في الخارج أمام القصر العدلي، كان الكثير من الأشخاص ينتظرون. أوقفتني امرأة في الخمسين من العمر، وسألتني: من أين خرجت؟ أجبتها: من المخابرات الجويّة. فرحت وسألتني عن ابنها علّه يكون معنا في الداخل. نعم شاهدت الفرح في عينيها لكن للأسف ابنها الذي سألتني عنه كان للصدفة موجودًا معي في نفس الزنزانة، ولم يخرج. أخبرتها أنّه بخير وصحته جيدة، وأنّنا أوّل دفعة تخرج من هذا المكان فتفاءلي خير. كانت تحمل معها سترة شتويّة لأنّ الجو حينها كان باردًا، وعندما اعتقل ابنها كان الجو حارًا. ألبستني السترة، وأعطتني بعض البسكويت، وقالت هذه الأشياء لابني لكنه لم يخرج، وأنت مثل ابني الحمد لله على سلامتك.
في عام 2005 عدت إلى سوريا بعد أن حصلت على الشهادة الثانوية في إحدى دول الخليج العربي حيث كان والدي يعمل.قدّمت عدّة طلبات للالتحاق بالجامعات السوريّة، وتمّ قبولي بشكل أولي في جامعة حلب، ولكن تعثّر قبولي فيما بعد بسبب عدم امتلاكي لرقم تسجيل في حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في سوريا، ورفضت التسجيل فيه من مبدأ أنّي سوري الجنسيّة، ويحق لي الالتحاق بالجامعة التي أريد دون أيّ انخراط سياسي.
بدأت الثورة السورية بالمطالبة بالحريّة والكرامة المسلوبة، وكان النظام السوري يتصدّى للمظاهرات السلميّة والناشطين بكلّ بطش وعنف.كنت متحمّساً أنا وبعض أصدقائي للمشاركة في الحراك الثوري، وبنفس الوقت أخذنا كافة احتياطاتنا بعدم الوقوع بأيدي قوات الأمن السوري التي كانت تقمع المظاهرات.في إحدى مظاهرات مدينتي، معضميّة الشام في ريف دمشق، أصيب صديقي برصاص قوات الأمن ممّا أدى إلى وفاته على الفور، وفي تشييعه في اليوم التالي كنت في المقدّمة، وأنا أحمل التابوت، ولم أكن أغطّي وجهي حينها، إذ كنّا أثناء المظاهرات نحاول أن نغطي وجوهنا خوفاً من أن يتعرّف علينا أحد جواسيس النظام.
جلست في هذه الغرفة أوّل ليلة، وكلّ هاجسي: متى سأخرج؟ وهل عرفوا أنّي من الناشطين؟ وماهو مصيري بعد أن وصلت إلى هذا المكان؟ هل سيقومون بقتلي وهل علم أهلي أنّي اعتقلت؟ والكثير الكثير من الأسئلة.
في اليوم التالي، تمّ نقلي إلى مكان آخر، علمت بعد فترة أنّه فرع التحقيق التابع للمخابرات الجويّة في مطار المزة العسكري.
أثناء إدخالي إلى الفرع كنت أسمع أصوات التعذيب، وصرخات المعتقلين وكنت في قمة الرعب والخوف حينها، أدخلوني إلى زنزانة صغيرة جدًا لاتتجاوز مساحتها 7 أمتار. كنّا 15 معتقل داخل هذه الزنزانة، وكان نظام السجن هنا يسمح لنا بالخروج مرّة واحدة إلى المرحاض في الصباح، مع إعطائنا وجبتين من الطعام المكوّن من قطعة خبز مع بعض الأرز والبطاطا المسلوقة، يرميهم السجان لنا على أرض الزنزانة كما لو أنّه يلقي بها في حظيرة حيوانات.
(حكاية ما انحكت)