مصعب قاسم عزاوي: اغتيال حرية التعبير ومحنة المظلوم جوليان آسانج

0

مبدأ حرية التعبير في النسق العياني المشخص القائم في دول العالم الصناعي المتقدم المضبوط باشتراطات الرأسمالية المعاصرة بشكلها الليبرالي المستحدث المعولم ينطوي في تكوينه على معادلة جوهرية تتضمن أن حرية التعبير في قول ما تريد مكفولة ومضمونة عندما يكون حاصل قولك صفرياً أو يقارب الصفر في تأثيره على حركية المجتمع، أو عندما لن يسمعك أحد في ظل صخب وسائل الإعلام المتسيدة التي تهيمن عليها نفس الفئات المهيمنة على مصادر السلطة والثروة في تلك المجتمعات.

وفي الواقع فإن وسائل الإعلام المتسيدة تقوم بلعبة مخاتلة تتمثل في انتقاء المواضيع التي يمكنها التصعد لتصبح موضوعاً للنقاش العام في المجتمع الذي تتسيد وتهيمن فيه على الساحة الإعلامية، وتقوم أيضاً بتحديد ورسم الإطار العام لذلك النقاش بحيث لا يقترب النقاش العام قليلاً أو كثيراً من أسباب عطب المجتمع الداخلية فيه، وبشكل يبقي جماهير النظارة في المجتمع مترعة بما يرد إليها، وغير قادرة على تلقي خطابات مغمورة و أصوات خافتة في ظل الصخب و الفيضان الإعلامي و الإخباري الذي تغرقها به وسائل الإعلام المتسيدة.

وبشكل أكثر تبئيراً يمكن سرد أمثلة لا عد لها من المواضيع التي تطرح على صفحات وسائل الإعلام المتسيدة، والتي تبدو أنها خلافية ومهمة لتكون موضوعاً للنقاش العام، من قبيل فضائح المشاهير والفنانين الصحيحة والمختلقة منها، وجميعها مواضيع هامشية لا تغني ولا تسمن من جوع، ولا تسهم بأي شكل من الأشكال في كشف الأسباب المستبطنة في معاناة جل الفئات الشعبية المقهورة والمهمشة في المجتمع في سعيها لتأمين قوتها وقوت أبنائها والحفاظ عليهم من الوقوع فريسة سهلة في براثن المرض وعقابيله المضنية.

وعندما يفلح فرد أو مؤسسة في اختراق ذلك الجدار الحديدي المضمر وغير المشهر مثلما فعل مخطئاً أو مصيباً الصحفي جوليان آسانج مؤسس شبكة ويكيليكس، والتي كشف من خلالها عن فظائع وأهوال عمليات القتل العشوائي الذي تقوم به الولايات المتحدة وأقرانها في حلف الناتو، و خاصة عمليات القتل عن بعد باستخدام الطائرات المسيرة عن بعد ومن دون طيار، والكيفية الوحشية التي تتم بها دون أي اعتبار لما يدعوه الأقوياء «بالأضرار الجانبية» التي لا بد من حدوثها حتى لو كان ذلك يعني اندثار حيوات العديد من البشر الأبرياء كجزء من تلك الأضرار الجانبية المهولة في كثير من الأحايين.

وعقاباً لجوليان آسانج على خرقه «جدار الصمت» عن الأسباب الحقيقية لمعاناة بني البشر، وخاصة المستضعفين المفقرين منهم والذين يمثلون الرهط الأعظم من أبناء بني البشر راهناً، كان لا بد من إشهار الوجه القبيح للآلة القمعية المواربة التي تحاول الرأسمالية في الدول الصناعية المتقدمة إخفاءها وتزويقها بلبوسات من القشرة الديموقراطية الشكلية، وحرية التعبير الظنية، لتبدأ تلك الآلة في «سحق وتهشيم» ذاك «العبد المارق» ليكون «عبرة لمن يعتبر»، ورسالة لكل من قد «تسول له نفسه الأمارة بسوء الانعتاق» التفكر بأنه يستطيع السير في نهج مقاومة مفاعيل هيمنة الأقوياء الأثرياء على مفاصل السلطة والثروة والإعلام في المجتمع، دون أن يصبح «حطاماً بشرياً» كما هو حال جوليان آسانج بعد أن تكالب عليه كل ساسة دول الأقوياء في مخالفات صريحة لكل القوانين الوضعية في أي من دول العالم وحتى القانون الدولي، والتي كان على رأس قائمة تلك المخالفات محاكمة جوليان آسانج وفق «قوانين الجاسوسية» السارية في الولايات المتحدة، على الرغم من أن جوليان آسانج ليس مواطناً أمريكياً، ولم يقم بأي عمل صحفي على الأرض الأمريكية، و هو ما يعني من الناحية القانونية و القضائية المحضة عدم «اختصاص» المحاكم الأمريكية بمقاضاته، إن كان يستحق الملاحقة القانونية أصلاً، و هو أبعد ما يكون عن ذلك إذ أن  كل ما قام به لا يتجاوز جدود العمل الصحفي الاستقصائي المحترف الذي يقوم به الكثير من الصحفيين الأخيار الذين ما زالوا يجاهدون بقلوبهم وعقولهم وأقلامهم لإظهار الحقيقة وتعرية الباطل والظلم والفساد والفاسدين المفسدين في غير موضع من أرجاء الأرضين.

ولا بد من الإشارة في هذا السياق للكيفية البربرية التي قامت بها بريطانيا باعتقال جوليان آسانج من عقر دار سفارة الإكوادور في لندن التي التجأ إليها لسنوات سبعة لتخوفه من أن تعتقله الشرطة الإنجليزية متعللة بتهم ملفقة «بالتحرش الجنسي» في السويد، وهي التهم التي ثبت بطلانها بعد ما قارب السنتين من تلفيقها بحقه. وهي حكومة «جلالة الملكة وجهاز قضائها المنصف انتقائياً»  التي رمت بالمظلوم جوليان آسانج إلى لج أعتى السجون البريطانية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، و لازالت تحتجزه في زنزانة انفرادية لمدة تجاوزت السنتين، كما لو أنه من عتاة المجرمين و ليس صحفياً سلاحه الوحيد قلمه و عقله المتحرر،  بانتظار اتخاذ وزارة الداخلية البريطانية  قراراً بترحيله إلى الولايات المتحدة لمحاكمته هناك بجريمة تلفيقية تصل عقوبتها إلى عشرات السنين يمكن أن تنال من كل صحفي حق يمارس دوره الواجب في كشف وحشية الولايات المتحدة، أو أي نظام سياسي آخر، ملتزماً بنهج العمل الصحفي الاستقصائي المدقق والممنهج، في رسالة شبه علنية عنوانها العريض بأن الولايات المتحدة أو أي من دول الأقوياء من أقرانها يمكن لها أن تنال من أي صحفي مجتهد في أي مكان في العالم إذا تفكر بكشف عوارها وتجاوزتها القانونية والأخلاقية، وهي الرسالة التي مفادها الضمني بأن «يبلع الصحفيون ألسنتهم ويدفنوا أقلامهم»، أو ينتقلوا إلى العمل في صفحات الفضائح وأخبار الفنانين والمشاهير، هو الخيار شبه الأوحد لتجنب المواجهة مع «الغول الأمريكي المارق» ومفاعيله و إفرزاته القيحية منفرداً أو مجتمعاً مع شركائه من دول الظالمين وعلى رأسها بريطانيا، بعد أن أصبحت تلك المفاعيل و الإفرازات الأليمة شاملة عمقاً وسطحاً، ويكاد يكون من المستحيل على أي صحفي حق «غض النظر التكتيكي» عنها إذا كان يريد الحفاظ على حد أدنى من احترامه لنفسه، ويبقى قادراً على النظر في وجهه في المرآة دون «احتقار ذاته» لمشاركتها في الجرائم التي يقوم بها الأقوياء بتحوله إلى «شيطان أخرس وديع ذليل لا يهش ولا ينش».

وفيما يتعلق بحالة المظلوم جوليان آسانج نفسه يمكن مراجعة التحقيق الاستقصائي الشامل الذي قام به الصحفي مايكل إيسيكوف Michael Isikoff في حيز الصحافة الاستقصائية في منصة أخبار ياهو Yahoo، والذي صدر في 26 سبتمبر من العام 2021، وهو التحقيق الذي أشار بوضوح يفقأ العين إلى الكيفية التي كانت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية تخطط بها لكيفية اغتيال جوليان آسانج خلال العام 2017، بموافقة وضوء أخضر من أعلى الرتب في السلطات التنفيذية في المتحدة، وهو الاغتيال الذي كان من المفترض أن يتم في داخل السفارة الأكوادورية في العاصمة لندن، وداخل حدود الدولة «الشقيقة»، وأعني هنا المملكة المتحدة. وفي  ذلك التحقيق الاستقصائي يتبدى دون مواربة ذلك الطابع «البلطجي العنجهي» السائد في ممارسات دول الأقوياء الذي لا يرى ما لا يمكن تحقيقه بقوة «راعي البقر ومسدسه العاري»، وبشكل يظهر عملياً أن سلوك الدول التي تنافح عن حرية التعبير، وحقوق الإنسان في العالم المتقدم، رياءٌ مصفى لا يختلف كثيراً في جوهره عن سلوك عتاة الفاسدين المفسدين في دول الجنوب المفقر الذين أغرقوا صحفييهم من الأباة المؤمنين بواجب «إشهار الحقيقة» دون مواربة أو مخاتلة في مستنقعات دولهم الأمنية، سواء عبر اغتيالهم أو تغييبهم أو حتى عبر تقطيعهم بالمناشير و السواطير وتمزيق أشلائهم، والمشي في جنائزهم بعد فعلتهم الشنعاء، و هي التي سوف تصبح الحال الطبيعي بحق كل من يتفكر بإشهار صوته الصادق الصدوق في وجه الظالمين الفاجرين في قابل الأيام إن لم يكن هناك تضامن جمعي على المستويات المحلية بين كل المجتهدين من القلة الباقية قبل تغييبها من قبل الفئات المهيمنة على مفاصل السلطة و الثروة في المجتمعات القابعة فيها، وهي التضامنات المحلية التي لا بد أن تتسع و تتكامل فيما بينها على المستوى الكوني بشكل يسعى لأن يضاهي طول أذرع الرأسمالية المعولمة العابرة للقارات واستطالاتها الإعلامية الضاربة؛ وهو التضامن الضروري واللازم والذي دونه قد يصبح مصير كل منافح عن الحقيقة مصيراً لا يختلف إلا بدرجة قتامته الإخراجية عن مصير المظلوم جوليان آسانج، ولات ساعة مندم حين يصرخ المتقاعسون عن ذلك الواجب الذي لا بد منه: «أكلت يوم أكل الثور الأبيض».

*خاص بالموقع