تمتلئ رواية كاتب باراغواي أوغستو روا باستوس، الذي نقرأ له للمرّة الأولى في العربية روايته “ابن الإنسان” (صادرة عن دارَي “سرد” و”ممدوح عدوان”، ترجمة: بسّام البزّاز، 2022) بحكايات الناس الذين تستهلكهم الحرب، والاستغلال، والقتل، والاغتصاب، والقهر، والجُوع، والحرمان، والمرض. إنّهم يصطدمون بكلّ القوى الغاشمة التي تعرقل وتدمّر حياة الإنسان، بينما يحاولون صُنع مصيرهم. بل ثمّة ما هو أدهى من ذلك، إذ تستخدمهم سلطة غاشمة يثورون عليها، في حروب عبثيّة مع دولة مجاورة.
هؤلاء هم الناس الذين لا شأن لهم في صناعة السياسة، أو تقرير توقيت الحرب، أو زمن إنهائها. لهذا فإنّ الروائي لا يحكي لنا شيئاً عن أسباب الحرب. يسخر منها مرّةً على لسان إحدى شخصيّاته التي تتكلّم عن صراع الحدود بين باراغواي وبوليفيا على أنّه خلاف على سندات التمليك.
لكن الروائي يُلاحق حيوات الناس، إنه يختارهم كضحايا، لا كأبطال، ولهذا فإنّنا غالباً لا نستطيع تتبُّع نموَّ الشخصية، أو الحدث، لأن الروائي هنا يضرب بقوّة في عُمق البُنية الفنّية للرواية الكلاسيكية المعروفة، بدايةً ووسطاً ونهايةً. ففي سياق تاريخ المكان، يتلاعب الروائي بالزمان، حيث يكسر التراتب الخطّي، ويبدأ روايته من زمان ومكان ما، ثم يأخذ بالدوران داخلهما ذهاباً وإياباً، بحثاً عن أولئك الذين طحنتهم آلة الحرب، أو وحشية الاستغلال، عبر ذاكرة الراوي الذي يبدأ طفلاً، وينتهي ميتاً برصاصة في حبله الشوكي.
ولعلّ السؤال الأهمّ الذي يضعنا أمامه فنّياً هو سؤال: كيف تكتبُ عن الحرب؟ وقد سبق أن أجاب عنه العشرات من الروائيّين في العالم، وبكلّ اللغات، وكان لدى كلّ واحد منهم جوابه المختلف، لدى همنغواي جواب، ولدى شولوخوف جواب، ولدى ياروسلاف هاتشيك صاحب رواية “الجندي الطيب شفيك” جواب، ولدى إريش ماريا ريمارك جواب، ولكنْ ثمّة خيط دقيق يجمع بينهم، وهو أنّ الحياة الإنسانية التي تدمّرها الحروب لها الأولوية في تصدُّر القيمة الفكرية للرواية. يُسكتُ الروائيون المدافع والبنادق، كي يسجّلوا مصير البشر. وهو ما يفعله أوغستو روا باستوس هنا، حيث يعيد كتابة تاريخ بلاده بالدم، أو بالحِبر المغموس بدماء الرجال والنساء والشبّان والبنات الذين أُرغموا على خوض الحرب.
اللافت أنّ الفصل الوحيد الذي يتتبّع الروائي فيه مُجريات الحرب، هو الفصل الوحيد الذي يفقد فيه حرارة الكتابة، فلا يتضمّن إلا القليل من المشاعر الإنسانية، على الرغم من أنّ الروائي يحاول أن يُطعّم الكلام عن الوقائع بقصّة حبّ غريبة، أو بالمصائر الحزينة لأولئك الشبّان الذين يُقتلون هناك بلا طائل، وكأنّ الكاتب يريد أن يقولَ، وهو يقول ذلك عبر النص، بأن الحربَ تفتقر بالضرورة إلى أيّ مساحة ممكنة للوجدان، وإنّها كما تسجّل في هذا الفصل، مجرّد حركة تذهب في اتجاه الموت.
يختتم الروائي نصّه البديع، قائلاً على لسان الراوي: “لا بدّ من مَخرج من تناقض الإنسان المصلوب على يد الإنسان، وإلّا فسيقودنا تفكيرنا إلى أنّ لعنةً أبدية حلَّت بالجنس البشري”. لا يبدو حتى اليوم أنّ لدينا أملاً قوياً في التملُّص من هذا الرعب.
(العربي الجديد) (اللوحة: جوان خلف – سوريا)