كل من يشتغل في الشأن العامّ يضع سمعته على المحكّ، ويصبح فريسةً لأحكام الناس وتقييمهم له، سواء كانوا منصفين أم متحيزين لهوى شخصي أو دافع نفسي غامض. ولذلك ليس من الضرورة بمن يقفز في بحر العمل أن يلقى مقابلاً حسناً. فبدلاً من أن يشكره الناس مثلاً، قد يكثر مبغضوه والمشكّكون به وبنواياه، بل قد يجد من يختلق عنه الحكايا المكذوبة، ويلفّق له التهم التي ليس لها أساس من الصحة.والنتيجة؟ إن كثير ممّن يعملون في الشأن العام تصبح سمعتهم “مضروبة.”
وهكذا فقد يصير السياسي الناجح في نظر الناس جاسوساً، ومسؤول الإغاثة لصّاً، والصحفيّ مرتزقاً، والمصلح الديني كافراً ملعوناً!
إنه لأمر مخيف!
بإمكانك أن تمضي العمر في بيتك وشؤونك الصغيرة ولا تشغل نفسك بالمهن والأدوار التي تمسّ مصير مجتمعك، وفي هذه الحالة لن يلومك أحد!
لكن، أن يسكنك هاجس الخير ويدفعك للعمل فليس هناك أية ضمانات أن ذلك سيعود عليك بالسمعة الحسنة. فأيهما نختار: طيّ أنفسنا ومؤاثرة السلامة أم تدمير سمعتنا؟
لكن من قال أن السمعة مهمة؟
في رواية قواعد العشق لإليف شافاك نجد المتصوف العالمي ابن الرومي يدخل خمّارة يهودية ويجلس مع المجّان والسكرانين، ويطلب قدحاً من الخمر وسط دهشة السكرانين والنوكى في الخمارة، إلى أن تجرأ أحدهم وسأله:
“ما الذي أتي بك إلى هذا المكان يا سيدي؟”
فيرد الرومي: “لقد أرسلني (أستاذي الجديد) شمس التبريزي إلى هنا لتشويه سمعتي!”
كان الرومي قبل شمس التبريزي مزهوّاً بعلمه ومكانته ومحبة الناس له، لكن دوره كان ناقصاً بسبب ذلك، فقد أبعدته شهرته عن الطبقات المهمّشة والمسحوقة في المجتمع، كمثال السكارى والمدمنين والمنبوذين الذين لم يكن ليراهم لولا أن شمس لم يُنزِله عن مكانته ويرسله لمجالستهم.
وكانت المكافأة: خسر الرومي سمعته لكنه كسب نفسه، ولسوف يمهّد له هذا الكسب الجديد لدورٍ أعظم ليس في مدينته قونية فحسب -والتي خسر أصلاً سمعته فيها- وإنما في العالم بأسره. فقد “فتح باباً في قلب العشق، وأضرم النار في قلوب جميع العشّاق،” في كل أقطار الأرض وعلى امتداد العصور، حتى يومنا هذا.
من أجل أن نكون نافعين في حياتنا سوف يكون علينا أحياناً تقديم التضحية، وقد تكون التضحية سمعتنا، وخصوصاً عندما نقول للناس ما لا يحلو لهم. علينا إذ ذاك ألا نتوقع منهم أي شيء جيد.
وبالمقابل، ليست التقية والكذب خياران أخلاقيان. وقد قالت عرب الجاهلية:”رائد القوم لا يكذبهم.”
بالأمس سألت كاتباً عربياً كبيراً عن أهمّ خصلةٍ يحتاجها الشخص ليصبح كاتباً مهمّاً ويترك بصمةً وراءه، فأجابني دونما إبطاء: الشجاعة.