حرب نهاية العالَم”، واللافت أنّ الحرب في هذه الرواية الضخمة (719 صفحة، في الترجمة العربية) لم تكن تتعلّق قطّ بالسماء، أي بعكس ما قد يُوحي عنوانُها، بل بكلّ ما هو أرضيٌّ ويوميٌّ ومحدَّدٌ ومتعلّقٌ بمعيشة البشر وبخياراتهم على الأرض. في تلك الحرب التي تسجّلها الرواية، يسعى “الأنصار”، وهم الثوّار بحسب ما نفهم، إلى الحفاظ على حياتهم، وحياة أولادهم، وبقاء رزقهم، بعيداً عن سُلطة الدولة الجديدة التي لا تتفّهم مطالبهم، بينما يحمل أعداؤهم (وقد لخّصهم الروائي في شخصيّة العقيد موريرا سيزر، وبعض السياسيّين) شعار الحفاظ على النظام الجمهوري، وعدم عودة الملَكية، وسيادة الجيش.
يُمثّل العقيد الوجه الآخر للإيمان بنهاية العالَم، فهو يُريد هدم العالَم القديم، وبناءَ عالَم جديد آخر، وقد يُعتبر ممثّلاً للتقدُّم، في مواجهة المفاهيم التي يحملها الثائرون، ولكنَّ طريقته تحوِّل العالَم إلى مجزرة، فالمشكِلة، ليست في الأهداف، بل في الوسائل. تحقيق الهدف، وهو تثبيت أركان النظام الجمهوري، يُمنَح العقيد الذريعة الأخلاقية للقِيام بحرب إبادة لا أخلاقية، حيث يقتل في طريقه كلَّ مَن يشكّ في ولائه للدولة.
كلا الفريقَين المتقاتلَين يضع الإنسانيّة أمام عدالة مشروعه، فأمّا الأنصار في كانودس فإنّ ما يريدونه، في العمق، هو الحرّية والحياة الكريمة، بينما قد يقومون بتغليف المَطالب برفض الزواج المدني، وتسجيل النفوس، ودفع الضرائب، لكنّهم يمارسون أيضاً أشكالاً فظيعة من العنف، للردّ على عنف العقيد، بينما يتحرّك العقيد للتخلّص من تركة الملكيّة وملّاك الأرض. لا مكان للصلح ولا للتفاوض بين الفريقين، ولهذا فإنّ الفريق الخاسر – وفي الغالب كانت الأحلام والأُمنيات هي التي تخسر- الذي يدرك أنّه لا يستطيع الانتصار في الحرب، لا يجد أمامه غير الإيمان بنهاية العالَم. يبدو هذا الإيمان نوعاً من التعويض، ربّما هو محاولة لتجاوُز اليأس، بعد دمار الحلم.
*العربي الجديد