أكثر تيّارٍ أدبي تطلّب الشرح والإيضاح، وحرّض الكتّاب والنقّاد على الجدل والنقاش وإعادة التفسير، هو الواقعية. بل إنّ الواقعية هي الكلمة التي تُلهم النقّاد والمنظّرين الأحكام والاستنتاجات المتنوّعة التي يقدّمونها في محاولة سدّ الفراغات التي تنشأ من محاولات نقضها من قِبَل أولئك الذين يرفضونها. ولعلّ كلّ التيّارات الأدبية الأخرى، كالرومانسية والسوريالية والدادائية والمستقبلية والبنيوية، قد نشأت على أطراف حقل الواقعية، كما لو كانت مجرّد أعشاب موسمية تنمو وتزدهر وتُثمر أيضاً، ثم تتلاشى وتختفي.
والواقعية نفسها ليست بريئةً، وهي تُسبّب للكتّاب كثيراً من الإحراجات الفكرية والوجدانية، وخاصّةً إذا ما ذكرنا المسألتين اللتين شغلتا معظم الكتّاب والنقّاد: كيف يمكن للأدب أن يؤثّر في الجمهور؟ وكيف يمكن التخلُّص من تلك المُحاكمة التي يتعرّض لها الكاتب الروائي خصوصاً، بموجب ما يسمّيه النقّاد “مقاييس المشابهات الخارجية”؟ أعتقد أنّ معظم الكتّاب الذين حاولوا إعادة قراءة الواقعية، أو علاقة الكاتب بالواقع، أو وظيفة الفنّ الاجتماعية، إنّما كانوا يرغبون في الإجابة عن السؤال الأوّل، أو زعزعة تلك الرغبة العجيبة لدى كثير من القرّاء، والنقّاد، والسياسيّين بوجه خاص، بسحب مقياس المشابهة وتطبيقه على النصوص الروائية، استناداً إلى مبدأ المحاكاة أو التمثيل الذي فُهم لدى هؤلاء فهماً آلياً.
وأكثر الكتب شهرةً في محاولات تطبيق المنهج الواقعي في التاريخ الأدبي العربي هو كتاب حسين مروّة: “دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي”، وفيه يسعى لأنْ يؤسّس نقداً منهجياً مبنياً على نظرية النقد الواقعي. ويقول مروّة إنّ لهذه النظرية أصولاً معيّنة قادرة على اكتشاف القيَم الجمالية والنفسية والفكرية والاجتماعية في العمل الأدبي. على أن أهمّ ما يَذكر في هذا الصدد هو أن نقده لن يكون “ميكانيكياً” يُخضع كلّ عمل أدبي إلى مقاييس ثابتة جامدة.
وكان يمكن لكتاب مروّة أن يكون بدايةً قويّة للنقد العربي في هذا الضوء، ولكنّ التدخّلات السياسية عطّلت مشروع النقد كما أظنّ، خاصّةً حين انبرى السياسيّون المشغولون بتطويع الأدب والفنّ ــ بينما هم يعملون على تركيع المجتمع ــ للحضّ بلغةِ الأمر على اتّباع النهج الواقعي في الكتابة، في حين امتلأت المساحة بنظرياتٍ أخرى حاولت أن تتحدّى الواقعية في المجال النقدي، وخاصّةً حين حُسبت الواقعية فيما بعد على نهجٍ سياسي وحيد هو اليسار، ثم ضاقت دائرة الحساب أكثر وصارت محسوبةً على اليسار الماركسي وحده.
بينما يمكن اعتبار كتاب إيريش أورباخ: “محاكاة: الواقع كما يتصوّره أدبُ الغرب” (صدرت طبعته الأولى عن وزارة الثقافة السورية في عام 1998 بترجمة محمد جديد) أكثر الكتب أهمّيةً في المجال التطبيقي (والنظري أيضاً) التي تتّبع تاريخ رؤية الواقع، وهو يَمضي بنقده من أيّام الأوديسا إلى فرجينيا وولف في روايتها “إلى المنارة”، حيث يحاول تسجيل التغيُّرات في التصوير الفنّي للواقع في أدب الغرب. والكتاب يجيب بقوّة عن كثير من الأسئلة التي تُحاور النقد، أو تشغل الكتابة الإبداعية، حيث يبدو الواقع ممتدّاً من العالم الخارجي إلى أكثر طبقات النفس عمقاً.
(العربي الجديد)