وضعتْ روايةُ الطيب صالح، “موسم الهجرة إلى الشمال“، الفكر العربي كلّه تقريباً أمام خيارين: أن يقف إلى جانب كلّ من الراوي والروائي، أو يقف إلى جانب خيارات الشخصية الروائية. وأبرز ما قدّمه النقد العربي عن رواية الطيب صالح، أنها تضعنا أمام قضية العلاقة بين الشرق والغرب، أو، بحسب عنوان الرواية، قضية العلاقة بين الشمال والجنوب. وقد ذهب مصطفى سعيد، الشخصية الرئيسية في الرواية، إلى الشمال (بريطانيا هنا) لمتابعة دراسته، فأحبّ، وعاشر النساء، وتزوّج، وارتكب جريمة قتل، ثم عاد إلى بلاده ومات هناك منتحراً في النهر. غير أن الراوي، وهو مَن يروي قصّة مصطفى سعيد في الرواية، وكذلك الروائي نفسه، الطيّب صالح، لم يختارا خيار سعيد، باستثناء أنهما درسا في بريطانيا. فقد عاد الراوي إلى بلاده، وعاش حياة عادية، بينما بقي الروائي هناك يعمل إلى نهاية حياته التي لا تتضمّن أيّ منحى دراماتيكي عنيف، على غرار حياة بطل روايته.
حُسم الأمر سريعاً من البداية في الفكر العربي، أي من الوقت الذي صدرت فيه الرواية، وبفضل قوّة الصيغة الروائية التي كُتبت بها “موسم الهجرة إلى الشمال”، فإن هذا الفكر قد انحاز إلى جانب خيارات الشخصية الروائية، لا خيارات الروائي.
وكان هذا مؤشّراً لافتاً على مسألتين: الأُولى هي أن الفكر العربي كان قد تَجاوز الموقف الذي يربط الروائي بسلوك الشخصية الروائية وخياراتها، وهي المسألة التي عانى منها عددٌ كبير من الروائيين العرب، ولا يزال كثيرون منهم يعانون من استحقاقاتها الأيديولوجية ذات الطابع التعصّبي، عِلماً أنه موقف لم يتجذّر بقوّة في هذا الفكر، ولم يُستثمر بشكل واسع كمثال حيوي يعفي الروائي من المسؤولية عن أفعال وأقوال شخصياته. والثانية هي أن الفكر العربي في جوهره لا يزال فكراً مُعادياً للغرب، دون أن نعفي تيّارات مهمّة في الغرب من نزعة عداء مماثلة. وفي الرواية الكثير من الأقوال والعناصر التي تعزّز هذا الاستنتاج، لكنّها، أي الرواية، لم تكن هي التي ولّدته، بل كانت أفضل استجابة لنزعة تأصّلت بقوّة في الوجدان والضمير العربيين، بعد معاناة عنيفة مع الاستعمار، ووضعت الفكر العربي أمام أخطر تناقض بنيوي: فمن جهة، تُعتبر الثقافة الغربية، بتنوّعها، المصدر شبه الوحيد الذي استقى منها الفكر العربي المعاصر، ولا يزال، معظم معارفه العلمية والفلسفية والنقدية؛ ومن جهة ثانية، يَعتبر معظم مثقّفي اليسار واليمين العربيين مصدر تلك الثقافة، أي الدول الغربية، عدوّاً.
ولهذا، لا تجد في معظم الدراسات والمقالات النقدية التي تناولت عمل الطيب صالح أي إدانة أخلاقية، على الأقلّ، لفعل القتل العنيف الذي ارتكبتْه الشخصية الروائية ضدّ شخصية روائية نسائية لم تفعل شيئاً، ولا تتحمّل أي وزر من أوزار الاستعمار الغربي، عدا كونها تحمل الجنسية البريطانية.
لا يزال موسم الهجرة إلى الشمال، أو الغرب، مستمرّاً، ومن بين المهاجرين العرب مَن أُرغم على هذا الخيار، غير أن مِن بينهم مَن هاجر إلى هناك مختاراً، بينما لا تزال نزعة العداء تتحرّك ذهاباً وإياباً في كلا الاتجاهين.
“العربي الجديد”