مليحة مسلماني: الفن بين تعدّد التأويلات والغايات

0

الفن بين الإلهام والعقل
لا يزال الفن مفهومًا جدليًا يخضع لعديد التأويلات، من حيث المعنى والغاية؛ وهي تأويلات تصل أحيانًا إلى درجة التناقض والتضارب، خاصة في عصر التطوّر الرقمي، وإتاحة وسائل متطورة ومتعددة لإنتاج الفن. والفن، كظاهرة، شغل حيزًا هامًا لدى الفلاسفة والمفكرين منذ أقدم العصور. ومن بين النظريات التي وضعت في تفسير الفن والعملية الإبداعية نظرية الإلهام والعبقرية، ويمثلها بشكل رئيس أفلاطون؛ وترى هذه النظرية أن مصدر الفن هو إلهام، أو “وحيٌ” آتٍ من عالم مثالي يفوق الطبيعة، فالفنان مُلهَم، ويتميز عن سائر البشر في مزاجه وسلوكه، والفن بذلك مظهر من مظاهر العبقرية و”الجنون الإلهي”، أو “الوجد الصوفي”.
في المقابل، ترى النظرية العقلية أن العبقرية في الفن لا تعارض العقل على الإطلاق، وأن العملية الإبداعية هي فعل واعٍ يحققه عقل ناضج. ويعدُّ إيمانويل كانط من أبرز من يمثل هذا الموقف العقلي للفن، فهو يرى أن العمل الفني لا يستند إلى عالم مثالي، كما في نظرية الإلهام، بل إلى قوانين وشروط أولية سابقة على التجربة الإبداعية، وإلى قوى إدراكية جمعية ليست خاصة بالفنان وحده، ذلك أن العمل الفني يخضع لشروط من بينها حكم الجماعة عليه(1).


الفن بين الاجتماعية والانطباعية
وهنالك النظرية الاجتماعية للفن، التي تركز على “الدور” الذي يلعبه المجتمع في العملية الإبداعية. وكان المفكّر الفرنسي هيبوليت تين أول من قال بالنزعة الاجتماعية للفن، وبأن الفن وليد المجتمع، ورفض بشدة نظريات الفن للفن، فالفن عنده إنتاج جمعي؛ يخضع لظروف الزمان والمكان، والفنان ليس منعزلًا عن المجتمع، بل يتأثر بالبيئة الاجتماعية، وهو يعبّر عن “النحن”، وليس عن “الأنا”.
أما النظرية التأثّرية، أو الانطباعية، فترى أن العمل الفني يتمتع بأصالة واستقلالية، بحيث لا يمكن تفسيره فقط من خلال التأثيرات الاجتماعية، أي تراث الماضي وتيارات الحاضر، كما ترى المدرسة الاجتماعية، بل هو عمل قائم بحد ذاته ويحقق الدهشة، ويُحدِث نوعًا من التحوّل والانفصال، ويطرح حقائق جديدة(2).


الفنان “مريض بالعُصاب”!

اهتمت مدراس التحليل النفسي بتفسير ظاهرة الفن؛ فالعملية الإبداعية عند سيغموند فرويد تصدر عن العقل الباطن واللاشعور، بما ينطوي عليه من عُقَد مكبوتة أهمها الغريزة الجنسية، والفنان في نظر فرويد شخص انطوائي يعجز، بسبب دوافعه الغريزية، عن التعامل مع الواقع، ويلجأ إلى عالم الوهم لإشباعها، حيث يجد هناك عالمًا بديلًا يرضي فيه رغباته، وهو رهين عالم وهمي يحاول فيه تحقيق القدرة على التسامي، ولكن “لن يطول الأمد به حتى يصبح مريضًا بالعصاب”(3).

أما عالِم النفس كارل يونغ فيرى أن العمل الفني يحدث نتيجة لأنواع شتى من الأنشطة الشعورية واللاشعورية، ولذا فإن البحوث النفسية وحدها لا تنجح في تفسير ظاهرة الفن من خلال الفنان فقط، بل يجب دراسة الأعمال الفنية أيضًا من أجل فهم حقيقة الفن؛ ذلك أن الفن ليس إنتاجًا شخصيًا، بل هو نشاط صادر عن الروح الجماعية، أو عن “الإنسان الجمعي”، فاللاشعور الجمعي هو مصدر عملية الإبداع، والفنان يختص وحده بإدراك اللاشعور الجمعي، والعمل الفني هو رسالة هذا اللاشعور الجمعي(4).

يُعرّف الفن على أنه “لغة”، ويتصف بميزتين هما التعبيرية والخيالية، وتنتج التجربة الفنية عن فعل الوعي، والوعي بدوره هو مستوى من التجربة يتوسط المستوييْن النفسي والفكري؛ فالفن بهذا المعنى لا ينبعث من العدم، بل تسبقه تجربه نفسية، أو تجربة انفعالية، هي المادة الأولى للعمل الفني، ومن ثم يُترجَم هذا الانفعال النفسي والفطري إلى انفعال في مستوى الفكرة، ثم إلى فعلٍ تحت سيطرة الوعي: “وهذا الفعل هو اللغة أو الفن”(5).


الفن يقبل تعدّد التأويلات
وهنالك من يرى أن الفن يخضع لتعدد التفسيرات، إذ يضم معاني متداخلة؛ من بينها المعنى الانطباعي والمعنى التأثيري؛ يشير المعنى الانطباعي إلى أن الفنان يستمد المؤثرات الجمالية من الواقع، ليعيد إنتاجه في عمل فني، بحيث تتم العملية الإبداعية عبر مراحل ثلاث، هي: مرحلة التلقّي من الخارج، ثم مرحلة معالجة ما تلقاه الفنان وإعادة بناء علاقات جديدة بين ما تلقاه فيحوله إلى مركّب جديد، ثم مرحلة تقديم العمل الفني.

أما المعنى التأثيري في الفن فيشير إلى رسالة، أو خطاب، يريد الفنان إيصاله إلى الآخرين، فالفن هنا أداة يعبر من خلالها الفنان عن أحاسيسه ووجدانه وأفكاره واتجاهاته وقِيَمه. وبهذا المعنى، فإن جميع الناس هم فنانون بالفطرة، لكن بدرجات ومراتب، ذلك أن الإنسان يحتاج دائمًا إلى التعبير عن ذاته، وإقامة صلات بينه وبين الآخرين، إلا إن عوامل البيئة تلعب دورًا في عدم وصول كثيرين إلى مستوى القدرة على التعبير(6).
هنالك أيضًا المعنى الإنساني في الفن، والذي يركز حول الإنسان والإنسانية كمحور للفن، وكهدف للعمل الفني، ويشير إلى تعبير العمل الفني عن أزمة الإنسان في التناقضات، بين كونه مخلوقًا ومبدعًا، بين القوة والضعف، وبين الحركة والثبات: “أما بالنسبة للعمل الفني، فالإنسانية هي أن يعبّر الفنان عن هذه الأزمة تعبيرًا إبداعيًا، أن ينطوي على الثبات والحركة معًا. وعن حدود هذه الأزمة: من كونها امتدادًا طوليًا من (الماضي والحاضر والمستقبل) إلى كونها استعراضًا (من الأنا إلى الهو). تلك هي الفكرة الإنسانية في الفن، وذلك هو مغزاها…”(7).


غاية الفن
يتطلب الحديث عن وظيفة الفن والغاية منه الإجابة عن السؤال التالي: هل يرتبط الفن بالحياة والواقع ويؤدي وظيفة فيهما، أم هو منعزل عن الواقع، فلا وظيفة له بالتالي؟ هنالك النظرية القائلة بأن الفن لا يرتبط بالحياة، ومن بين من يمثلها شوبنهاور، الذي يرى أن الفن فرارٌ من المظهر إلى الحقيقة المثالية، وهو الطريق للخلاص من إرادة الحياة، حيث تنعم الذات الفردية من خلال التجربة الفنية بالسلام النفسي. في المقابل، هنالك النظرية القائلة بأن الفن مرتبط بالحياة، وأبرز من عبّر عنها أرسطو من خلال نظرية محاكاة الفنان للطبيعة، فالفنان يستمد وحيَه من الواقع.
وضع شارل لالو نظرية توفيقية بين المذهبين ترى أن الفن ليس مرتبطًا بالحياة، أو منعزلًا عنها، فلا هو الحياة نفسها، ولا هو فرار منها، بل هو كل تلك الصور جميعًا. ويرى لالو أن هنالك خمسة أوجه لعلاقة الفن بالحياة، وهي أولًا: الوظيفة التكنيكية للفن؛ وتعني ممارسة الفن لذاته، من دون أن يرتبط بأية غاية أخلاقية، أو دينية، أو سياسية، وهو موقف أصحاب مدرسة “الفن للفن”. ثانيًا: الوظيفة الترفيهية للفن؛ فالفن بهذا المعنى ضرب من ضروب التسلية والترفيه والمتعة وسط مشاغل الحياة. ثالثًا: الوظيفة المثالية للفن؛ وهو الموقف الأفلاطوني من الفن، فمهمة الفنان هي تجميل الواقع، وتجسيد المثل العليا، وإضفاء طابع جميل على الحياة بالخيال الخصب للفنان. رابعًا: الوظيفة التطهيرية للفن؛ ومهمة الفن هنا إظهار الانفعالات والتحرر من الألم، والتحصين الأخلاقي، واستبعاد المشاعر العنيفة لتحقيق السكينة. وأخيرًا: الوظيفة التكرارية، أو التسجيلية، للفن؛ ومهمة الفن حسب هذا الموقف هي تسجيل ظروف الحياة بهدف الاحتفاظ بصورها، أو تكرار الوقائع مع تغييرها في أضيق الحدود(8).
يوجد شبه اتفاق على أن الحاجة إلى الفن، وكذلك وظيفته، تختلفان تبعًا لاختلاف الظروف الاجتماعية من مجتمع إلى آخر، ومن عصر إلى آخر. ارتبط الفن في بدايته بالسحر، وكان الأداة التي وظفها الإنسان البدائي للسيطرة على الطبيعة ومواجهتها. وفي ما بعد، ارتبطت فنون الحضارات القديمة بالأساطير والدين والعلم. ومع تطور المجتمعات الإنسانية، وازدياد التعقيد في البناء الاجتماعي، تراجع الدور السحري للفن، وتحرر من الأساطير والأشكال الجامدة، وبدأ في كشف العلاقات الاجتماعية، وفي تنوير الناس ومساعدتهم على إدراك الواقع الاجتماعي وتغييره. ويرى آرنست فيشر أن السبب الذي يتطلب وجود الفن لا يمكن أن يبقى ثابتًا برغم تطور المجتمع؛ فوظيفة الفن في مجتمع طبقي، يحتدم في داخله الصراع، تختلف في كثير من النواحي عن وظيفته في مجتمع بدائي لم يعرف الطبقات بعد(9).

غير أن الفن، وإن اختلف دوره عبر العصور والمجتمعات، يحتوي على عناصر مشتركة و”حقيقة ثابتة”، على حد تعبير فيشر، وهذا هو سبب استمتاع الإنسان بفنون الأزمنة القديمة، وفنون المجتمعات الأخرى. لقد رأى كارل ماركس في الفن “لحظة من لحظات الإنسانية”، وهنا تكمن قدرة الفن وسحره في التأثير في مراحل أو لحظات أبعد من اللحظة التاريخية التي أُنتج فيها؛ يقول فيشر: “إن الطبقات المختلفة، والنظم الاجتماعية المتباينة، إذ توجِد أيديولوجياتها الخاصة، إنما تسهم أيضًا في تشكيل أيديولوجية عامة للإنسانية. إن فكرة الحرية، وإن كانت تساير دائمًا ظروف وأهداف طبقة محددة، أو نظام اجتماعي معين، فهي مع ذلك تتحول إلى فكرة شاملة. كذلك الفن، فإنه مهما يكون وليد عصره، فهو يضم قَسَمات (ملامح) ثابتة من قَسَمات الإنسانية”(10).


الفن بين الفردية والجمعية
استنتاجًا مما سبق، يمكن القول إنه ليس في الإمكان فصل معنى الفن عن ضرورته في الحياة، ووظائفه التي يؤديها، فالفن عملية إبداعية تتضمن ثلاثة عناصر هي: الفرد وهو الفنان، والوسيط وهو العمل الفني، والمتلقّي وهو المجتمع. إن العمل الفني لغة تحاول إيصال رسالة ما، والفنان عضو في مجتمع، وتبقى الجماعة عنصرًا أساسيًا في العملية الإبداعية، وذلك حتى في الأعمال الفنية غير المرتبطة بقيم سياسية، أو دينية، أو اجتماعية، أي تلك التي تنتمي إلى مدرسة “الفن للفن”؛ فطالما أن الفنان أعلن عن عمله الفني من خلال عرضه للجمهور، وسواء تضمن عمله رسائل معينة أم لا، فهو بذلك يضعه ضمن الإطار الجمعي الذي سيشارك بالضرورة في تقييم العمل وتفسيره وتأويله والحكم عليه. إن عملية عرض الفني هي بذاتها عملية اجتماعية، تُخرجه من إطار الفردية إلى الدائرة الجمعية الأوسع، يترتب على ذلك قبول العمل الفني لتعدّد التأويلات والأحكام.
يقول ثروت عكاشة: “وإذن، فليس ثمّة ما يدعو إلى التفرقة، وأن يكون هنالك لونان من الفن؛ فنٌّ لذاته وفنٌّ للمجتمع، فالفنان مهما أغرق الدلالة على فنّه فهو معبّرٌ عن جانب نفسي غمرته البيئة فيه ليكون معبّرًا عنه آخر الأمر. وما تلك المظاهر الفردية التي ينفرد بها أناسٌ في مجتمع إلا تعبيرًا عن جوانب غامضة في ذلك المجتمع لا نتبيّنها إلا في مظاهر هؤلاء. وهي بسبب غموضها وخفائها، وبسبب ظهورها على ألسنة قليلة، تبدو وكأنها تعبير عن الفردية لا الجماعية…”(11).
أخيرًا، يبقى الفن نشاطًا جمعيًا وضرورةً للبشرية، ووظيفته الدائمة هي أن “يحرك الإنسان في مجموعة، أن يُمَكِّن “الأنا” من الاتحاد بحياة الآخرين، ويضع في متناول يدها ما لم تكنه ويمكن أن تكونه… إن الفن لازم للإنسان حتى يفهم العالم ويغيره. وهو لازم أيضًا بسبب ذلك السحر الكامن فيه”(12). إن هذا التعريف للفن، الذي يتضمن تعريف وظيفته أيضًا، يقع في إطار مفهوم الهوية ذاتها، والذي ينحصر بدوره في سياق العلاقة بين “الأنا” و”الآخر”، والتي لا يمكن للفن التحرر منها ومن دوائر الهوية على اختلاف صورها، الاجتماعية والثقافية والسياسية.


هوامش:
1 ـ محمد علي أبو ريان، فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة، ط 8 (الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية، 1989، ص (155 ـ 158).
2 ـ المصدر نفسه، ص (158 ـ 161).
3 ـ آرنولد هاوزر، فلسفة تاريخ الفن، رمزي عبده جرجس (مترجم) (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2008)، ص (51 ـ 62.
4 ـ أبو ريان، ص (163 ـ 164).
5 ـ روبين جورج كولنجورد، مبادئ الفن، أحمد حمدي محمود (مترجم) (القاهرة: المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر، 1966)، ص (341 ـ 343).
6 ـ ميخائيل أسعد، سيكولوجية الإبداع في الفن والأدب، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986)، ص (8 ـ 15).
7 ـ شاكر حسن آل سعيد، الحرية في الفن ودراسات أخرى، ط 2 (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1994)، ص (89 ـ 90).
8 ـ أبو ريان، ص (189 ـ 194).
9 ـ آرنست فيشر، ضررورة الفن، أسعد حليم (مترجم)، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1971)، ص (12 ـ 16).
10 ـ المصدر نفسه، ص (14 ـ 15).
11 ـ ثروت عكاشة، الفن والحياة، (القاهرة: دار الشروق، 2002)، ص (22 ـ 23).
12 ـ فيشر، ص (16 ـ 17).

*ضفة ثالثة