فشلت جهود تحقيق العدالة للسوريين، مع إثبات الدول عجزها عن كسر حالة الجمود. بيد أن النشطاء السوريين ونشطاء العدالة واصلوا مقاومة الانهزامية.
حين اندلعت الثورة السورية عام 2011، تقدمت كل من العناصر الفاعلة السورية والدولية بنموذج العدالة الانتقالية ليواكب المرحلة الانتقالية المرجوة. وعندما تلاشى الأمل في تصور آفاق تلك المرحلة الانتقالية، واصل المجتمع المدني السوري استخدام النموذج نفسه لتحقيق العدالة في وضع يبدو فيه أن الإفلات من العقاب هو العرف السائد على نحو متزايد. بيد أن المجتمع الدولي لم يفشل في وقف سياسات الإبادة التي ينتهجها النظام السوري وروسيا فحسب، بل أثبت أيضاً فشله في إتاحة سبل العدالة للتحقيق في الجرائم التي تقع في سوريا ومحاكمة مرتكبيها. وقد قاومت منظمات المجتمع المدني السورية والدولية الموقف السلبي الذي يتبناه المجتمع الدولي تجاه الصراع السوري، وأطلقت مبادرات مبتكرة تُعنى بالعدالة، بهدف التصدي لهذه الانهزامية الراسخة إزاء استحالة السعي نحو تحقيق العدالة في هذا الإطار.
وفي حين ركزت معظم المناقشات المتعلقة بجهود العدالة الانتقالية في سوريا على عمل المنظمات غير الحكومية والمؤسسات الدولية القائمة، فإننا نؤكد أن ثمة أشكالاً أخرى من أنشطة المجتمع المدني تستحق مزيداً من الاهتمام والتركيز. فقد ساهمت مجموعات الضحايا في إتاحة مساحات وأساليب تمتد جذورها في مفاهيم العدالة عند الضحايا، ما أدى -بشكل ملموس- إلى تعزيز الجهود الرامية إلى إبراز الحقيقة وتوفير العدالة.
الضحايا السوريون بوصفهم فاعلين أساسيين في العدالة
يتسم مشهد العدالة السوري بوجود مجموعة شديدة التنوع من الفاعلين في مجال العدالة. تتنوع هذه العناصر الفاعلة في مجال العدالة ما بين الآليات التي أنشأتها الأمم المتحدة مثل “الآلية الدولية المحايدة المستقلة للمساعدة في التحقيق والملاحقة القضائية للأشخاص المسؤولين عن الجرائم الأشد خطورة وفق تصنيف القانون الدولي المرتكبة في الجمهورية العربية السورية منذ آذار/ مارس 2011″، إضافة إلى دول مثل هولندا وكندا، التي شرعت في إجراء مفاوضات مع النظام السوري بموجب المادة 30 من “اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة”. علاوةً على مجموعة كبيرة من العناصر الفاعلة في مجال العدالة الخاصة، على غرار منظمات المجتمع المدني السورية والمنظمات غير الحكومية الدولية التي تُكرِّس جهودها لتحقيق العدالة، غالباً بالتعاون مع نظيراتها من المنظمات السورية.
في واقع الأمر، كان المجتمع المدني السوري هو العامل الرئيسي الدافع للتغيير، بل ساهم في وضع نُهج مبتكرة من أجل التغلب على حالة الجمود التي شهدتها العدالة. أولاً، بذل المجتمع المدني الكثير من الجهود في عملية التوثيق، في سبيل إرساء الأساس لجهود المساءلة (في المستقبل) والحيلولة دون اختفاء الأدلة. ولأن السوريين وقعوا ضحايا لعنف الدولة منذ أكثر من 50 عاماً، فقد صاروا يقاومون إجبارهم على الصمت وتعرضهم مرة أخرى للإقصاء. ثانياً، أتاحت أنشطة المنظمات غير الحكومية السورية والدولية سبيلاً جديداً للمساءلة الجنائية، في ظل غياب السبل المحلية والدولية بسبب حق النقض الروسي والصيني في مجلس الأمن. فقد كرست منظمات غير حكومية جهودها حول التقاضي الاستراتيجي وطالبت بإنفاذ مبدأ الولاية القضائية العالمية للتمكين من الملاحقة القضائية لجرائم الحرب. وقد أسفرت هذه الجهود في نيسان/ أبريل 2020 عن إقامة المحاكمة الأولى في العالم حول التعذيب في سوريا، المعروفة باسم “محاكمة الخطيب” في ألمانيا. ثالثاً، أفضى ظهورُ الجمعيات التي يرأسها الضحايا أنفسهم، ومشاركتُها في عمليات التعبئة في المساحات غير الرسمية، إلى تسليط الضوء بشكل متزايد على أولويات المستفيدين الرئيسيين من العدالة، مثل الناجين من التعذيب وأسر المختفين وأسر المحتجزين.
ينصب جل اهتمامنا على الإبداع في هذه المساحات غير الرسمية، إذ إنها هي الأماكن التي تحدث فيها أكثر الإبداعات تميزاً. وفضلاً عن ذلك، نرى أن أنشطة مجموعات الضحايا جديرة بمزيد من الاهتمام وبدور مركزي أكبر في النقاش حول الحقيقة والعدالة في سوريا. وقد مكّن ظهور مجموعات الضحايا الناجين وأُسَرَهم من الاضطلاع بدور فعال في أنشطة الدعوة والتوعية. واستناداً إلى القناعة بأنه لا يمكن اختزال دورهم ليكونوا مجرد شهود، فقد وضعوا برنامجاً مستقلاً للنهوض بمبادرات الحقيقة والعدالة؛ إذ يستعيدون دورهم في إجراءات العدالة بينما يلقون الضوء على التهميش الذي عانوا منه حتى الآن. وقد أعربت فدوى محمود، التي يُحتجز زوجها وابنها في سجون النظام، خلال ندوة مشتركة على هامش فعاليات الجلسة الحالية الـ46 لمجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، عن أن “لنا دوراً يتعين علينا الاضطلاع به”. مُضيفةً أن “المجتمع الدولي يتحدث عنا وعن أبنائنا، بينما نعاني من التهميش”.
في هذا الصدد، ساهم التدخل الاستباقي في مشهد العدالة من جانب جمعيات الضحايا السوريين في تقديم وسيلة للمضي قدماً بهدف الحد من التوتر المتزايد بين المبادرات المختلفة التي نشأت في إطار العدالة الانتقالية. في حين مكّن حشد الضحايا من استحداث منظور جديد تشتد إليه الحاجة لتحديد أنسب أشكال العدالة في سوريا: وهي العدالة التي تتمحور حول الضحايا، وترتكز على الأهمية الرئيسية للضحايا واحتياجاتهم على النحو الذي يحدده الضحايا أنفسهم.
(درج)