مصعب قاسم عزاوي: ثنوية معايير تعريف الضحية

0

يقوم عمل وسائل الإعلام المتسيدة أساساً بكونها أدوات تنفيذية في يد الفئات المهيمنة على مصادر الثروة والسلطة في المجتمع التي تعمل بها، وبأنها تعمل بشكل دائم للحفاظ على استدامة تلك الهيمنة وتوطيد مفاعيلها والحرص على عدم حدوث أي تهديد حقيقي فعلي لاستمراريتها ووجودها البنيوي والوظيفي. ومن جملة وسائل توطيد الهيمنة تبرز موضوعة «صناعة صورة الضحية» بكونها أحد أكثر الوسائل استخداماً وتأثيراً بنفس الوقت. ويقوم نهج صناعة صورة الضحية على ثنوية ثابتة غير قابلة للتغاير أسها بأن أي الضحايا من البشر أو الزرع أو الضرع «ضحايا ذوو قيمة عليا» حينما يكون مصدر الحيف الواقع عليهم من مصدر تخالف توجهاته ونهجه أهداف ومصالح الفئات المهيمنة التي تعمل لصالحها وسيلة الإعلام التي تقوم بتغطية «الجريمة النكراء» التي وقعت بحق أولئك «الضحايا ذوي القيمة». والأمثلة على ذلك النسق الأخير من «الانحياز التعريفي» عديدة يستعصي حصرها على كل متابع مدقق لكيفية عمل وسائل الإعلام المتسيدة. وكمثال حي يرزق يمكن الإشارة إلى «حكاية المناضلين الخلبيين» من المدافعين عن «الديموقراطية وحقوق الإنسان» من قبيل المعارض «أليكسي نفالني» الذي تصادف أنه قام برفع صوته مجاهراً برفضه لسياسات فلاديمير بوتين الاستبدادية في روسيا، وهي سياسات تستحق كل أشكال الإدانة فعلياً، ولكن دون تحويل شخص «نفالني العنصري المقيت»، والذي لم يخف عنصريته المتقيحة ضد الملونين في غير مرة، إلى ضحية على شاكلة «المصلوبين من الأطهار الأخيار» والذي لا بد من تقديس تضحياتهم بكرة وعشياً.

وعلى المقلب الثاني يبرز مفهوم «الضحايا الذين لا قيمة لهم» بكونهم الضحايا المباشرين أو الجانبيين لأفعال الفئات المهيمنة والتي تتحكم بوسائل الإعلام التي لا بد لها من تغطية ما لما وقع بحق أولئك «الضحايا المنسيين». وبشكل عكسي لحالة «الضحايا ذوي القيمة»، فإن عين وقلب وعدسات ومكبرات صوت وسائل الإعلام تصبح عمياء صماء بكماء عن حال أولئك المعذبين كما لو أن لا قيمة لمعاناتهم لكونها ناتجاً مباشراً لأفعال الفئات المهيمنة المتحكمة بوسائل الإعلام تلك التي كان يفترض بها نظرياً القيام بواجبها الإعلامي بحيادية خلبية لا وجود عيانياً مشخصاً لها.

وقد يكون أحد أكثر الأمثلة بروزاً على الحالة التراجيدية السالفة هي مستوى تغطية وسائل الإعلام المتسيدة كونياً، والسارية في فلك وسائل الإعلام المتسيد في العالم الغربي الصناعي المتقدم، والتي تكاد يسقط من تغطيتها الإعلامية عملياً أي تغطية ذات قيمة لمعاناة الفلسطينيين المقهورين في غزة، أو في مخيمات اللجوء في دول الشتات، أو لجلجلة الشعب السوري الذبيح، أو لمعاناة الشعب الكردي المظلوم في تركيا و غيرها، أو قروح شعب الصحراء الغربية المحتلة، و ما كان على شاكلتها من تراجيديا حيوات مئات الآلاف أو الملايين من المعتقلين و المغيبين في سراديب ودهاليز الأجهزة القمعية والدول الأمنية العربية، والذين يتفوق جميعهم بسنين ضوئية في عمق معاناته ومبدئية مواقفه عن مستوى معاناة «أليكسي نفالني» في روسيا بوتين الاستبدادية، وعلى الرغم من ذلك لا يتم الالتفات إلى حكاية أي منهم لوقوعهم في حيز «الضحايا الذين لا قيمة لهم» لكونهم ناتجاً مباشراً لمفاعيل اجتهاد وكلاء ونواطير وعملاء الفئات المهيمنة في الغرب، والتي تتحكم في جل الناتج الإعلامي على المستوى الكوني، وهو ما يستدعي «غض النظر التكتيكي» عن عمق وهول معاناتهم؛ وهي المقاربة التي يمكن أن تتغير بسهولة في حال تفكر أي من أولئك العملاء والوكلاء والنواطير بالتفلت من اشتراط ارتهانه بالعمل لصالح أولياء نعمته واستدامة وجوده في العواصم الغربية، وهو ما يستدعي حينئذ رفع سواتر «غض النظر التكتيكي» السالفة الذكر، ونقل ضحاياه من حيز «الذين لا قيمة لهم» إلى حيز «الضحايا ذوي القيمة» لتأجيج طبول إوار اللهيب الذي لا بد أن يحرق أو يدمر أو يفني أو ينقلب على ذلك «الناطور العبد» الذي تفكر بالاستقلال عن أسياده كما كان في حالة الحكاية المأساوية التي كان بطلها البائس «صدام حسين» ونظامه الاستبدادي البربري، والذي لم يلتفت أي من وسائل الإعلام الغربي المتسيد ومن لف لفها من وسائل إعلام عربية وغيرها إلى جرائم الإبادة الجماعية التي كان يقوم بها بحق أبناء شعبه من المظلومين، وخاصة الأكراد منهم، إلى حين خروجه عن الدور المرسوم له عن قصد أو سوء فهم لتعليمات سادته كما فصلنا بحثياً في غير موضع من قبل، مشخصاً في غزوه المشؤوم للكويت، والذي كان النقطة الفاصلة ولحظة «الكشف العرفاني» التي أدت بكل وسائل الإعلام المتسيدة إلى اكتشاف جرائمه السالفة والظنية وحتى التلفيقية منها، لتصبح «المادة الفعالة» في «طبخة صناعة الخبر الإعلامي» إلى حين استبدال الطاغية صدام حسين بطاغية جديد يتقن شروط عمله كوكيل وناطور وعميل بشكل أفضل من سالفه بعد التعلم من أخطاء ذلك الأخير، ويحل مع حلوله «المخلص» نفس النموذج السالف من «النسيان الذي لا بد منه»، ونهج «غض النظر التكتيكي» عن الضحايا والمظلومين في عراق ما بعد صدام حسين، والذين لا تقل معاناة الرهط الأعظم منهم عن معاناة أسلافهم قهراً وألماً وتعذيباً في عهد صدام حسين، وهم الذين لا يتوجب الالتفات إلى كل ما يتصل بهم بعد «تغير الأحوال»، وعودتهم إلى حيز «الضحايا الذين لا قيمة لهم» وفق موازين الواقع السائد، واشتراطاته الإعلامية «المهنية الاحترافية».