ممدوح عزام: المدينة في المقهى

0

كان عبد الرحمن منيف أفضل من أوضح مسألة العلاقة بين الرواية العربية والمدينة، في مقالته “المدينة في الرواية العربية” (في كتابه “رحلة ضوء”). وفكرته هي أنّنا نجد أنّ الأحداث والشخصيات في أغلب روايات الذين وفدوا من الأرياف وكتبوا عن المدينة لا تتجاوز الأماكن العامة المفتوحة: مقهى، مطعم، شارع؛ أو أنها تجري في الهوامش، أي حيث سكن مهاجرو الريف في ضواحي المدن. لذلك يقول: “تغيب صورة المدينة، أو تُصَوَّر من خارجها”، ما يجعلها صورةً جزئية باهتة لأنها تُصَوَّر دون معرفة “الأبجدية التي تحكم العلاقة الداخلية التي تعطي لكلّ مدينة نكهتَها”.

ويمكن أن تكون ثلاثية نجيب محفوظ، وهي عن المدينة حصراً وعن شخصيات تعيش فيها (دون أن نبحث فيما إذا كان تفكير هذه الشخصيات وسلوكها مدينياً بالمعنى الذي تضفيه المدينة البرجوازية الغربية والتي كانت منَحَت الرواية صِفتها المدينية) المثالَ التوضيحي الناصع عن رواية المدينة، في المدينة. إذ إن جميع الشخصيات في الرواية، وهذا ينطبق على كثير من أعمال محفوظ أيضاً، هُم من سكّان القاهرة الأصليين الذين تنبت جذورهم في المكان نفسه. بينما تخرج العشرات من الروايات من هذا التصنيف، حتى لو كان مسرحُ أحداثها المدينة.

ومن الجانب الآخر، فإنّ المدينة نفسَها، والمقصود سكانُّها الأصليون، رفضت أن تسمح للمهاجرين إليها بالدخول في نسيجها الحياتي. ومن النادر أن يكون بوسع الغريب معرفة أبجدية الناس فيها، لا لأنّه عاجز عن ذلك، بل لأنها تكتم أبجديتها دونه، لأسباب كثيرة يجب أن نتبيّنها في دراسات الهجرة وأسبابها، وعلاقات السلطة وبُنيتها، وعلاقة المهاجرين الريفيين بالنظام الحاكم، وشَكْل القوانين التي اتخذتها السلطة لإعادة تشكيل المدينة بما يتلاءم مع مستقبل الحكم السياسي.

ويمكن دراسة هذه الحالة من زاوية أخرى هي العلاقة بين الروائي والهوامش، وهي الأحياء التي تُبنى حول المدن العربية، وتعادلها من حيث المساحة وعدد السكان أو تزيد عنها أحياناً. وفي هذه الهوامش التي لم تعد ريفاً، ولم تصبح مدينةً بعد، تنشأ علاقات جديدة بين مهاجرين قادمين من أغلب المناطق الريفية، وهي علاقات ليست ريفية بالضرورة بسبب طبيعة الحياة الجديدة. كما أن الحياة في هذه الهوامش لا تشبه حياة المدينة بعد، إذا تحتاج إلى صيغة حياتية مختلفة تتطلّب سنوات من العيش، كما تنشأ علاقة خاصة بين سكّانها وبين أهل المدينة.

وبحسب ما أعرف، فإن عدداً كبيراً من الروائيين السوريين الذين هاجروا إلى المدينة (ويجب أن نخصّ بالذكر هنا كلاً من دمشق وحلب، إذ هما المدينتان اللتان تحملان سِمات المدن كمدن) أو هاجر أهلهم إليها في زمن انتقال الريف إلى المدينة، أي الستينيات من القرن العشرين تقريباً، لم يستطيعوا طوال العقود الماضية الاندماج في حياة سكّانها، ومن الصعب تفحُّص الأسباب التي حالت بينهم وبين البيوت في المدينة، بحيث أُرغموا على البقاء في المقاهي أو المطاعم أو الشوارع. وهذه حالة جديرة بالملاحظة والانتباه، من باب الوجود الحيّ للروائي نفسه في هامش المدينة، ومن باب المكان الثانوي الذي تتحرك فيه شخصياتُه الروائية.

(العربي الجديد) اللوحة ( هاني علقم)