شاركتُ قبل مدّة في ورشةٍ لغوية لهواة تعلم اللغات الأجنبية. قامت الورشة على فكرة أن يتحدّث الحضور مع بعضهم البعض بعدّة لغات، من خلال انقسامهم إلى حلقاتٍ صغيرة متنوعة يتم تبادل الأدوار فيها كل ربع ساعة.
الهدف كان أن يمارس الجميع هوايتهم اللغوية، وأن يستفيدوا ممّن هم أثبت قدماً منهم في اللغة الهدف التي يريدون تعلمها.
من بين الحلقات التي انضممت إليها بطبيعة الحال حلقة اللغة الانكليزية. كان شابّان وفتاة يتحلقون حول شابّ رابع فرنسي يتقن خمس لغاتٍ كما قال، فراحوا يسألونه كيف تمكن من النجاح في الوصول لهذه الدرجة من التنوع اللغوي.
انضممت إليهم ورحت أصغي باهتمام للشابّ الذي قال إنه يتقن إلى جانب الفرنسية كل من الانكليزية، واليابانية، والإسبانية والألمانية. لكن الشابّ كان يتلعثم طول الوقت وهو يحدّثنا عن مواهبه اللغوية، مستخدماً لغةً انكليزيّة ركيكة. فشِل الشاب في التواصل معنا بكفاءة، وتبين أن درجة معرفته بباقي اللغات لم تكن أفضل من انكليزيته. وهكذا وجدتُني ولأول مرّة في حياتي أشكّ في مصداقية من يدّعي “إتقان” عدّة لغات، ووقع في نفسي أن في هذا الزعم شيءٌ من المبالغة.
عندما عدت إلى البيت في نهاية الورشة بدأت أفكر أكثر في الموضوع، فتأمّلت حالتي الخاصّة في هذا الصدد وقرّرت إجراء مراجعة شاملة لطموحي في إتقان اللغة الفرنسية، بعد أن أتممت – كما يحلو لي أن أتوهّم – إتقان اللغتين التركية والانكليزية، وبشكلٍ أفضل بكثيرٍ مما كان عليه الشاب الفرنسيّ في الورشة المذكورة.
أول الأشياء التي يحتاج هواة اللغات الأجنبية إدراكها أن اللغة الجديدة ليست مجرّد كلمات يتعلمونها، بل هي شخصية جديدة يُحرزونها، وثقافة أخرى سيجدون أنفسهم أعضاءً فيها. فأنا عندما أتحدث الانكليزية مثلاً سوف أغدو شخصاً أكثر انضباطاً في التعبير عن أفكاري. سوف تكون ملامحي جديّة وعباراتي عمليّة، وأكثر تسديداً في الوصول إلى ما أريد التعبير عنه.
فقد أحبّ كمثقّف أتْقَنَ هذه اللغة قهوة الأمريكانو، على سبيل المثال، أو قد يحصل لي أن أفقد ذائقتي المُتطلّبة والمُدلّلة في الطعام وآكل أي سندويشة أو قطعة بيتزا في أيّ مطعمٍ مغمور، أو كشكٍ عند أحد المفارق المزدحمة، وذلك كما يفعل الأمريكي عندما يجوع وهو خارج بيته.
وإذا حصل وكنت ممن تمكّن من عنان اللغة التركية، فلابد أن أصير شخصاً مهووساً بالنظافة، كثير استخدام الكولونيا والمحارم المعطّرة. سوف أعشق الشاي وأهيم في البقلاوة، وأُكثر التطرق لما هو لائق في السلوك الاجتماعي ولما هو غير ذلك.
وهنا مكمن الخطر بالتحديد. فلأن اللغة هي الشخصية فسوف يحكم عليك الناس بمقدار إتقانك للّغة التي تتحدث بها، ومقدرتك في السيطرة على كلماتك والتعبير عن نفسك. اللغة تعكس مستوى ثقافتك وتحصيلك العلمي، ووزنك الاجتماعي. وهذا بالضبط معنى المثل العربي “سيفك لسانك.”
على سبيل المثال، لو كنت تعيش في ألمانيا، وطلبتَ من شخصٍ ألماني تصادفه في الطريق أن يدلّك عن مكانٍ ما بلغةٍ ألمانية متلعثمة، فالاحتمال الأكبر أن يتهرّب الألماني منك بطريقةٍ أو بأخرى. ولكن إن طلبت ذلك منه بلغةٍ انكليزية فصيحة تدل على تمكنك من زمام اللغة، فالأغلب أن ذلك سيترك انطباعاً حسناً عند الألمانيّ عنكَ كشخصٍ ذي ملامح عربية يتحدث الانكليزية بتمكّن. سوف يستنتج أنك شخص مثقف ومحترم، وسوف يبذل جهده في الإجابة عن سؤالك.
حتى في لغتنا العربية، فنحن نحكم على ترقّي الأشخاص بمقدار ما تعبّر عن ذلك مقدرتهم اللغوية. فاللغة ليست مجرّد حمّال للأفكار فحسب، بل هي زينةٌ وأدب وأخلاق. هي للرجل شجاعة ونخوة واستقلال، وهي للمرأة حب ونقاء وجمال. وعكس ذلك قد تكون طريقة استخدام رجلٍ ما للّغة نافذةً على جهلٍ، أو سوء طويّةٍ، أو انحطاط. وقد تكون طريقة استخدام امرأةٍ ما للّغة مفتاحاً لنا لنكشف ضحالة فكرها، أو جفاف شعورها.
فلنأتي الآن للسؤال التالي: بغضّ النظر عن عدد اللغات التي ندّعي أننا نتقنها، ما هي اللغة التي نستخدمها مع الآخرين عندما نريد أن نكون قمةً في الصدق والشفافية في عكس ما يعتمر في صدورنا من عواطف مشبوبة، أو أفكارٍ ملحّة؟
لو طلبتُ من نفسي الإجابة عن هذا السؤال لقلت بلا تردّد اللغة العربية، لغتي الأم. إنها ليست فقط أفضل حاملٍ لأفكاري، بل أحسن تعبيرٍ عنّي. فأنا في العربية متنوّعٌ كبهارات الشرق، قاسٍ كالصحراء، ليّنٌ كالسنابل مع الريح، نقيّ كرأس النبع، عميق كهوّة الوادي، متمرّد فاجر كأشعار الفاحشين، ومهذّب منضبط كمحاضرات الأدباء. اللغة العربية بالنسبة لي ليست لغتي فحسب، بل هي أنا نفسي، ومن الممكن اعتبارها بمقام أمّي، أفلَيست هي اللغة الأم؟
بعد لغتي الأمّ كل لغة أتقنها هي إضافةٌ قيّمة لشخصي، ولكنها ستكون بمثابة ضيف شرفٍ على موهبتي الأدبية، وملكتي التعبيرية. فأنا أكتب بالإنكليزية بتمكنٍ كبير، وأصل بقارئي الانكليزي بسهولةٍ إلى ما أريد منه أن يفهم منّي، لكني نادراً ما أعطيه نافذةً على روحي، فتلك النافذة صارت من زمانٍ وكالةً حصرية للّغة العربية.
سيجادل البعض أن هناك أدباء كتبوا بلغتين وكانوا على نفس الدرجة من الملَكة التعبيرية. ويحضرني هنا جبران خليل جبران. ولكن لنسأل أنفسنا نحن كقرّاء عرب، لو أردنا أن نناغي روح جبران فيما كتب، هل سنمضي لنقرأ له “النبيّ،” التي كتبها بالإنكليزية؟ أم نقفز لنسبح معه في ملكوت “الأرواح المتمرّدة؟” التي خطّها بلغةٍ عربيّة مشبعة بالإحساس الدقيق، والعواطف المشحونة بكثافة يصعب أن تسعفنا الانكليزية في النفاذ من خلالها.
لعلّ اللغة في النهاية هي مجرّد مركبة للفكر، قد تصل هذه المركبة بنا لمبتغاها أحياناً، وقد تقصر دون ذلك أحياناً أخرى. ولذلك فقد قال الإمام النفّري:
“العبارةُ سترٌ، فكيف ما نُدبت إليه؟”
وفي الحقيقة، لا أبلغَ من هذا التعبير العجيب عن حدود اللغة.
فنحن نفشل أحياناً حتى في لغتنا الأم في أن نعبّر لشخصٍ ما عن مقدار حبّنا له. ولنذكر كلنا كم من مرةٍ تخلينا عن اللغة تماماً في لحظات أنسٍ مع من نحبّ، فنترك النظرات كي تتكفل بالتواصل. وفي الحبّ والجنس تؤدي أعضاؤنا أدواراً هائلة في تواصلٍ بليغٍ ونادرٍ من نوعه، فنرى أصابعنا مثلاً وقد راحت تطبع لمساتها على منثنيات جسد من نحبّ، فتنقل إليه مما في داخلنا ما لا تستطيع اللغة أبداً أن تنقله.
بإمكان أيّ شخصٍ النجاح في التحدّث بثلاث أو أربع لغات، لكن لن يكون بمقدوره التواصل الروحي معنا إلا عبر لغته الأم، وأحياناً حتى هذه تفشل. فمن قال إن الإنسان هو مجرد لغة؟ الإنسان هو الإنسان؛ وما اللغة إلا زاويةً مضيئةً في اللوحة. وباقي اللوحة طبقاتٌ فوق أخرى من الغموض والعتمة.
*خاص بالموقع