اللافت في شأن الكاتب البيروفي فارغاس يوسا أنه يجاهر بدعم اليمين السياسي في بلاده، بينما تنضح رواياته بالإدانة الكاملة والتي لا مجال فيها لأي لبس، لممارسات هذا اليمين الحاكم في بلاده وفي غيرها من البلاد. وأي جردة لرواياته المترجمة إلى العربية تقول إنها لا تتسامح مع سياسات تُعادي الإنسان، لا في البيرو، ولا في الدومينيكان، ولا في بريطانيا العظمى التي كانت لا تزال تحارب في أيرلندا، بحسب المواقع التي تجري فيها بعض رواياته، وحيث كانت تجري أكثر أساليب القمع وحشية، ولهذا فإن هذا التباين المشين في مواقفه السياسية يثير كثيراً من الأسئلة الحائرة التي لا تجد لها جواباً شافياً. بينما يبدو ذلك الوضوح الذي لا يساوم البتة في الانحياز لقضايا الإنسان، كالحرية والكرامة والحب، أكثر غموضاً وتعقيداً وصعوبة في الفهم.
يبدو فارغاس يوسا اليوم، سليلاً للعشرات من الكتاب الذين كانت حياتهم الفكرية أو السياسية نقيضاً صارخاً لكتاباتهم الروائية، ففي كتابه “الرواية التاريخية”، يكيل جورج لوكاش المديح للروائي الاسكتلندي والتر سكوت، صاحب الروايات التاريخية الشهيرة، حين رأى في تلك الروايات تجسيداً للمنعطفات الصحيحة للتاريخ. إذ استطاع أن يخلق ذلك البطل الوسط أو العادي ـ البطل اللابطولي الذي يُمثل سمة العصر الذي عاش فيه الروائي. كان والتر سكوت ينتمي سياسياً إلى تيار المحافظين، وقال لوكاش إنه “يرقى إلى مصاف أولئك المحافظين المخلصين في إنكلترا الذين لا يبرّئون أي شيء في الرأسمالية، ويتعاطفون مع البشر الذين يسحقهم التطوّر الجديد، ولكنهم لا يبدون أي معارضة له”.
تبدو الرواية (والفن عموما) في كل حالة من تلك الحالات أشبه بالمصفاة، فمن خلال شباكها الدقيقة لا يتسرب أي غش أو تلاعب بالحقيقة أو بالمشاعر، هذا مكسب كبير للرواية، فإذا كان بوسع أي كاتب أن يؤيد السلطة هنا أو هناك لأسباب عديدة، منها ما بتعلق بالانتهازية أو البحث عن المصلحة، أو منها ما يتعلق بقناعات حقيقية من الناحية السياسية، فإنه لا يستطيع ، إذا ما كان كاتباً صادقاً مع الحقيقة والفن، إلا أن يكذّب نفسه. يوسا نفسه قال: “أما الرواية فتتمرّد وتخرق الحياة، بينما الأجناس الأخرى لا تستطيع إلا أن تكون مستعبدة” يضع صدق الفنان السياسيَ المؤيدَ لأنظمة الطغيان بداخله، في حرج أخلاقي وإنساني، لا يتمكن هو شخصياً من الدفاع عنه.
لا أعرف إذا كانت الأعذار مقبولة في أي زمن لتسويغ هذا التناقضات المريبة، وثمة من لا يغفرها مطلقا لأي كاتب، والأساس الذي يستند إليه هؤلاء هو الموقف الأخلاقي الذي يجب أن يتضمن وحدة بين القول والفعل، بين السياسي والفنان. وثمة من يقرّر اليوم مقاطعة الكتابة، غير أنها كما نرى، هي التي تدين صاحبها قبل أن يرفع أي شخص لائحة الاتهام ضده.
كان ألبرتو مانغويل قد كتب في نقد فارغاس يوسا (كتابه: “في غابة المرآة”) بأنه: كما لو كان مثل مصوّر أعمى يعجز عن رؤية الواقع البشري الذي كانت عدسته قد التقطته بقوة كبيرة.
(العربي الجديد)