كان جدي يحكي لنا عن اللصوص الذين يأتون ليلاً إلى منازل القرويين، في زمن شبابه، فينبشون الجدران ويتسللون إلى الداخل ويسرقون الأغنام أو الماعز أو الخيل، وفي مرات أخرى كانوا يتسللون إلى أي دار في غفلة من النيام وينهبون ما يستطيعون حمله من القمح والشعير. بينما كان لصوص آخرون يقطعون الطرق ليلاً أو نهاراً ويسطون على المتنقلين بين الأرياف، وقد اختار الناس أن يسموهم ” الكسّارة”. وفي الوعر القريب من القرية منطقة صخرية يصعب الوصول إليها، أو البحث بداخلها، يظن أن اللصوص وقطاع الطرق كانوا يتخذونها مقرات لهم، تحميهم وتخفيهم عن أعين الناس، ولهذا فقد سميت “الكسار”.
وقد بدا ذلك العالم الذي يحكي عنه الجد جحيمياً يشبه الكوابيس، وكنا نحن الصغار نجلس مشدوهين من صورته القبيحة، حيث لا أمان ولا طمأنينة ولا حراس، عالم الأقوياء الشرسين، عالم الذئاب. لم يكن خيالنا يستطيع أن يستوعب ذلك الكم من الرداءة التي ينحدر إليها بعض البشر حين يغيب القانون والأخلاق معاً، ولم نكن قادرين على تصديق أن بوسع بعضهم الآخر أن يحتملوا حياة مسمومة بالخوف والحذر والترقب. لهذا اعتقدنا أنها مجرّد حكاية ليلية ينتجها الخيال.
كان هذا في زمن طفولتنا، أما في الزمن الذي صرنا فيه نحن الأجداد فقد بدا كأنما نعيش في تكرار مرعب ومذل للتاريخ، أو كأننا بلا تاريخ، إذ لا يعقل أن يكون التكرار سريعاً وخاطفاً ومدمراً مثل زماننا، أو أن يكون التكرار علامة من علامات هذا التاريخ الغريب. فقد آلت الأمور إلى الماضي في حركة خاطفة وسريعة. فلم تمض بعد غير بضعة عقود على حكايات الجد حتى رأينا الزمان يعود إلى سابق عهده.
صارت الحكايات التي كانت تروى لنا مشاهد مرئية تجرّب يومياً: قلما يجرؤ أحد على السهر خارج بلدته اليوم. ولم تعد الطرق آمنة، وصار بوسع العصر الحديث أن يقدّم للصوص المعاصرين خدمات شتى، فلا ضرورة أن يأتوا لنبش الجدار بحثاً عن الأغنام، بل صاروا يقتحمون البيوت لإرغام أصحابها على دفع ما ادخروه من مال، وما عادوا يأتون في الليل، بل في وضح النهار، أي في العلن، هذا هو المعنى المعجمي للعبارة المجازية: وضح النهار.
كيف يمكن أن يكتب الروائي عن الخراب؟ يقف الروائي حائراً أمام اختيار الشخصيات المرشحة لأداء أي دور من الأدوار في روايته التي يخطط لكتابتها، فكثير من تلك الشخصيات تحولت إلى لصوص في الواقع الاجتماعي الذي يعيش ضمنه الكاتب، ومن الصعب إعادة تأهيلهم روائياً، أي من الصعب كتابة رواية تكذب على نفسها أو تكذب على الواقع. والمحزن في هذا الوضع الاستثنائي أن معظم تلك الشخصيات تنتمي واقعياً إلى ذلك العالم الفقير المحروم، وقد باتوا اليوم أعداء لعالمهم.
كل عبارة تكتب اليوم، تبدو كأنها مجرّد استعادة للحكاية القديمة. والأبطال المرشحون لا يتصفون بأي بطولة وقد فقدوا حسّهم الإنساني والأخلاقي، أما الآخرون فنحن الضحايا الهاربون إلى القواقع.
لم تعد ثمة حكايات تروى للحفيد حين يعيش الجد والأب والحفيد معاً في زمن اللصوص.
(العربي الجديد) – اللوحة للفنان السوري أنس حمصي