على الرغم ممّا قامت به الشعوب العربية من ثورات وانتفاضات خلال العقد الأخير، وما قدمته من تضحيات بهدف تحقيق مطالبها المتمثلة في الحرية والعدالة الاجتماعية، إلا أن مظاهر السلطة الديكتاتورية ما زالت تتمثّل بثقل على أرض الواقع السياسي العربي المعاصر، وذلك إضافة إلى الواقع الاستعماري في فلسطين، واستمرار سياساته التوسّعية والاستيطانية والقمعية بأشكالها، ومظاهره في حصار الفلسطينيين سياسيًا وجغرافيًا. في ظل هذا الواقع السياسي العربي المتأزّم، تبرز اليوم، ومن جديد، الحاجة الى إعادة طرح قضايا الثقافة السياسية وثقافة المقاومة، بما ينطوي عليه هذان المفهومان من معان وسلوكيّات التفاعل والتحرّك بهدف التغيير تجاه النظم السياسية وسياساتها وممارساتها.
الثقافة السياسية: اتجاهات ومعتقدات
تحول مفهوم الثقافة السياسية ـ ويُطلق عليه في العالم العربي مصطلح “الثقافة الوطنية” ـ إلى محور اهتمام في مجال علم السياسة في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي، خاصة مع بروز ما يطلق عليه “الثورة السلوكية”، والاتجاه إلى دراسة السلوكيات غير الرسمية وتأثيرها على المؤسسة السياسية؛ ويرى باحثون أن مفهوم الثقافة السياسية قد بشّر بإمكانية توحيد علم السياسة، وعبور الفجوة بين الميكرو والماكرو في هذا العلم، وذلك عبر ربط سلوك الأفراد بالنظام الذي يعيشون فيه ويشكلون جزءًا منه.
ويعرّف لوسيان باي الثقافة السياسية بأنها مجموعة من الاتجاهات والمعتقدات والمشاعر التي توفر للعملية السياسية نظامًا ومعنى، وتقدم القواعد المستقرة التي تحكم تصرفات الأفراد داخل النظام السياسي.2 والثقافة السياسية هي جزء من الثقافة العامة للمجتمع، وتختلف من مجتمع لآخر حتى لو انتمى هذان المجتمعان إلى هوية دينية، أو قومية واحدة. ومن التعريفات الأخرى للثقافة السياسية أنها “مجموعة المعارف والآراء والاتجاهات السائدة نحو شؤون السياسة والحكم، الدولة والسلطة، الولاء والانتماء، الشرعية والمشاركة. وتعني أيضًا منظومة المعتقدات والرموز والقيم المحددة للكيفية التي يرى بها مجتمع معين الدور المناسب للحكومة وضوابط هذا الدور، والعلاقة المناسبة بين الحاكم والمحكوم”.
تشير الثقافة السياسية إلى كل نسق سياسي؛ وفي هذا السياق يُطرح السؤال التالي: “ما الذي تشير إليه صفة (السياسي) في الثقافة السياسية؟”، فإذا كانت الثقافة السياسية تُعرّف بأنها سلوك يوجهه المجتمع نحو العمل السياسي ومؤسساته، فإن السؤال المطروح هو “ما الذي يُعدّ سياسيًا؟”. ويتم طرح تعريفات متضاربة لصفة السياسي، تتراوح ما بين اعتبار كل عمل يقوم به الفرد هو عمل سياسي، إلى تعريفها بأنها مجموعة التوجهات تجاه الحكومة، بحيث تتميز تلك التوجهات عن غيرها تجاه الاقتصاد والدين والأسرة. ويرى باحثون أن الحدود الفاصلة بين ما هو سياسي وما هو غير سياسي ليست نهائية أو قاطعة، وهي ليست حتمية، أو من طبيعة الأشياء، وأن التعريفات التي تحاول الاقتراب من “ما هو سياسي” تتسم بالانحياز الثقافي؛ فعندما يتهم شخص ما شخصًا آخر بأنه يقوم بتسييس موضوع ما، فإن النزاع هنا يتمحور حول رؤية كل منهما لحدود الالتزامات الحكومية، وبذلك فإن وضع الحدود بين السياسي وغير السياسي هو جزء من الصراع بين أنماط حياة متنافسة.
الثقافة الوطنية: مواجهة وتغيير
تلعب الثقافة الوطنية دورًا رئيسًا في مواجهة التحديات المعاصرة، خاصة في حال تراجع الجبهات الأخرى، السياسية والعسكرية والاقتصادية، فالثقافة هي “الجبهة الخلفية” التي تضمن قدرة أي شعب على الصمود والاستمرار: “إن ثقافة أي شعب تمثل السمات الأساسية التي تكوّن وجدانه، وتعكس مدى صلابته، وتحدد كيف يفكر وكيف يواجه الأزمات، وأخيرًا كيف يعبّر عن موقفه، خاصة وأن الثقافة لا تستطيع الهروب من المشاكل والهموم الحقيقية للناس، ولا التنكّر لطموحاتهم وأحلامهم، كما أنها خير معبّر عن الروابط الأساسية وتطلعات المستقبل أكثر مما ترتهن للطارئ والجزئي، كما تفعل السياسة غالبًا”.
وتُعرّف الثقافة الوطنية بأنها مجموعة من القيم الأساسية القابلة للتطور، والتي ترتكز على مبادئ الحق والعدالة والحرية والكرامة، سواء على المستوى العالمي، أو على المستوى الوطني، بما في ذلك مقاومة الظلم، والدفاع عن الأرض والكرامة الوطنية تجاه أية قوة خارجية، وهي تعبير عن الحق في الوطن والحرية.
تربط التعريفات المختلفة لمفهوم الثقافة السياسية، أو الثقافة الوطنية، بين محتوى ثقافي من ناحية، وتعبير سياسي من ناحية ثانية، ومن خلال هذا الربط يكوّن المجتمع هوية ثقافية سياسية. وتبحث كلٌّ من الهوية الثقافية والهوية السياسية عن تعزيز مكانتها في الأخرى؛ فالهوية السياسية تستمد ركائزها من الهوية الثقافية للمجتمع، وبذلك تُقام الدولة ويتم تعزيز قيم كالوطنية والقومية، في حين تبحث الهوية الثقافية عن ترسيخ دورها في الهوية السياسية من خلال التدخل وممارسة أشكال التعبير الثقافي. وتتضمّن ديناميكية الثقافة السياسية تحويل القيمة الثقافية إلى تعبير سياسي، فالثقافة السياسية هي إحساس بالمسؤولية تجاه ما يجري سياسيًا على أرض الواقع، وتوظيفٌ لقيم المجتمع الثقافية، بما تحويه هذه القيم من مفاهيم ومعتقدات وعادات وتراث وفولكلور ونشاطات وطاقات إبداعية، لخدمة الفعل السياسي الذي يقوم به أفراد هذا المجتمع.
دور الفنون والآداب
في هذا السياق، تعد الآداب والفنون، التي تتناول الواقع والتاريخ السياسييْن، جزءًا من الثقافة السياسية للمجتمع، ومن ثقافته المقاوِمة. بل يمكن القول إن الفنون والآداب هي الشكل الأكثر تطورًا وتأثيرًا في المركب الثقافي وفي الثقافة السياسية، طالما أن من يمارسها ويعبّر عنها نخبة المجتمع المثقفة، من مبدعين وفنانين وأدباء، وغيرهم، وذلك من خلال إنتاج أعمال إبداعية تثير الأسئلة حول الواقع السياسي والاجتماعي، أو تنتقده بهدف تغييره إلى الأفضل: “الجوار بين الأشياء الأساسية، وهي الحق والعدل والحرية والكرامة والحب، قرابة بنظر الفنان، وهي متشابكة ومتلاحمة؛ العلاقة بين أجزائها تفاعل لا ينتهي… وهكذا يكون الإبداع رحلة اكتشاف دائمة، وبحثًا مستمرًا، وأيضًا طريقة في فهم العالم، ثم إعادة التوازن له، من خلال النقد وطرح الأسئلة… لا يكفّ الفن، وكذلك الفنان، عن طرح الأسئلة… في عملية البحث والاكتشاف، في محاولة الإضافة من خلال الأسئلة، فإن من جملة الأسئلة المؤرقة: ما العمل؟ وهذا السؤال كان عنوانًا لرواية قبل أن يكون سؤالًا فجوابًا سياسيًا. وأيًا كانت الإجابات، وأيًا كانت النتائج، فإن مجرد استمرار السؤال يتيح إمكانية لإجابات تتعدد بتعدد الأزمنة والأمكنة والبشر، وهذا هو دور الإبداع”.
لقد وُجدت العلاقة بين الإبداع والسياسة على مرّ التاريخ، بل إن الفكر ممثّلًا بأعمال الفلاسفة والمفكرين والمثقفين كان يضع على الدوام الأسس لمراحل وتحولات سياسية مستقبلية؛ على سبيل المثال، ليس بالإمكان فهم التحول الاشتراكي في أوروبا الشرقية بمعزل عن النتاج الفكري لكارل ماركس وغيره من مفكّري عصره، كما أن ظهور الحركة الصهيونية، وقيام الكيان الصهيوني بالتالي، ارتبط بشكل رئيس بنتاج فكري وأدبي لمفكرين وأدباء صهيونيين، هم أنفسهم كانوا قادة الحركة الصهيونية. في المقابل، استندت القضية الفلسطينية إلى حركة ثقافية فلسطينية شاملة، شملت الآداب والفنون بأشكالها المختلفة. ومما لا شك فيه أن تراجع تأثير الفعل السياسي الشعبي العربي، أو الثقافة السياسية وثقافة المقاومة لدى الشعوب العربية، والفلسطينيين كذلك، يرتبط بتراجع دور المثقفين والمبدعين العرب.
ثقافة المقاوَمة
ربما كان الأديب الفلسطيني غسان كنفاني أول من أدخل مصطلح المقاومة في الأدب في العالم العربي، وذلك عام 1966، حيث أطلق مصطلح “أدب المقاومة” على الأدب الفلسطيني الذي أنتجه شعراء وأدباء من فلسطينيي 48، وهو الأدب الذي أُنجز في ظل الحكم العسكري الذي فُرض على البقية الباقية من الشعب الفلسطيني داخل حدود عام 1948، وأتى في سياق مواجهة ورفض الهيمنة والسيطرة الصهيونية على الأرض.
قبل تعريف ثقافة المقاومة من المهم التطرّق إلى ما يعنيه مفهوم المقاومة؛ وتجمع التعريفات المتعددة للمقاومة على كونها ممارسات معارِضة لاتجاه أو أفكارٍ، أو نظام ما من أجل إحداث تحولات ثقافية واجتماعية وسياسية في المجتمع. فالمقاومة هي تعبير عن وجود صراع، ولفهم الصراع لا بد من وضعه في إطاره الثقافي الأعمّ والأشمل. وتشير المقاومة إلى ممارسات وأفعال من أجل التحرر من الاستعمار الأجنبي، ومن الظروف التي أدت إلى وجود الهيمنة، ذلك أن الاستعمار لا يقوم بالسيطرة على الشعوب التي يستعمرها فحسب، بل يسعى أيضًا إلى تهميش ثقافتها وموروثها وتاريخها. وتُعرّف المقاومة أيضًا بأنها: “المعارضة المادية والنفسية لإرادة وفعل الآخر، فهي تمثل الجانب الدفاعي ضد الإجبار والقهر. فالمقاومة هي أنشطة تتضمن تضحيات فردية أو جماعية لتحقيق أهداف قصيرة، أو طويلة المدى، وتحتمل قدرًا من الخسائر بسبب تعدد أشكالها (مقاطعة ـ عصيان ـ رفض الإذعان)”.
يطلق على ثقافة المقاومة أيضًا مصطلح “الثقافة المقاوِمة”، وهي في تعريفها الضيق تعد ردّ الفعل المباشر على كل طارئ وغريب، ويتم ذلك بالعودة إلى المخزون التراثي، وهو ما يرافق حركات التحرر من الاستعمار، حيث يشكل بعث وإحياء الثقافة القومية والتمسك بالتراث خط الدفاع عن الذات ضد المستعمِر المهيمِن. وتلخص إحدى الدراسات المتخصصة في ثقافة المقاومة تعريف المفهوم في أنه: “ممارسة مرتبطة بمرحلة تاريخية مصحوبة بشروط نفسية واجتماعية وسياسية لصيقة بالأفراد والحركات الاجتماعية التي تعارض بقوة ظرفًا، أو وضعًا مهيمنًا، وتؤدي إلى إحداث تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية على المدى القصير والطويل. وتعد الثقافة هي أكثر المجالات التي تتطور في إطارها مقاومة سيطرة الحاكم، أو السلطة، كما أنها تمثل رافدًا فكريًا يُثري حركات المقاومة، ويحدد أشكال مقاومتها”.
أخيرًا، إن استمرارية أي حراك شعبي سياسي، وتطوره بالتالي إلى انتفاضات وثورات، سواء كانت بهدف إحداث تغيير جذري في النظام، أو بهدف التحرر من الاستعمار، لا يمكن أن تتحقق من دون الاستناد إلى ثقافة سياسية تأخذ شكل الثقافة المقاوِمة. وهذه في دورها، أي الثقافة السياسية، أو الوطنية، أو المقاوِمة، تستند إلى قيم إنسانية لابد من تعزيزها في الوعي الجمعي، كقيم الحرية والعدالة والمساواة والكرامة، وهو دور يُلقى بشكل رئيس على عاتق المثقفين والمبدعين والمؤسسات الثقافية والتعليمية والتربوية. كما يجب أن تستند الثقافة السياسية، وثقافة المقاومة، إلى عمليات تعبئة وتحفيز وتنظيم، وهو الدور الملقى على عاتق الأحزاب السياسية والقادة من المعارَضة.
“ضفة ثالثة”