من هيهذه السيدة التي تدعى “جي كي رولنج”؟ إذا كنتم لا تعرفونها فدعوني أعطيكم لمحة عنها:
هي تلك الكاتبة الانكليزية التي لم تبلغ الخمسين عاماً من عمرها بعد, ولكنها تتربع على عرش اللغة الإنكليزية المعاصرة. تبدو كتاباتها وكأنها رقص لغويّ شعبيّ عمره آلاف السنين, وقصصها وكأنها نجمات تشعُّ في ليالي الصيف المقمرة. تكتب وكأنها تؤلف مقطوعة موسيقية يطرب لها كل من يسمعها صغيراً كان أم كبيراً, فحكاياها مفتوحة لاحتضان البشر والحجر. في صوتها الروائيّ يجتمع هذا اللعب الخفيّ القصيّ, الغامض الواضح الذي يتشكل عندما تلتقي حروفها ببعضها لتخلق الكلمات, والكلمات ببعضها لتشكل النصوص, والنصوص ببعضها لتولد الحكايات. سحر لغتها انسكب في سحر واقع قصصها, فأعطت الحياة لهذه الأسطورة القصصية التي أطلقت عليها اسم, “هاري بوتر”.
بدأت الحكاية منذ حوالي العقدين من الزمن يوم جاءها طيف ذلك الطفل الصغير, “هاري بوتر”, وهي في رحلة العودة بالقطار من إجازة كانت تقظيها في مدينة “مانشستر” في انكلترا, إلى “ادنبرة” عاصمة اسكتلندا حيث تعيش. ولكنها لم تكن تعرف في ذلك الحين بان ذلك الطفل سيكون ذلك الساحر الذي سيحولها إلى أُسطورة يتحدث عنها العالم فيما بعد.
هكذا ولد ذلك الطفل الساحر “هاري بوتر” في الخيال ومنه, في مُخيلة تلك المرأة القلقة دائماً والتي بحاجة لأن تكون على سفر, كما تقول عن نفسها, كي تأتيها الأفكار. كتبت “هاري بوتر” في سبعة كتب من سبعة أجزاء في قصّة حملت اسمه كعنوان رئيسي يموت في الجزء الأخير منه. تُرجم إلى أكثر من 76 لغة, وبيع منه ملايين النسخ بل ويعتبر الأكثر مبيعاً في تاريخ الكتابة والنشر منذ ولادة البشرية. ثم صُنع منه 8 أفلام سينمائية ضخمة جداً وكتب عنه مقالات وتحليلات لا تُعد ولا تحصى.
ولِدَ “هاري بوتر” وعاش في خيال تلك المرأة, فغيّر حياتها وقلبها رأساً على عقب. حوَّل كتاب “هاري بوتر” حياة تلك المرأة الوحيدة – الأُمّ الفقيرة التي كانت تسكن, أثناء كتابة “هاري بوتر”, بالايجار مع ابنتها وتعيش على المساعدات الإجتماعية للعاطلين عن العمل في اسكتلندا. إلى واحدة من أشهر وأغنى بني البشر على الإطلاق. وفي بعض الإحصاءات تأتي أغني من ملكة بريطانيا التي تملك ثروة لا يكن تقديرها. نعم كتاب واحد فعل كل هذا فتخيلوا معي يا رعاكم الله: قوة الكلمة وما يمكن ان تفعله. وتعلّق “رولنج” على هذا التغيير الكبير, والانقلاب الذي أحدثه هذا الكتاب وتأثيره على حياتها فتقول: أنا ما زلت نفس الإنسانة التي كنت ولكن الفارق الوحيد الآن هو أن الكثيرين الآن يريدون, بل وينتظرون سماع ما أقول. بينما قبل هاري بوتر, لم يكن أحد يهتم أو يكترث أو يعيرني أي اهتمام بالرغم من انني, ربما, كنت سأقول نفس الشيء الذي أقوله الآن.
الإنسان هو هو أينما كان. يُخيل إليّ أحيانا بأن من ضمن المشكلات العديدة التي نعاني مهنا في عالمنا العربي, بل ان المشكل الرئيسي يكمن في العيش للغير ومن أجل تحقيق ما يأمله الآخر منا. وهذا بعض ما تحدثت عنه “رولنج” في كثير من كتاباتها. ولكن كتاباتها هي عن الإنسان الغربي الذي تعرفه وتعايشه, فتخيلوا ماذا كانت ستكتب عنا نحن العرب لو عايشتنا.
في كتابها الجديد “كاجوال فاكانسي” الذي صدر في أيلول – سبتمبر 2012 والذي كتبته للبالغين هذه المرة, والذي لم يُترجم بعد إلى اللغة العربية على حد علمي, تقول فيه: “ان الكتابة هي محاولة لإعادة ترتيب الواقع, ولكن كما نريده لا كما هو”.
أما كيف تشكلت لديها هذه المخيلة الفريدة وفي حديث لها عن حياتها تقول “رولنغ” بأنه كان لوالدتها تأثير كبير على حياتها حيث انها أغنت مُخيلتها بالقصص والحكايات التي كانت ترويها لها قبل الذهاب إلى النوم وهي صغيرة. ومنذ ذلك الحين كانت مقتنعة بأن ما تريد ان تفعله في حياتها هو كتابة القصص.
بالرغم من أنها كانت وما زالت, كما تقول عن نفسها, قارئة نهمة تقرأ كل ما تجده في طريقها, إلا أنها كانت قد صُنِّفت كتلميذة “غير مُجتهدة” نظراً لتدني مستوى علاماتها. ونجاحها في الدراسة والحصول على شهادة جامعية, في الأدب الكلاسيكي, كان لمجرد انها كانت تعرف كيف تجتاز الإمتحانات. حيث انها كانت حتى أيام الجامعة تمضي معظم أوقاتها في قراءة القصص بدل الدراسة أو الذهاب إلى حضور المحاضرات الجامعية. تقول بأنها كانت قد درست الأدب الكلاسيكي معارضة بذلك رغبة والديها اللذان أرادا لها أن تدرس شيئاً يؤمن لها حياتها في المستقبل. حيث ان دراسة الأدب, برأيهما, “لا تطعم خبزاً”. ولكنها تضيف بأنها لا تلومهما على هذا التفكير الطبيعي الناتج عن الحياة الصعبة التي عاشاها لكي يؤمنا لقمة العيش. وعن “الفقر البريطاني” تصفه بالقول بأنه: يسبب الألم والمذلة والمهانة, والحمقى فقط ينظرون إلى الفقر بشكل رومانسي.
فإذا كان هذا هو ما يسببه الفقر في بريطانيا, فما الذي يفعله عنذنا؟ أتراه ما يحدث في سوريا هو من أحد أفعاله؟
“لسبب ما, ما زلت أجهله, كنت طوال حياتي أخاف من الفشل لا من الفقر. والأمر الهام الذي يجب أن نَعيه هو انه هناك تاريخ (لانتهاء صلاحية) لوم الأهل على توجيهنا بالاتجاه غير الصحيح في اللحظة التي نتسلَّم فيها دفة القيادة في حياتنا, فمسؤولية توجيه حياتنا بالإتجاه الذي يناسب كل واحد منا تقع على عاتق الفرد لا الأهل ولا المجتمع بعد ذلك”. تقول هذا مخاطبة الحضور في حفلة تخريج الطلاب لعام 2008 في جامعة “هارفارد” التي دعيت إليها لتلقي خطاباً كما سرت العادة في بعض الجامعات الغربية, حيث تُدعى شخيصات بارزة للحديث عن تجاربهم في الحياة في حفلات التخرج. تخيلوا بأنها أكثر ما ركزت عليه في خطاب حفل النجاح ذلك, هو الفشل ولكن لفوائده. حيث تقول بأنه, الفشل, كان المعلم الأول والأفضل في حياتها, فقد علّمها أن تكون هي كما هي, لا كما تظن أو تدّعي. جعلها, الفشل, توجّه كل طاقاتها لإنجاز العمل اليومي الذي يستحق الإهتمام والذي يؤمن استمرارها في الحياة. أي بتعبير آخر, دفعها الفشل للتركيز على ما يمكن انجازه واقعياُ وعملياُ, والتخلي عن الأحلام المتخيلة والبعيدة. وتقول بأن هذا منحها إحساساُ بالحرية والأمان لتعيد ترتيب حياتها على نحو جديد. حيث ان الفشل الأكبر الذي كانت تخشاه طيلة حياتها قد حدث, وهو ان لا تستطيع ان تمارس العمل الذي تريده وهو ان تصبح كاتبة. كل واحد منا محكوم بالفشل, بشكل أو بآخر, قليلاُ أو كثيراً. والذي لا يجرب الفشل, يعش طوال عمره حذراً لدرجة ان لا يخوض إية مغامرة كي لا يتعرض للفشل, وبهذا يكون وكأنه لم يعش أبداً. وبالنتيجة يكون قد فشل في ان يحيا أساساً, تقول “رولنغ”. وتعتبر بأن السعادة تكمن في معرفة حقيقة ان الحياة هي ليست في قائمة الأشياء التي نمتلكها أو النجاحات التي نحققها, بالرغم من ان أكثرية الناس تخلط ما بين هذا وتقول عكس ذلك. وربما هذا ما يجعل الحياة أكثر تعقيداً مما هي حقيقةً, وخصوصاً بالنسبة للأجيال الجديدة الناشئة, وهذه المعايير الزائفة التي يتلقونها لكيفية تحقيق السعادة الشخصية. أيضاً تتحدث عن أهمية المحن التي, برأيها, يجب على الإنسان أن يعيشها ليختبر نفسه وأصدقائه. وتقول بأن المعرفة التي يخرج بها الإنسان من هذه التجربة, قيمتها أكبر بكثير من أي شهادة يمكن للإنسان ان يستحصلها.
ختاماً, تحضرني مقولة للمخرج الإيطالي “روبرتو بنيني” حيث يقول شيئاً شبيهأ للآتي: إذا ما أردت أن تكون شيئاً ما, فإن الكون كله سيتآمر معك كي تحققه. وان تغامر بحياتك لتحقيق ما تصبو إليه, يعني أن تعيش الحياة كما هي حقيقة, ولكن بعمق. هكذا وبدون أي اتصال يتصلون ويتفقون, لأن المبدعين الكبار وأينما كانوا في الحياة, يقطنون في فضاء الإبداع الذي يقوم على نفس الأساس, الأساس الذي دائماً يخالف السائد والمتعارف عليه. الأساس الذي لا أساس له إلا الحرية وإطلاق العنان للخيال بعد فهم الواقع وهضمه. هذا الفهم الذي يجب ان يجد طريقة للتعامل مع هذه الحياة بوصفها كلاُ. هذه الحياة التي يصفها أحد فلاسفة اليابان بالقول بأنها ذرات تتحرك في واقع عميق أسود.
ذرات تتحرك في واقع عميق أسود! هل ما يحدث في سوريا دليل على صحّة هذه المقولة؟ أم ان الدليل كان ساطعاً – قاطعاً قبل ذلك بوقت طويل ولكننا لم نراه!
تنهي “رولنج” خطابها في جامعة “هارفارد” بالقول: من أجمل وأعمق الأشياء التي قَرَأَتها في حياتي, أثّرت وما زالت تؤثّر فيَّ كل يوم, هذا التعبير الذي كتبه أحد الكتاب الكلاسيكيين منذ آلاف السنين حيث يقول:
تماماً كما هي الحكاية هي الحياة,
لا يهم كم طويلة أو قصيرة هي,
بل بجودتها وكيف كانت هي, هي رَوَائِزُها.
*خاص بالموقع