سؤال «ما العمل؟» بشكله المُلِحِّ والعاجل ضرورة لا بد من أن يتفكر بها كل عاقل مدرك لعمق الأزمة الكارثية التي يعيشها جل بنو البشر في أصقاع المعمورة بأشكال وتلاوين مختلفة لا تغير من عمق معاناة كل من هؤلاء البشر المستضعفين كل وفق حالته الخاصة المرتبطة بالواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يعيش في كنفه.
وأهمية سؤال «ما العمل؟» تنبع من أهمية استبطان المُسَلَّمَة الأساسية الكامنة في عمق أي تغيير في واقع حيوات بني البشر، والتي تتمثل بأن التغير المراد إدراكه لا يمكن حدوثه لوحده ومن تلقاء قوى غيبية أو عفوية، وإنما يتكامل فقط جراء اجتهاد أولئك الأفراد بشكل فاعل وممنهج لتحقيق أهدافهم، بالصبر والمصابرة لتحقيق تلك الأهداف حين تحدث انتكاسات لا بد منها في سيرورة سعيهم لما يسعون جمعياً إليه، آخذين بعين الاعتبار أن حركية التاريخ دائماً لا تسير بخط مستقيم في غالب الأحايين، وأن التراكم الاجتهادي، والذي قد يتطلب أجيالاً تعمل وتأخذ المشعل من أسلافها لتحقيق الهدف المروم الذي قد لا يدركه المجتهدون الأوائل الذين توافقوا على السعي الجمعي في نسق العمل التشاركي لتحقيق ذلك الهدف خلال حيواتهم العابرة على وجه البسيطة. والحقيقة الثابتة لكل مطلع على صيرورة نهوض بني البشر على امتداد رحلتهم التطورية التي امتدت على سبعة ملايين من السنين تشير بعمق إلى صحة وصلاحية الأطروحة السالفة، وصعوبة إيجاد سواها لتفسير أي تغيير حقيقي ملموس في مستوى حيوات بني البشر اليومية. والحقيقة الثابتة الأخرى في التاريخين الحديث والمعاصر منذ الثورة الفرنسية في العام 1789، وحتى اللحظة الراهنة، تتمثل في أن التغيير الاجتماعي المروم من الفئات الشعبية لم يحدث أبداً من تلقاء نفسه، وإنما فقط كحصيلة لنضال واجتهاد فئات مجتمعية بعينها لتحقيق ذلك الهدف، وهو ما يعني بشكل عياني مشخص أن العمل الجمعي، ونبذ الانعزال والسلبية والانسحاب الاجتماعي، وتحويل الإنسان إلى نموذج «ناقم صامت» على واقعه المؤوف الأشوه، لا يعبر عن نقمته وعدم رضاه عن واقعه المعاش يومياً سوى بلعن الفاسدين المفسدين سراً، وإعلان «الصمت السلبي» خياره الأوحد الذي ليس سواه في جعبته، بحجة أن «العين لا تقاوم المخرز»؛ وهي حقيقة صحيحة بشكل كلياني، مع استثناء واحد تثبته حركية التاريخ البشري، وتتمثل بأن الأعين حينما تجتمع وتلتقي وتشكل طوفاناً من المآقي المستعدة للتضحية من أجل ذريتها، ومن سوف يأتي بعدها، دون أن تتفكر بأن التضحية مسؤولية للآخرين، وأن «التَّقِيَّةَ أسلم الشرور»، وأن «تبكي ألف أم سوى أمي»، فحينها سوف يمكن لتلك العيون أن تقاوم مخارز جلاديها، وتفقأ عيونهم، وتحتز هيمنتهم على حيواتهم وأحلامهم وقوتهم ومستقبل أبنائهم.
وبشكل أكثر تبئيراً فإن المدخل الأوحد في منظومة العلاقات الإنتاجية والاجتماعية والاقتصادية المعاصرة لتحقيق ذلك النهج من استنهاض قدرات الفعل الجمعي والتعاضد الاجتماعي لتحقيق الأهداف المشتركة لا يمكن أن يتم دون حواضن اجتماعية لتأطير وتوجيه وتكثيف تلك الاجتهادات ودفعها في اتجاه إحداث التأثير المروم اجتماعياً. والمثال الأكثر نصاعة عن تلك الحواضن يتجسد دائماً في الاتحادات النقابية والعمالية، والتي تمثل الطيف الأوسع من الفئات التي تعاني في جل المجتمعات في أرجاء الأرضين بدرجات مختلفة جراء مفاعيل الهيمنة والتغول على حيواتها من قبل الفئات المهيمنة على المستوى المحلي على مصادر السلطة والثروة والإعلام في تلك المجتمعات، وهي الفئات التي تتواشج مصالحها فيما بينها بشكل وثيق العرى وعابر للقارات في حقبة الرأسمالية الوحشية المعولمة بشكلها الليبرالي المستحدث.
وتلك الحواضن النقابية والاتحادات العمالية تمثل ضرورة لا بد منها لتوحيد جهود الفئات المستضعفة والمنهكة جراء استغلالها التراكمي و التاريخي في اتجاه تحقيق أهداف اجتماعية واقتصادية وحياتية عيانية مشتركة يتلاقى كل المنتسبين إلى تلك الحواضن على ضرورة تحقيقها، دون إقحامها بكثير من الأدلجة الفكرية، والتي لا بد أن تتركز بشكل طبيعي حول حماية حقوق الطبقات العاملة الأساسية، وتحسين ظروف عملها، وزيادة حصتها من فائض القيمة الذي تنتجه، والسعي لزيادة مساهمتها في اتخاذ القرارات الإدارية في مكان عملها، و رسم حدود الكيفية التي يتم بها توجيه دفة الإنتاج والتخطيط في موقع عملها وكدحها، وإعادة الاعتبار للاعتبارات البيئية والاجتماعية في أي عملية إنتاجية تساهم بها، وخاصة لمبدأ حماية المحيط البيئي والحيوي، وحق الأجيال القادمة في حياة طبيعية وصحية غير مؤوفة بسموم الإنتاج الرأسمالي المتوحش الذي لا يبصر من الأهداف سوى هدف الربح السريع بغض النظر عن أي خسائر جانبية لا بد من عدم الاكتراث بها سواء كانت خسائر بيئية أو حيوية أو حتى حيوات الكثير أو القليل من البشر.
وذلك التوصيف الأخير لا بد أن يستحضر الضرورة المُلِحَّةَ لإعادة تعريف «الطبقة العاملة» في الحقبة المعاصرة، إذ أن تعريف طبقة العمال الصناعيين وفق النهج الكلاسيكي الماركسي لم يعد صالحاً لتعريف تلك الطبقة، والتي ينتسب إليها راهناً كل أولئك الذين لا خيار لهم في حيواتهم سوى بتأجير أنفسهم بشكل مؤقت يومياً، ومبادلة قوة عملهم بأجور يومية أو شهرية، وهي الفئات المستضعفة في المجتمع التي تئن تحت وطأة وثقل مفاعيل هيمنة الأقوياء الأثرياء على جل مفاصل حيواتها وقوْتِها وأحلامها وصحة أبنائها وتعليمهم ومستقبلهم بأشكال وتلاوين مختلفة حسب كل مجتمع، ودون أن يغير ذلك من واقع ومفاعيل تلك الهيمنة الراسخة على المستوى الكوني.
وذلك التوصيف الأخير مقدمة لضرورة استنهاض مفهوم «الصراع الطبقي»، ونزع الركام العامد المتعمد الذي يحاول الأقوياء سكبه على المفهوم لتغييبه أو تعميته في عقل ووجدان كل المقهورين بمفاهيم خلبية من قبيل الوحدة الوطنية، والسلم الأهلي، وصراع الثقافات، ونهاية التاريخ، وصراع الحضارات، وكلها تنويعات بربرية على نفس المقام الوحشي تحاول إخفاء مفاعيل علاقات الإنتاج المؤوفة، وهيمنة الأثرياء الأقوياء على مفاتيح الحل والعقد على المستوى الكوني ممثلة بالسلطة والثروة وصناعة المعرفة عبر وسائل الإعلام والاتصالات.
والصراع الأخير لابد أن يستدعي بالضرورة التصريح بأهمية انتظام عملية دفاع الطبقات العاملة في المجتمع عن نفسها وعن حقوقها بدريئة أخرى تصهر أهداف الطبقات العاملة فيما بينها من خلال حزب سياسي يحصل على تمويله من اشتراكات النقابيين أنفسهم على اختلاف المشارب والتخصصات الفنية للنقابات التي ينتسبون إليها، ويضع على رأس قائمة أهدافه المساهمة في ترقية المجتمع وحيوات أفراده كلهم بالانطلاق من النقاط والأهداف المشتركة التي تتلاقى عليها النقابات والاتحادات المهنية التي يحصل على تمويله منها، و ذلك من خلال التحامه بخضم العمل السياسي المدني في المجتمع، وهو ما يجعل من ذلك الحزب المرتبط عضوياً بمصالح الطبقات العاملة والأهداف المشتركة التي تتلاقى حولها اتحاداتها العمالية رافعة جمعية لترقية حيوات كل أفراد المجتمع الذي يعمل سياسياً فيه، وليس فقط أولئك المنتسبين للاتحادات النقابية التي تموله؛ وهو ما يعني تحول الطبقة العاملة إلى محرك لترقية المجتمع وحيوات أبنائه جميعاً في اتجاه يأخذ دائماً بالاعتبار مصالح الفئات المستضعفة والمهمشة في المجتمع، والتي جلها من الفئات العاملة التي أُخْرِجَتْ من الجسد الإنتاجي لانتهاء صلاحيتها البيولوجية بالمنظار الرأسمالي البربري المتوحش، أو بسبب وجود فائض كبير منها لا حاجة للجسد الرأسمالي المشغول بالاستثمارات قصيرة الأمد والتي تدر أرباحاً سريعة على شاكلة الاستثمارات العقارية والمضاربات في أسواق الأسهم والسندات، دون التفكر بأي استثمارات طويلة الأمد من تلك التي لا بد أن تحتاج إلى أعداد أكبر من العمال الحقيقيين للقيام بالجهد الإنتاجي التي تتطلبه مثل تلك الاستثمارات طويلة الأمد، و التي قد لا تبدأ بإدرار أرباح فعلية إلا بعد انقضاء بضع سنين أو عقود في بعض الأحايين. وذلك النموذج من الحزب السياسي المشار إليه آنفاُ لا بد أن يكون في جوهره وكيانه البنيوي والوظيفي وهيكله التنظيمي تابعاً وخاضعاً لإرادة الاتحادات العمالية والنقابات والنقابيين الذين يمولون وجوده السياسي ككيان عياني مشخص، وبشكل ينافي كليانياً فكرة «حزب الطليعة الثورية» التي ترى في كل عموم الشعب، وكل أشكال طبقاته العاملة «دهماء عاجزة عن تكشف الغث من السمين»، ولا بد لها من الخضوع الكلياني إلى إرادة أولئك «المخلِّصين الأطهار» ليقودوهم إلى الأكثر صلاحية لهم، والذي لا يستطيعون إبصاره «بقدراتهم المحدودة» التي لا يمكن أن ترقى إلى طاقات وقدرات «حزب الطليعة الثورية» الذي لا بد للكل الجمعي من الاستسلام إلى نهجه «الديكتاتوري» الذي لا يبغي في «المآل الأخير» سوى خير رعيته من «قاصري العقول والبصائر».
ومن ناحية أخرى لا بد من الإشارة إلى أهمية عنصر تكميلي قد لا يستقيم من دونه تَلَمُّسُ أي احتمالات للخروج من نفق المستنقع البائس المعاش راهناً، والذي جوهره هيمنة الأقوياء الأثرياء الذين يشكلون نسبة مجهرية من عموم أبناء الأرضين على الرهط الأعظم المتبقي من البشر الذين همهم اليومي السرمدي محصور في البقاء على قيد الحياة ومكابدة عسفها وظلمها في كل يوم، وهو العنصر الذي يتمثل بالأهمية المُلحة لتعميق الوعي المعرفي النقدي لدى كل أفراد الفئات المفقرة المنهوبة تلك، فهو سلاحها شبه الأوحد منذ صعود عصر الأنوار في أوروبا، والذي كان أحد أهم نتاجاته الفكر التحرري الانعتاقي الذي بشر به مفكرون من جان جاك روسو في كتابه العقد الاجتماعي، و الذي كان العنوان العريض لفاتحته: «يوْلَدُ الناس أحراراً ولكنهم في كل موضع مكبلون بالأصفاد»؛ وهي المقولة التي كانت بمثابة الزناد القادح لانطلاق الزخم الفكري الذي كان مقدمة للثورة الفرنسية، و ما تلاها من ثورات متعددة في القارة الأوروبية في العام 1848، وهي الثورات التي أفضت إلى تشكل البنى الديموقراطية الشكلية الراهنة في أوروبا، والتي اضطرت الفئات المهيمنة للتراجع للوراء، والقبول بتحسين شروط حيوات المواطنين الأوربيين لكي لا يستمروا في ثوراتهم، واستبدلت استغلالهم الوحشي باستغلال وسرقة ونهب ثروات و رمق حيوات أبناء المستعمرات سواء عبر تحويلهم عبيداً مقهورين مستأصلين من جذورهم، ولا خيار لهم إلا بالعمل المجاني لزيادة ثروات آسريهم، أو عبر سرقة الثروات الباطنية بكل أشكالها من أرض مجتمعات المستعمرات دون رقيب أو حسيب، و ذلك بإرغام أبناء المستعمرات للقيام بذلك، أو بإجبار من تم استرقاقهم من القارة الأفريقية للقيام بذلك بعد فناء السكان الأصليين كما حدث في قارتي العالم الجديد بعد حلول المستعمرين عليها منذ بواكير القرن الخامس عشر، أو كما كان في أحد أكثر الفصول وحشية وبربرية في التاريخ الحديث، و الذي كان جوهره الأليم تحويل الزُّرَّاع في دول المستعمرات البريطانية في شبه القارة الهندية إلى أقنان يعملون ليلاً ونهاراً لزراعة الخشخاش واستخلاص الأفيون ليقوم مستعمروهم بالإتجار به «قسراً» مع شعوب الأمم الأخرى، وخاصة مع الصين التي لم يجد آنذاك المستعمرون من البريطانيين أساساً و الهولنديين بدرجة أقل ما يتاجرون به مع الصين سوى «المخدرات»، فخاضوا حروباً طويلة ودامية لأجل إرغام شعوب الشرق الأقصى على «الإدمان» على نتاج تجارتهم «الإمبريالية بامتياز».
وتأصيل الوعي المعرفي النقدي ونهج الاستنارة والرشاد بين جماهير المظلومين المقهورين لا يؤدي فقط إلى شد عود وتصليب قدراتهم على تفهم واقع حيواتهم البائسة بأنه ليس من «طبائع الحياة»، وأنه ناتج فعلي لعلاقات إنتاج ونظم هيمنة وحشية تحاول إقناعهم بذلك، إذ أنه الوسيلة الوحيدة الصالحة، والتي أثبتت صلاحيتها على مر التاريخ في الدفاع عن حق المستضعفين في الانعتاق من واقع ظلمهم واستغلالهم يكمن فقط وبشكل شبه حصري في سعيهم ودأبهم واجتهادهم ونشاطهم الفاعل لقلب ذلك التوازن البائس، والذي لا يمكن أن يتم إلا من خلال تعاضدهم واتحادهم وتنظيم جهودهم الكلية لتدفع باتجاه تحقيق أهدافهم الانعتاقية المشتركة، والتي قد لا يكون أفضل من منظمات المجتمع المدني والاتحادات العمالية والنقابات كإطارات لذلك الشكل المُلح من الحشد والتنظيم.
ومن ناحية أخرى لا تقل أهمية عن النقطة الأخيرة فإن المستنيرين والمتعقلين لا يقتتلون فيما بينهم ويقتلون بعضهم بعضاً بالشكل الذي تسعى لتكريسه دائماً الفئات المهيمنة لإبقاء الفئات الشعبية التي تهيمن عليها أسيرة صراعاتها البينية الواهية، وغير ملتفتة إلى أس واقعها المعاشي البائس، وأسباب إحساسها العميق بالضيم وانسداد الآفاق. وعملياً فإن تأصيل العقلانية والرشاد والوعي المعرفي النقدي يمثل المفتاح الجوهري الذي لا يمكن الاستغناء عنه لنقل المظلومين من حيز الاقتتال والصراع بين أخوة الظلم والتهميش والإفقار إلى حيز تكشف عناصر اللقاء المشترك فيما بينهم، وتحييد نقاط الخلاف مرحلياً، لحين إدراك الهدف المشترك لهم جميعاً، والمتمثل في حياة حرة كريمة وعادلة وصحة متزنة ومستقبل غير عدمي لذريتهم من بعدهم؛ دون إهمال نقاط الاختلاف التي لا بد من الاشتباك بصددها لاحقاً بعد تحقيق ذلك الهدف المشترك الأسمى، والتي سوف يدرك العقلاء حينئذٍ، بعد تراكم خبرتهم الجمعية المشتركة في مقارعة مستبديهم وظلامهم بأن الطريق الأجدى في مقاربة نقاط الاختلاف تلك يتمثل في الحوار لإيجاد توازن وحلول وسطية تنأى بنفسها دائماً عن نهج التمترس والمماحكة العدمية التي لا تعدو أن تكون إرهاصات لمعادلة الغالب أو المغلوب والقاتل أو المقتول، والتي دون الترفع عنها وتوحيد جهود المظلومين المقهورين فلا سبيل لهم في الانعتاق من المستنقع الراكد الذي يريد لهم ظُلَّامُهُم الانحسار السرمدي إلى لجه وقعره الظلامي البائس.