يروي ماريو فارغاس يوسا أنّ صحافياً برازيلياً شارك في تغطية الحرب التي شنّها الجيش البرازيلي ضدّ التمرُّد الفلّاحي الكبير الذي قاده أحد القساوسة في شمال البلاد ضدّ الجمهورية الوليدة حديثاً، بعد أن استطاع تحالُفُ العسكر والمثقّفين إسقاط المَلكية.
كان الصحافي (اسمه إقليدس دا كونها) يميل إلى الجمهورية، واعتقد أن ثورة الفلّاحين تأخذ طابعاً دينياً، فكتب التقارير التي تغطّي حملة الجيش وحده. غير أنّ ما كان يراه بعينيه كان يختلف تماماً عمّا يكتبه على الورق: إنهم فلّاحون فقراء متعبون جائعون يبحثون عن الأمل، ولهذا فإنّه حين أراد أن يكتب روايته عن الأحداث، سجّل الحقيقة هناك في كتاب عنوانه “السرتاو”، يجمع بين الرواية والتسجيل والشرح لِما حدث. قال يوسا إنه أحد أهمّ الكتب الخارقة التي كُتبت على الإطلاق عن أميركا اللاتينية.
الراجح أنّ النصوص التي كُتبت من أجل خدمة السياسة كانت تفتقر دائماً للحسّ الإنساني، والسبب أنّ القضية السياسية تحجب الكثير من المسائل الأخلاقية والإنسانية التي يتعامل معها الأدب بوصفها مادّة الحياة. لا تحفل السياسة بالحياة، أو بالروح، أو بالمُثُل والقيَم، وغالباً ما يكون تحقيق الهدف المباشر للسياسي مرتبطاً بتخلّيه عن القيَم الأخلاقية والروحية، لصالح الانتصار المتوقّع لقضيته أو برامجه. بينما يقدّم الأدب صورة أُخرى أكثر صدقاً وحقيقية عن الواقع وعن الإنسان.
لا يخوض الكتّاب صراع وجود مع كتّاب آخرين، ولا تعمل الرواية من أجل نقض رواية أُخرى، حتى لو كان الكاتب ينتمي إلى شعب أو إلى ثقافة تتعرّض للعدوان. هذه هي القاعدة الذهبية لتاريخ الأدب، وقد تقدَّم نماذج مضادّة لها، إذ ثمّة الكثير من الأعمال التي كُتبت لخدمة السياسة، ولكنها كانت تفتقر إلى الصدق والجودة، ولهذا فهي تخرج من تاريخ القيمة الجمالية.
سبق لسارتر أن أوضح هذا الأمر في كتابه “ما الأدب؟”، فقال إنه لا يتصوّر “أن يكتب الكاتب لإجازة الظلم”، وفي مكان آخر من كتابه قال مخاطباً أحد نقّاده الفرنسيّين: “إنني أطلب أن يذكر لي اسم رواية واحدة كان القصد الصريح منها خدمة الاضطهاد، اسم رواية واحدة ضدّ السود، ضدّ العمّال، ضدّ الشعوب المستعمَرة”.
كان الكاتب في القرون الماضية بعيداً عن وعي الفارق بين مواقفه السياسية، وكتاباته الإبداعية، لهذا عمد المفكّرون للبحث عن أعذار لهم: بلزاك مثلاً الذي يُشتهر في الفكر الماركسي على أنه رجعي في السياسة، تقدّمي في الأدب. غير أنّ القضية اختلفت في زماننا؛ باتت المسؤولية الأخلاقية تضع الكتابة الإبداعية في قفص الاتهام: كيف يمكن أن تكون إلى جانب الظلم والطغيان والحروب وسفك دماء الأبرياء، ثم تزعم أنك تكتب أدباً إنسانياً؟ يُخيَّل لي أنّ كثيراً من النقّاد والشعراء والفنّانين باتوا يختبؤون وراء بلزاك؛ ألم يكن هذا الكاتب الكبير متناقضاً؟ بلى، ولكنّ أدبه كان أخلاقياً وفنّياً ينتصر للإنسان لا للأيديولوجيا. حسناً، هل أنت متناقض مع نفسك أم منسجِم؟ اكتُب الرواية أو القصيدة كي نرى.
( العربي الجديد)