تشكو السياسة العربية تدخّل الروائيين في شؤونها، ويُعيب بعض النقّاد على الرواية هذا الاقتحام الذي قد يوصف، من قِبل النقد، بأنّه فظٌّ وتقريريّ ومباشَر وضارٌّ بالفن. ولكنْ قلّما يلوم، أو يردع، أحدٌ من النّقادِ السياسةَ على أنّها هي التي تقتحم حياة الروائيين وموضوعات الرواية معاً. ذلك أنّ السياسي، أو الحاكم، هو الذي بادر إلى التدخّل في جميع شؤون الحياة التي يعيشها العربي، منذ أن بدأت الدول العربية تستقلّ عن الاستعمار حتّى اليوم، بحيث بات على الروائي أن يسحب أبطاله، أو شخصيّاته، من الوضع السياسي، لا من الواقع بالطبع، أو أن يضطرّ إلى تأمّل حالها في هذا الوضع.
لهذا ترى أنّ الرواية العربية، مع حساب التفاوت بين بلد عربي وآخر من حيث قوّة وعنف ووقاحة اقتحام السياسة للحياة اليوميّة، هي التي تبدو أكثر انشغالاً بالسياسة. ويمكن للقارئ أن يضع اسم أي بلد عربي ويتفحّص حجم الحرّيّة الشخصيّة، التي يعتدي عليها السياسي – هذا إذا لم نذكر كيف يُهيمن أو يدمّر الحريات العامّة الأخرى – ويخبرنا عن الهامش الذي يمكن أن يُترَك لحرّيّة الرواية والروائي.
لم يذهب الروائي العربي إلى السياسة مختاراً، بل إنّ السياسة هي التي جاءت إليه: حاصرته ومنعته من أن يفكّر في قضايا الحياة عامةً، من دون أن تكون موجودةً فيها، ولاحقت نشاطه الخاصّ أو العامّ، كمواطن أو ككاتب، وصادرت الحرّيّات الشخصيّة والعامّة، وكمّمت الأفواه، ووضعت لوائحَ خفيّة للمنع والمصادرة، ووضعت الرقابة على التفكير والتأليف. كانت موجودةً في كل منعطف والتفاتة وموقف، لا في عمل الكاتب وحسب، بل في نشاط شخصياته. وذلك من خلال سياسة التسلّل الإجباري إلى حياة جميع المواطنين بلا استثناء، فلا يمكنك أن تتعلّم، أو تعلّم أولادك، أو تجد عملاً، أو تسافر، أو تبدأ مشروعاً ما، أو تفتح دكّاناً، أو تستأجر بيتاً، من دون أن تجد السلطة أمامك، أو وراءك، أو على أحد جانبيك.
فإذا تحدّثت الرواية عن الحب أو الصداقة أو العزلة أو الحنين، فإنها سوف تجد السياسة والسياسي يضعان الحواجز وأسئلة الرقابة في طريق شخصيّاتها المتخيّلة. ولهذا باتت السياسة تقبع في كل زاوية من زوايا الروايات، بما فيها تلك التي حاولت الخروج من قالب المواجهة المباشرة مع السلطة. ومع ذلك، فإنّ المشكلة ليست في وجود سياسةٍ في الرواية (هناك نوع روائي يطلق عليه النقّاد اسم “الرواية السياسية “)، بل في وجود السياسة كعنصر مُهيمن على مصير جميع الشخصيات في الواقع الذي تَستمِدّ منه الرواية شخصيّاتها وأحداثها. المسألة هنا لا تتحدّث عن علاقة بين الثقافة والسياسة، بل عن رغبة السياسة في الهيمنة على الحياة العامة كلّها، ومنها الثقافة، أو الكتابة الإبداعيّة بشكلٍ عام.
تظهر السلطة مثل البُعْبع أمام الروائي. إنها تقبع في كلّ مكان وزمان من حركة الروائيين وتفكيرهم وأحلامهم وخُططهم للحاضر والمستقبل. فأين يمكن أن يذهب الروائي العربي كي يجد أرضاً حرّة لحركة مخلوقاته المتخيّلة إذاً، ومَن الذي يقتحم وجود الآخر: الرواية أم السياسة؟
(العربي الجديد)