أعراف الديموقراطية التمثيلية في الغرب تقوم على مرتكزات أساسية تتمثل في الاقتراع الدوري لممثلين منتخبين، واستقلال القضاء، بالإضافة إلى حرية الصحافة والإعلام.
وبالنظر إلى المرتكز الأول المتعلق بالاقتراع الدوري لممثلين منتخبين، فإن ذلك في حالة تراجع وتقهقر وظيفي ناجم أساساً عن تراجع دور البرلمانات والسلطات التشريعية المنتخبة بعجرها وبجرها في إدارة المجتمعات التي تنتخبها عبر تآكل سلطاتها لصالح تغول تلك المؤسسات التنظيمية المنبثقة من تسيد أنماط الإنتاج العولمية من قبيل اتفاقات منظمة التجارة العالمية، والاتفاقات التجارية العابرة للأطلسي والهادي، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وحتى المفوضية الأوربية، وجميعها هيئات تنظيمية بسلطات فائقة وعابرة للقارات، وجميع القرارات التي تتخذها لا دور لأي ممثل منتخب وفق مفاعيل الديموقراطية الشكلية في ضبط أو تغيير مسار تلك القرارات التي أصبحت تغطي الجزء الأكبر من العملية الإنتاجية في المجتمع وشروطها، وحتى آليات توزيع الثروة والعدالة الاجتماعية في العالم الغربي، مما أنتج تآكلاً كبيراً في قدرات الممثلين المنتخبين بآليات الديموقراطية التمثيلية في الغرب على تحقيق أي فعل يذكر، خاصة وأن جميع تلك القرارات التي تتخذ في تلك المؤسسات العابرة للقارات تتم غالباً بشكل سري لا يتيح حتى لأولئك الممثلين تفنيدها في المنصات البرلمانية.
وفيما يخص استقلالية القضاء في العالم الغربي، فهو يتعرض للتآكل بشكل مضطرد عبر تحويله إلى الحصن الأخير والوحيد الذي لا بد من اللجوء إليه لحل كل إشكاليات المواطنين، بعد تراجع الدولة عن دورها الرعائي في المجتمع وفق نهج الليبرالية الجديدة التي لا ترى في الدولة سوى جابي ضرائب لا تتعدى مهمته إنفاق تلك الجبايات، وترتيب عقود مع الشركات الخاصة للقيام بما كان يناط بالدولة القيام به من خدمات عمومية أساسية لا بد منها للحفاظ على حيوية المجتمع وعيوشية البشر المتواجدين في حياضه. وهو الواقع المزري الذي أصبح يلزم أي منافح عن قضية عادلة تَكَلُّفَ أعباءٍ مالية باهظة للدفاع عن قضيته العادلة في الأروقة القضائية، والتي أصبحت متخمة بمثل تلك القضايا، مما حد من قدرتها الفعلية على الإتيان بأي نتائج فعلية ذات قيمة في أمد زمني معقول. بالإضافة إلى أن معظم القضايا العادلة أصبحت مواجهة بين مواطنين عزل أو مؤسسات للمجتمع المدني تحتضر من قلة تمويلها جراء تراجع القدرات المادية للمتبرعين التقليدين لها من الأفراد، وعدم حصولها على أي دعم حكومي فعلي، مع مؤسسات خاصة ذات قدرات مالية فائقة لتمويل نزاعاتها القضائية، أو حتى مع السلطة التنفيذية نفسها والتي أصبحت تتصرف في غالبية الدول الغربية بعقلية الشركات الخاصة التي تبذل الغالي والرخيص لأجل كسب خلافاتها القضائية دون البحث عن الأسباب التي أدت إليها في المقام الأول ومحاولة تصحيحها. وتلك الصورة الكالحة البائسة التي تجتاح العالم الغربي صارت تفصح عن نفسها في حالة الإحساس العدمي بانغلاق الآفاق وعدم القدرة على الفعل، واللامبالاة الهمودية في كل تفاصيل حيوات المواطنين اليومية، وهو ما أصبح ظاهراً بجلاء أيضاً في قلة الإقبال على المشاركة في ممارسة حق الاقتراع، وهو الذي يؤدي أيضاً بدوره إلى تآكل فرص تصعد أي أشخاص يحملون هماً اجتماعياً حقيقياً ويمثلون فئة من المجتمع بعينها إلى المنصات التشريعية، وترك ذلك الفضاء ليتم شغره من قِبل أفراد مصنعين إعلامياً من قِبل الشركات الخاصة، وخاصة تلك العابرة للقارات منها والتي تتحكم بمفاصل الحل والعقد في تلك المجتمعات، عبر تمويل حملاتهم الانتخابية، وهم الذين بعد تصعدهم للمنصة التشريعية لا بد لهم من خدمة من قام بإيصالهم إليها، ألا وهي الشركات الخاصة التي قامت بتمويل حملاتهم الانتخابية، وليس أولئك المواطنين الذين قاموا بانتخابهم، سواء لقلة الخيارات المتاحة لهم للاختيار منها في كوى صناديق الاقتراع، أو بسبب غسيل أدمغتهم إعلامياً، أو لعدم وجود أي ارتباط مجتمعي مع أي من أولئك المرشحين يجعلهم كلهم في نفس السلة مما ينظر إليه جل مواطني العالم الغربي بأنهم «لفيف السياسيين الفاسدين»، و الذين لا بد أن يكون ولاؤهم محصوراً بأولياء نعمتهم خاصة عندما يكون إعادة الانتخاب في المستقبل لنفس المقعد التشريعي مقترناً بشكل شبه حتمي بالحفاظ على مصادر تمويل الحملات الانتخابية من نفس الشركات التي مولت من تصعد إليه من قبل في حلقة شيطانية لا دور فيها لمصالح الفئات الشعبية التي ينحصر دورها الفعلي في المصادقة على اختيار ذلك الشخص أو ذاك للتصعد إلى منصة التشريع من مجموعة من الشخوص الذين جلهم من «المغمورين و النكرات» ممن تنتقيهم و تمولهم و تصنعهم إعلامياً الشركات الخاصة صاحبة الحل والعقد في ذلك المجتمع الغربي أو ذاك.
ومرتكز التآكل الثالث يرتبط بتآكل فضاء الصحافة الحرة، ليس عبر تقييد حرية التعبير، وإنما عبر تصحر وتقهقر الغالبية المطلقة من تكوينه الوظيفي من أي جهود حقيقية للقيام بعمل صحفي استقصائي حقيقي في العالم الغربي، إذ أن معظم المؤسسات الإعلامية الكبرى في العالم الغربي هي مؤسسات مملوكة سواء بشكل مباشر أو غيره من شركات خاصة عملاقة لا تتفق مصالحها مع أي عمل صحفي استقصائي قد يكشف عوار آليات عملها وأهدافها التي لا بد أنها لا تتفق مع مصالح السواد الأعظم من الفئات الشعبية، بالإضافة إلى حقيقة ارتباط ديمومة المؤسسات الإعلامية باستمرار صبيب وتدفق الإعلانات على شبكاتها، وهو مشروط بعدم إقلاق مصالح الشركات الخاصة الكبرى التي تمثل المعلن شبه الأوحد على تلك المنصات الإعلامية. وبالتوازي مع ذلك فإن هناك تراجعاً ملحوظاً في قدرة الصحفيين المستقلين والمؤسسات الصحفية المستقلة على القيام بأي عمل صحفي استقصائي حقيقي، وذلك جراء تراجع قدراتها المالية المرتبطة بالتبرعات التي تحصل عليها عادة من المواطنين المؤمنين برسالتها، أو الاشتراكات في مطبوعاتها، والتي أصبحت شحيحة في ضوء حالة التراجع الاقتصادي المضطرد للفئات الوسطى وانحدارها باتجاه قاع الفقر في مرحلة الليبرالية الجديدة منذ ثمانينيات القرن المنصرم، بالإضافة إلى الواقع المؤوف الذي أفرزه تغول الشركات التقانية الكبرى ووسائل التواصل الاجتماعي الشيطانية على حيز كبير من الإعلام، والذي أصبح بموجبه متاح للفرد الحصول على كل الأخبار بشكل مجاني، والتي غالباً ما تكون أخباراً موجهة و منتقاة بعناية و بقدرات تقنيات الذكاء الاصطناعي لأجل تشويش انتباهه وإشاحة بصره عن المواضيع التي تمس حياته اليومية، لصالح مواضيع هامشية وتافهة في غالب الأحيان، تستنزف قدرته الجسدية والعقلية، وتقلل من اهتمامه بالتبرع لأي مؤسسة للعمل الصحفي الحر أو الاشتراك بأي مطبوعة مستقلة، وهو ما انعكس في واقع مأساوي تمثل في انحسار المؤسسات الصحفية المستقلة والتي تعنى بالعمل الصحفي الاستقصائي المنهجي في العالم الغربي إلى حفنة صغيرة من المؤسسات التي تجاهد لحظياً للبقاء على قيد الحياة وعدم إغلاق أبوابها وتسريح صحفيها كما كان حال الألوف من المؤسسات من شاكلتها خلال العقود الثلاثة الأخيرة في مرحلة الليبرالية الجديدة و رأسماليتها الاحتكارية الوحشية المعولمة.
وذلك الواقع المأزوم في العالم الغربي أفضى فعلياً إلى تراجع منقطع النظير في القدرات الفعلية لتحقيق أي تغيير اجتماعي عبر صناديق الاقتراع، واستبداله بما أصبح يعرف تندراً في المجتمعات الغربية «بالحكومة السرية»، والتي تتحكم بمصائر تلك المجتمعات فعلياً، والتي تمثل جماع المنظمات العولمية العابرة للقارات كمؤتمر دافوس، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، وملتقى الدول الصناعية السبعة، ومؤتمر الدول العشرين، ومنظمة NAFTA، وما كان على شاكلتها من اتفاقيات عابرة للحدود والقارات.
*خاص بالموقع