مصطفى سليم:جان دوست يروي مأساة الهوية الكردية الممزقة على الحدود

0

“فتحت عيني في بيئة يحيط بها الخوف. تعلمت منذ الصغر أن هويتي الأصلية خطرة. لماذا؟ لم أكن أعرف لماذا يجب علينا ألا نصرح بانتمائنا؟ لماذا علينا أن نمتنع عن التحدث بلغتنا؟ كنا نخاف من كل شيء؛ من سكة القطار التي شطرت القبائل والبلدات الكردية بين دولتين مختلفتي الهوية. لم يكن أمام الكردي إلا أن يكون عربياً سورياً أو تركياً. هذا على الأقل في الأوراق الرسمية”.

مقدمة تراجيدية بادرنا بها الروائي والمترجم الكردي جان دوست، المولود في كوباني عام 1965، وقد مكث فيها 35 عاماً من عمره قبل أن يغادرها منذ 20 عاماً إلى ألمانيا منفياً باختياره لينتهي به المآل إلى المنفى القسري، إذ لم تعد حواري البلدة الريفية ومنازلها سوى أكوام من الدمار بعد صنيع داعش بها في 2014. كانت منطقة حدودية صغيرة يقطنها بضعة آلاف تابعة لـ”حلب”، تقع على الحدود السورية التركية شمال البلاد، لتنال صنفين من العذاب على أيدي هذه وتلك.

وبقدر ما تُصعِّب مسيرة الحوار عن النكسة الكردية، إن صح التوصيف، بما تترك في داخله من خسارات وانكسارات وفقد، تُلقي على رُوح صاحبها عواصف من الهموم والوجع كلما غاص في دواماتها، بقدر ما تثير أيضاً شغف الأسئلة المتنوعة عن مسيرته الشاقة هذه. وتثير علامات استفهام لمحاولة إدراك ماذا جرى للأكراد، الذين يبلغ تعدادهم نحو 50 مليون كردي، ممزقة هويتهم على حدود 5 دول أو يزيد، هي تركيا وإيران والعراق وسوريا وبلاد ما وراء القوقاز؛ جورجيا وأرمينيا وأذربيجان، بالإضافة إلى المهجَّرين والمنفيين منهم إلى أوروبا.

وعي مبكر بمخاوف الهوية

يتقن جان دوست، البالغ من العمر 55 عاماً، العربية والفارسية إلى جوار لغته الكردية الأم، ويتبنى مشروعاً ثقافياً مهموماً بالمسألة الكردية في شقها التاريخي والإنساني والاجتماعي، يظهر هذا جلياً منذ إصداراته الأولى مع بداية تسعينيات القرن العشرين؛ دراسة وترجمة وسرداً، بعدما منحها صوتا جديداً في الرواية المعاصرة، إلى جوار آخرين بالطبع.

حملت رواياته عناوين كردية خالصة، أبرزها “كوباني” التي لم يغادرها مقاتلو داعش إلا بعدما تركوا مبانيها أنقاضاً، وقتلوا وتسببوا في نزوح الآلاف من أهلها عقب مذبحة دامية بـ”عين العرب”، وفقاً للتسمية العربية، ليقطعوا الطريق أمام حلم عودته لمسقط رأسه، فوثقها “بإعادة بنائها في مخيلته، وهندسها روائياً” كما غادرها في زمن بعيد مضى ولن يعود، دون زيادة ولا نقصان، عبر رواية هي مرثية من الوجع الخالص بلغت 546 صفحة، ليحفظ “كوباني” في ذاكرة السرد “بعدما دخلت التاريخ وخرجت من الجغرافيا” على حد وصفه.

كان أول إصداراته في السادسة والعشرين من عمره، فقدم دراسة “شعر وشعراء: قصائد مترجمة من الشعر الكردي القديم والمعاصر” (1991)، وديوان “أغنية لعيني كردستان” (1994)، وترجم ملحمة أحمد خاني الشعرية التي رصدت مأساتهم “مم وزين” (1995). من إسهاماته أيضاً بهذا الشأن على المستوى اللغوي قاموسان، أحدهما كردي عربي “بدائع اللغة”، والأخير “قاموس كردستاني” من الفارسية إلى الكردية، بالإضافة إلى ترجمته عيون الأدب الكردي؛ شعراً وسرداً، ومنجزه الروائي على نحو صنيعه في ثلاثية الهوية: “عشيق المترجم” (2014)، و”مارتين السعيد” (2015)، و”نواقيس روما “(2016)، و”الكردي سيبس. سيرة خبات”، ورواية “ميرنامه” (2011)، و”دم على المئذنة” (2014)، و”ثلاث خطوات إلى المشنقة” (2017)، و”كوباني” (2018) المترجمة إلى الفارسية أيضاً. بالإضافة إلى أعمال أخرى قاربت في مجموعها 25 إصداراً تنوعت بين فنون الكتابة المتنوعة، أغلبها مرتبط بمأساة الكرد.  التقت “اندبندنت عربية” جان دوست وكان هذا الحوار.

الطفولة صندوق الحكايات

عام 1971، وفي السادسة من عمره كان موعده مع أول اختلاف في الهوية يظهر بين بيئته الكردية الصرفة وبين الثقافة العربية، التي تلقى أول دروسها “صفعة” على وجهه من إحدى مدرساتها بسبب عدم فهمه لسؤالها وعجزه آنذاك عن الرد بها، وهو القادم من بيئة لا تعتمد سوى الكردية في حديثها ومعايشها وشوارعها وأسواقها. فصارت في وجدانه “لغة الصفعة” آنذاك، بعد فترة واصل دروسه وكان في بيت الأب مكتبة عامرة بكتب التراث والفقه والنحو، فوقع في فتنتها إلى أن صار أحد أدبائها ومترجميها، فتحولت في وجدانه إلى “لغة الغواية” التي لا يمتنع عن تعاطيها.

عن التحول الدرامي بين “الصفعة” و”الغواية” يقول دوست: “اللغة العربية كانت بمثابة كهف وجدت نفسي فيه فجأة. كل ما حولي ظلام. لا أتبين شيئاً من معالم الكهف المرعب المخيف. وشيئاً فشيئاً تأقلمت عيناي مع ما ظننته ظلاماً. بدأت ألمح في زوايا هذا الكهف كنوزاً تلمع وأشياء جميلة كثيرة، ينابيع ماء رقراقة، طيوراً تغرد، خمائل، جداول تتدفق كموسيقى عذبة. كل ما حولي كان جمالاً لا حدود له. وهكذا عرفت أن ما ظننته كهفاً مظلماً مرعباً ليس سوى واحة جميلة. إن من يتذوق خمرة العربية سيدمنها؛ فهي لغة ساحرة لها جاذبية خاصة. منذ طفولتي أدركت هذا السر. في العاشرة من عمري، وبعد المصالحة بيني وبين هذه اللغة، كتبت أولى قصائدي العربية. صرت ألتهم الكتب التهاماً. أقرأ كل شيء مكتوب بأحرف هذه اللغة حتى أتقنتها”.

عن إدراكه المبكر لقيمة الهوية والاختلاف وكيف بإمكانها أن تفتح آفاقاً إنسانية رحبة لبني الإنسان، من دون أن تقف حجر عثرة أمام الآخر، ويعدُّها تهديداً لهويته أو معتقده أو موروثه القومي، يتذكر دوست درساً لا يُنسى من الطفولة أيضاً، فيقول: “أثناء المرحلة الابتدائية كان معي في المقعد تلميذ أرمني مسيحي. كنت أتجنبه بسبب ما أشيع من أن المسيحيين يأكلون السلاحف والضفادع والخنازير وأنهم لا يغتسلون إلى آخر هذه الأساطير المؤسسة لوعي مشوه عن الآخر. عشت السنة الدراسية كلها محاولاً ألا ألمسه. للأسف لم أجد الوقت لأعتذر له عن تلك الصورة المشوهة التي رسمتها عن إنسان يشبهني في كل شيء لكنه يختلف عني بهويته التي لم يخترها هو بالتأكيد”.

يتابع، “شغلني موضوع الاختلاف فيما بعد؛ كان ما يحدث حولي من مآسٍ دامية دائماً سببها، أو لنقل حجة المحرضين عليها ومن يقفون وراءها، هو اختلاف الهويات. كنت أطرح على نفسي سؤالاً؛ لماذا لا يكون الاختلاف سبباً للتعاون والمحبة بين المكونات المختلفة؟ ومن الذي يغذي الكراهية في النفوس؟ شخصياً وجدت في الاختلاف هبةً ربانية. فاللوحة الجميلة هي التي تحتوي على أكثر من عنصر جمالي، أكثر من لون. قوس قزح ليس من لون واحد، الطبيعة، والأفلاك، والشعوب وكل شيء فلماذا لا نبحث عن المشتركات؟”.

يذهب بنا الرجل، الذي صلب عوده تاريخ من المآسي التي جرت أمام عينيه، وليس آخرها مذبحة “عين العرب”، التي راح أهله فيها ضحايا وفُقد آخرون، قائلاً” “للكراهية تاريخ. في كل مكان هناك احتكاكات ومماحكات بشأن الهوية تؤدي إلى حروب مدمرة. وبموازاة ذلك فللتسامح تاريخ في كل مكان، خصوصاً في شرقنا الإسلامي، حيث برزت نزعة التسامح عند المتصوفة بخاصة. ربما كان للتصوف دور في نشأتي المتسامحة”. ويروي أيضاً عن حملة الإبادة العرقية التي وقعت بالهجوم الكيماوي على مدينة “حَلبْجَة” الكردية شمال العراق في مارس (آذار) 1988، خلال الأيام الأخيرة للحرب العراقية الإيرانية، حيث كانت المدينة محتلة، وعندما تقدّم إليها الأول، تراجع الإيرانيون إلى الخلف وقصف الجيش العراقي البلدة بالغاز الكيماوي قبل دخولها، ما أسفر عن مقتل أكثر من 5500 كردي عراقي من أهالي المدينة، وأصيب ما يتراوح بين 7 و10 آلاف كردي، فضلاً عن الآلاف ممن توفوا في السنة التي تلت الهجوم نتيجة المضاعفات الصحية وبسبب الأمراض والعيوب الخلقية.

يخبرنا جان عن هذه الإبادة: “أتذكر أننا غضبنا كثيراً عندما حدثت مجزرة حَلبْجَة عام 1988. كنت شاباً في مقتبل العمر آنذاك ومتحمساً لقوميتي. حدث أن جرى نقاش بسبب المجزرة. رفعت صوتي في مجلس والدي محتداً وقلت: العرب يظلموننا. صفعني والدي صفعتين قويتين وهو يقول: نحن والعرب إخوة يا غبي. لا تجرِّم كل العرب بما حدث. كان ذلك أيضاً درساً قاسياً. لم أقبل في البداية نظرة أبي. وصرت أقول “العرب هم من يظلموننا”. ثم أدركت فيما بعد أن الظلم قومية مستقلة، هوية خاصة لا علاقة لها بهوية الظالم القومية”.

الحراك السلمي في مواجهة العنف الممنهج

يُبدي جان دوست كثيراً من التسامح والمحبة، رغم أن ثمة ناراً تحت الرماد، يخبرنا عن محاولاته إصلاح ما أفسده الشتات بداخله تجاه تاريخ التنكيل بهم ومساعيه نحو التصالح مع العالم والحياة فيقول: “فتحت عيني في بيئة يحيط بها الخوف. تعلمت منذ الصغر أن هويتي الأصلية خطرة. لماذا؟ لم أكن أعرف لماذا يجب علينا ألا نصرح بانتمائنا؟ لماذا علينا أن نمتنع عن التحدث بلغتنا؟ كنا نخاف من كل شيء. من سكة القطار التي شطرت القبائل والبلدات الكردية بين دولتين مختلفتي الهوية. لم يكن أمام الكردي إلا أن يكون عربياً سورياً أو تركياً. هذا على الأقل في الأوراق الرسمية، لكن الروح بقيت كما هي. كما خلقها ربي كردية صرفاً. لم أجد الوقت لأكره الآخرين”.

يتطرق إلى ماضٍ أبعد: “كان جدي والد أمي رجلاً متنوراً؛ أحضر ثلاثة بنائين مسيحيين ليبنوا له المحراب والمنبر. الجد نفسه كتب في مذكراته إدانة للمجزرة التي ارتكبها العثمانيون بحق الأرمن والمسيحيين بشكل عام واعتبر ما وقع مخالفاً للشرع”.

استوقفنا حديث الجد ومذكراته عن “مذابح الأرمن”، فسألناه عن الأمر فأوضح أن “جدّه لأمه نزح من تركيا بعد قيام جمهورية أتاتورك، وقيام ثورة الشيخ سعيد ثم التضييق على رجال الدين الكرد. وكان قد عايش أهوال الحرب العالمية الأولى في شبابه المبكر، حيث جرت فصول من إبادة الأرمن والمسيحيين في منطقته. ومن هذا المنطلق، وبما يمتلكه من روح متسامحة، وضمير حي ندد بالمجازر في مذكراته التي كتبها وهو في مكان إقامته بمدينة عامودا. وللأسف، هذه السيرة، لا تزال مخطوطة تنتظر النشر ويعيق ذلك كسل أحفاده الذين بحوزتهم مخطوطة الجد. كما ألف كتاباً في إعجاز القرآن، لم يُطبع أيضاً وكان يحب المطالعة والتأليف كثيراً. وله مكتبة زاخرة تضم أمهات الكتب التراثية. أما جده لأبيه، فكان يقرض الشعر الصوفي بالكردية وترك قصائد قليلة، ولم يكثر من قول الشعر بسبب انشغاله بالوعظ والإرشاد”.

وطن المنافي

ورغم مكوث الشاب الثلاثيني آنذاك في ألمانيا منفياً، فإن المنفى لم يُمسِ وطناً بداخله، إذ “لا تصبح الأرض وطنك ما لم تضم عظام أهلك”، وفق ما سجل على لسان أبيه في مسرح أحداث رواية “كوباني”. عن حيثيات المنفى، وتأثيره في منجزه، يقول: “ضاقت بنا البلاد وتقلص هامش الحرية حد الاختناق؛ اتسعت دائرة الخوف، صودرت الكتب والآلات الكاتبة، ألقي في السجن كثيرون ممن لم يرتكبوا ذنباً سوى النطق أو الغناء أو الاشتغال بالثقافة الكردية المحرمة، فكان لا بد من قرار الهجرة؛ أخطر قرار اتخذته في حياتي إلى الآن. وإلى يومنا هذا لم أتأقلم مع أجواء الغربة، أصيبت رُوحي بشرخ عميق. عانيت صعوبة الاندماج في بيئة كل ما فيها غريب”.

وعن احتمال عودة الزمن به إلى الوراء ليختار من جديد، يرى أنه “لو عادت الكَرّة لاتخذت قرار الهجرة لكن إلى بلاد أخرى؛ بلاد يكون للشمس فيها حضور فاعل يمدني بطاقة إضافية تمكنني من مقاومة كآبة المنفى ومرارة العيش غريباً في بلاد غريبة. الفضيلة الكبرى للمنفى هي أنه منحني وقتاً كافياً للتفرغ للكتابة دون الخوف من هموم المعيشة وكابوس الملاحقات الأمنية”.

مدونة التاريخ الكردي

دوَّن بعض المؤرخين الأكراد تاريخ قمع أواستعباد إيران وتركيا وغيرهما لهم في أدبياتهم على نحو صنيع “شرفنامه” وملحمة “مم وزين”، في تقديمه للأخيرة خلال ترجمته لها ذكر أن “اطلاع أحمد خاني على مآسي الكرد وتفتح وعيه على التمزق القبلي ومراحل السقوط المدوي لكردستان كان أحد دوافع تدوينه ملحمته”. هل يعد منجز دوست، الذي سبق الحديث عنه، امتداداً لإسهام الكتـّـاب الكرد في التعريف بالمأساة، وماذا عن روايته الخاصة بشأن الأحداث الجسيمة التي جرت بحقهم؟ وهل من مخرج لهذه الدوامة التي تنتهي محصلتها للمربع صفر، حيثما بدأت؟

يذكر صاحب “دم على المئذنة”: “هنا أسئلة كبيرة تؤرقني حقاً. في كل رواياتي أبحث عن أجوبة عن الهوية والحرية ومصائر البشر المختلفين في بيئات مشحونة بالكراهية. وأنا كفرد من أمة كبيرة يبلغ تعدادها خمسين مليون نسمة موزعين في أقاليم ودول عدة أطرح على نفسي السؤال المصيري الذي طرحته النخبة الثقافية الكردية منذ خمسة قرون تقريباً: لماذا تفرقنا وما الذي يفرقنا ويجعلنا مستعبدين؟ المصيبة الكبرى في اعتقادي أن الشعب الكردي يحارب تنيناً بعدة رؤوس. ليس لهم عدوٌ واحدٌ بل أعداء كثيرون يستفردون بمن تحت أيديهم. يجتمعون دورياً كما رأينا ونراهم يتباحثون سبل منع هذا الشعب من التحرر والاستقلال؛ فالاجتماعات بين طهران وأنقرة مثلاً لم تنقطع، وبالرغم من نقاط الخلاف الكثيرة بين العاصمتين فإنهما يجتمعان على مواجهة طموحات الكرد ونزوعهم إلى الاستقلال”.

يتابع: “رغم هذا، أنا متفائل. فمن بين نيران الحرائق، والمدن المهدمة وبشاعة المجازر أرى هذا الشعب ينهض ويكتب حريته ويحقق وجوده مثل باقي الشعوب. فالأكراد شعب المستحيل. هكذا أصف هذا الشعب المغلوب على أمره، المحروم من حقوقه. بالرغم من كل شيء صمد وحقق المستحيل؛ عانى الجوع والعطش، اعتصم بجباله المنيعة وهو يردد قوله المأثور: (لا أصدقاء سوى الجبال). تعرَّض للغدر مِن قِبل مَن ادعوا أنهم حلفاؤه. وخاض معارك دامية لنيل حريته، حورب كثيراً دون أن يكون له سند حقيقي ومع ذلك بقي صامداً في وجه الرياح العاتية مثل الجبال”.

الأكراد والهوية المحرمة

يتوزع الأكراد على نحو ما مر بين 5 دول رئيسة، بالإضافة إلى أكراد المهجر في أوروبا، فكيف تعاملت كل دولة منها مع مأساة الكرد، على مستوى الهوية، وكيف أثرت سياساتها في القضية الكردية وبالتبعية في أدبهم، وكيف يروي الأكراد الرواية الموازية بصوت الآخر من واقع أدبياتهم؟

يقول صاحب “نواقيس روما”: “كل الدول التي أصبح الكرد جزءاً من سكانها بحكم الاتفاقيات التي تلت الحرب العالمية الأولى ظلمتهم ولو بدرجات متفاوتة. وقد أصبح الكرد مع أراضيهم جزءاً من الجمهورية التركية بعد معاهدة لوزان (1923) الجائــرة فنالوا النصيب الأكبر من الظلم. حُرموا من كل الحقوق التي يمكن أن يتمتع بها شعب مختلف الهوية. قُمعت ثوراتهم بالحديد والنار، واعتُبروا أتراكاً جبليين وتعرضوا لمجازر بشعة”. (ومعاهدة لوزان هذه وُقعت في سويسرا عام 1923، وأعيد من بين بنودها ترسيم الحدود التركية ليقع الأكراد ضمنها، ويعانوا تحت وطأتها إبادات ممنهجة نسفاً لهويتهم).

يتابع دوست: “تكرر سيناريو الكرد الدامي في تركيا بإيران والعراق؛ انتفض الكرد في هذه الدول الثلاث بسبب الطبيعة الجبلية التي تتيح قيام ثورة مسلحة (وهو ما لم يسفر عن نتائج تُذكر). وفي سوريا ورغم غمط حقوقهم على مدى عقود طويلة فإن ثورة مسلحة لم تقم. كان الكرد في سوريا هم الحلقة الأضعف وصرفوا اهتمامهم إلى ما يجري في الأجزاء الأخرى. لكن الأمور تغيرت بعد ما يسمى في الأدبيات السياسية بالربيع العربي، وأصبح الكرد السوريون أكثر التفاتاً إلى واقعهم الخاص”.

عن القاسم المشترك لظلم الأكراد في هذه الدول لطمس هويتهم وتصديرهم للعالم على أنهم أشباحٌ تهيم في الجبال، يذكر أنه “بدءاً من تجريم لغتنا، وعدم السماح بارتداء الثياب الشعبية، ومنع الغناء والعزف على الآلات الكردية، وليس انتهاءً بالمجازر البشعة، إذ لم يدخر حكام هذه الدول جهدا لكتم أنفاس الأكراد. يروي الراحل ياشار كمال، الروائي الكردي الشهير الذي كان يكتب بالتركية، أن الجندرمة الأتراك جمعوا مجموعة من القرويين الكرد وأجبروهم على أكل الغائط”.

وعما إذا كان تطور مسار المسألة الكردية وتأرجحها بين مد وجزر، أسفر عن شيء، على الأقل هل أصبح صوتهم مسموعاً في آذان العالم، وهل نجح كتـّــابها في طرحها بمنطق سديد على المشهد العالمي، يقول جان، “للأسف، لم يتحقق شيء من هذا القبيل، فالأدب الكردي لم يتجاوز حدوده الممكنة. ربما وصلت نتف منه إلى القارئ العربي والإيراني وبدرجة أقل للقارئ التركي. لكن ما زال المسار طويلاً ليتعرف العالم على المأساة الكردية التي يطرحها الأدب الكردي”.

الأكراد أعداء أنفسهم

بالبحث في مدونة الأكراد، نجد أن التاريخ يحمّلهم جزءاً من المسؤولية تجاه ما جرى ويجري لهم، إذ يلوح الانقسام بينهم طوال المسيرة، وتسجل كلاسيكيات أدبهم عن تركيبتهم النفسية أنهم “نفورون من المنة، ورافضون لأعبائها، هم أشتات متفرقون دائمو العصيان والشقاق”، “وبقدر ما فيهم من شجاعة مصحوبة بالتهور ووفرة المروءة والسخاء فإنهم يلقون بأنفسهم إلى المهالك”، بهذا الشأن يرى دوست، أن طبيعة هذا الشقاق “سياسية، وقبلية، وثقافية. وجميعها أضر بالقضية الكردية بشكل كبير وأصبح أحد معوقاتها، وانعكس كل ذلك بطبيعة الحال في نتاجات الكتاب الكرد، فما من كاتب كردي إلا وتجد في أدبه صدى للمرارة التي يتجرعها بسبب هذا الواقع الكردي الأليم”.

“القبليّة” تقتل أطفالها في المهد

أشارت أصابع النخبة الكردية من بين ما أشارت إلى أوجه الخلاف، المتمثلة في الطبيعة القبلية التي تتمحور حولها الثقافة الكردية، وكيف أضرت بوحدتهم، وقدموا مبادرات بهذا الشأن، يخبرنا صاحب “وطن من ضباب”، أن “هناك محاولات، أو لنقل دعوات لتوحيد الأمة الكردية، وأبرز من نادى بذلك هو أحمد خاني ثم تبعه في ذلك تقريباً كل الشعراء والأدباء الكرد. وللأسف لم تتكلل جهود التوحيد بالنجاح، كما لم تجد الدعوة إلى الوحدة آذاناً تسمع لدى النخب السياسية الكردية أو المواطنين الأكراد”.

وأرجع الأمر لأسباب عديدة، بينها “عامل البيئة الجبلية وإسقاطاتها على التركيبة النفسية للأكراد التي جعلتهم يؤثرون العناد والتمرد الذي أثَّر بدوره في غياب الوعي بالوحدة القومية رغم معاناتهم تحت وطأة الأولى صنوف التنكيل، كما أن تنازع الإمبراطوريات الكبرى عليهم واستمالتهم لجعلهم رأس حربة وقوة رديفة أثر أيضاً في تشظي الشعب الكردي وانقسامه بين العثمانيين والصفويين لمدة قرون. للأسف الشديد ما زال الكرد يرتكبون الأخطاء نفسها بسبب عدم إلمامهم بالتاريخ ومآلاته، وطغيان الخيال الرومانسي على الوعي الفلسفي في كتاباتهم وقصصهم وأشعارهم، ما أثر بدوره في وعيهم الذي لا يزال بحاجة إلى التطوير ليتمكنوا من رؤية المتغيرات في العالم على نحو أكثر جدوى”.

الأدب الكردي بالعربية

ذات يوم رصد المفكر العراقي هادي العلوي أن الثقافة الكردية ظلت شفهية حتى القرن السابع عشر الميلادي، إلى أن حررها من سجنها الأديب أحمد خاني بثورته الثقافية الأولى عبر ملحمة “مم وزين”، وبالفعل نجح في مسعاه وثورته فتدفق سيل الأدب الكردي والكتابة الكردية طيلة القرنين الماضيين وتبلورت المعجمية الكردية والمصطلح الكردي وصار بإمكان الأكراد أن يعالجوا شتى العلوم والمعارف بلغتهم، بعد أن كانوا يعتمدون في الثقافة والأدب على اللغتين العربية والفارسية، واليوم أصبح الحديث عن “الأدب الكردي باللغة العربية” له رواده وأدباؤه الذين يحظون بالاحترافية، وفق هذه المتغيرات هل ثمة بادرة أمل لانتزاع الثقافة الكردية شرعيتها من بين براثن التاريخ الثقافي؟

يرى دوست، أن “الثقافة الكردية نجت أخيراً من محاولات المنع وكتم الأنفاس. الآن هناك بشائر كثيرة والأدب الكردي يتقدم في كل مكان بالرغم من كل المعوقات. اللغة الكردية كانت مقموعة ومهمشة في سوريا والعراق وإيران وتركيا، لكننا نرى الآن روايات كثيرة وكتباً في مختلف العلوم بهذه اللغة التي صمدت برغم كل شيء”.

ثمة أدباء اعتنوا بالشتات الكردي في التاريخ الحديث، تحديداً منذ عشرينيات القرن الماضي، ومع ظهور بعض الصحف في العراق تحديداً، إذ كانت هناك نهضة في التيمات الاجتماعية بالأدب الكردي. يخبرنا دوست عن أبرز الكتّاب المهمومين بالشأن الكردي، الذين اهتموا بتوثيق المأساة أو الفلكلور في تاريخهم، أن “في مقدمتهم شرفخان البدليسي، وأحمد خاني، بالإضافة إلى العالم الموسوعي محمود بايزيدي أحد أبرز من تركوا بصمة واضحة في الثقافة الكردية، وقد عمل مع القنصل الروسي أوغست جابا في منتصف القرن التاسع عشر. أضف إليهم أيضاً الشاعر أحمد الجزري الملقب بـ(ملاي جزيري)، ويُعتبر من أعظم شعراء الكرد في القرن السابع عشر. ومن الشعراء أيضاً نجد فقي طيران، ومينا، وسالم، ونالي، وبيساراني، ووفائي وغيرهم. ويغلب على أشعارهم بطبيعة الحال الغزل والوصف إلى جانب التصوف وبعض أشعار الهجاء والمديح. على العموم لم يكن هناك تنوع كبير في موضوعات الشعر الكردي قبل القرن العشرين. وللأسف ليست هناك حركة ترجمة قوية إلى اللغة العربية. وهذا الموضوع يحتاج إلى دعم خاص من السلطات الكردية التي لا تأبه به”.

وأضاف: “توسعت آفاق الأدب الكردي في العصر الحديث على يد بعض الرواد فتحرر الشعر الكردي من كلاسيكيته على يد الشاعر عبد الله كوران، ثم جاء شيركو بيكاس فأعطى للشعر الكردي دفعاً قوياً للأمام. بينما كان الشاعر جكرخوين منكباً على دعوته للإصلاح عبر أشعاره الغنائية التي حررها من ثقل المفردات الأجنبية ومنح الشعر الكردي ملامح خاصة به”.

وعن المصادر المهمة التي تطرقت إلى التاريخ الكردي يوضح، “هناك مصادر كثيرة تحدثت عن الأكراد، منها ما ورد في كتاب للمؤرخ المحارب الإغريقي (كسينوفون) يسمى (آناباسيس) عن حملة العشرة آلاف جندي يوناني الذين شاركوا في إحدى حروب العرش الفارسي. ولكن في الحقيقة فإن أوضح ذكر للكرد بدأ مع الرحالة المسلمين أو ما اصطلح عليه باسم (البلدانيين). وبالرغم من بعض المغالطات في هذه المصادر (وهي ناتجة عن قلة المعلومات) بخصوص أصل ونشأة الشعب الكردي فإنها حفظت الكثير من أسماء القبائل والبلدات الكردية مع عاداتهم وتقاليدهم في الرعي وحتى أرقاماً تحدد ثرواتهم الحيوانية”.

صورة الأكراد في المدونة العربية القديمة

بالتنقيب عن صورة الأكراد في كتب التراث العربي، نجد أن شأنهم هنا شأن باقي الأمم، تدوين اتسم بالمغالطات في حقهم والنيل منهم لأسباب متعددة، حدث هذا مع أمم أخرى كالأمازيغ والمصريين على سبيل المثال لا الحصر، بل ومع عرب شبه الجزيرة أنفسهم قبل البعثة النبوية، فماذا كان نصيب الكرد من هذه المدونة العريقة؟ يرصد دوست أن “صورة الأكراد عانت كثيراً في التراث العربي من مشكلة التعميم، تماماً مثلما وقع مع غيرهم من الأمم. قرأت على سبيل المثال في المقامة النيسابورية في وصف أحد اللصوص: (وكردي لا يُغيِر إلا على الضعاف). وفي الهامش كتب المحقق محمد محيي الدين عبد الحميد في شرح كلمة الكردي: (الأكراد قومٌ لهم خصوصية في اللصوصية). وهكذا تم تقديم صورة الشعب الكردي بكامله على أنه شعب لص!

وفي معجم البلدان لياقوت الحموي أيضاً، روى أن “الأكراد في جبال تلك النواحي على عادتهم في إخافة أبناء السبيل وأخذ الأموال والسرقة. وهي طبيعة الأكراد المعلومة وسجية جباههم بها موسومة”. يرد أيضاً ذكر الكرد وبلادهم كردستان في الأسفار والمدونات الإسلامية الجغرافية والتاريخية وحتى الأدبية، ويكاد المرء يتلمس صورة واضحة لما اعتقده المؤلفون والبلدانيون عن شخصية الكردي وبيئته الجبلية القاسية التي انعكست على نفسيته فولدت فيه الصلابة والجلد والنأي عن المدينة وحب الحرية والاستقلال، كالمسعودي الذي كتب “إن هذه الأمم الساكنة هذه الجبال والأودية تناسب أخلاقُها مساكنَها في انخفاضها وارتفاعها، لعدم استقامة الاعتدال في أرضها فلذلك أخلاق قُطَّانها (سكانها) على ما هي عليه من الجفاء والغلظ”. 

موضوعية جان دوست فرضت عليه أن ينتقد في الجهة المقابلة، إذ يأسف من “مغالاة بعض الباحثين الكرد في الإسقاطات القومية على مباحث التاريخ، ويتهمون المؤرخين القدامى بالعنصرية أو الحقد على الكرد والجهل بأصولهم لأنهم نسبوا الكرد إلى أصول عربية، ورسموا في بعض المواضع صوراً قاتمة لشخصية الإنسان الكردي، التي لم تكن مشرقة بالضرورة على الدوام”.

اللغة والفلكلور الكردي

يتنوع الفلكلور الكردي، أحد أهم الموروثات التي تسهم في ملامح الشعب، من بلد إلى آخر عبر بين الدول الخمس التي توزع فيها الأكراد عقب الحرب العالمية الأولى، الأمر الذي يراه دوست طبيعياً، “فالكُرد يتوزعون على جغرافيا هائلة متباينة سهلاً وجبلاً وثقافات مجاورة مختلفة”. يشير أيضاً إلى أن الفلكلور الكردي يتميز بغناه القصصي ووفرة ملاحمه التي تمجد البطولة والشجاعة والفروسية والأخلاق الحميدة وتعلي من شأن الحب. وقد اهتم الأدباء والباحثون الكرد، بخاصة في الاتحاد السوفياتي السابق بتاريخ الفلكلور الكردي ونصوصه الكثيرة اهتماماً كبيراً حتى صار لهم قصب السبق فيه.

أما عن اللغة الكردية، فشأنها شأن أهلها، تنقسم إلى لهجات متعددة تتعصب كل قبيلة لإحداها، الأمر الذي جعل منها عائقاً أمام “لغة موحدة”، وبدلاً من أن تمد اللغة الجسور بين الكرد قطعت الطريق أمام وحدتهم، وأعمى التعصب وعيهم القومي فتشردوا. يروي صاحب “بدائع اللغة”، وهو قاموس كردي عربي، “للأسف الشديد هذه من الأمور الوجودية الكبرى لدى الكرد. اللغة تشكل أحد الحواجز الفاصلة بين شعوبهم، الذين تفصل بينهم في الأساس حواجز جيوسياسية وحدود مرعبة. وأضيف أننا الآن (كأكراد يعني) بصدد أن تكون لدينا لغتان، بل ربما عدة لغات مختلفة. الكل يتمسك بلهجته ولا يتخلى عنها. توحيد اللغة أو اعتماد الكرد إحدى اللهجات لغة مشتركة أمر صعب المنال في ظل هذا التشظي السياسي والجغرافي الكبير. ربما لو كانت هناك دولة مركزية لكان بإمكانها فرض إحدى اللهجات أو الجمع بين اللهجات المختلفة، لكن حقيقة الأمر الواقع برهنت على أن الأمر صار صعباً للغاية. هناك (تعصب في اللهجة) عند الطرفين. الأمير جلادت بدرخان الذي ابتدع الأبجدية اللاتينية وهو في دمشق يصدر جريدته هاوار ارتكب خطأً كبيراً وأسهم في ابتعاد الكرد عن الحرف العربي. (ولا أقول هذا لأني من أنصار أن الحرف العربي هو الأنسب للصوتيات الكردية فحسب)، لكن مثل هذه الأمور لا يمكن أن تتمأسس على مبادرات فردية بدون دولة أو كيان يفرض لغة موحدة على الجميع”.

أمراء وحكام خارج القومية

بالإشارة إلى عدم تبني أحد الحكام اللغة الكردية أو حتى تقديم يد العون لكتابها القليلين، وإذا ما كان عجزهم يرجع إلى ضعف العامل القومي لديهم، أم لأسباب أخرى، يرى صاحب القاموس الكردي أن “الحكومات والإمارات الكردية شبه المستقلة عاشت اضطرابات دائمة. وكانت بلاد الكرد ساحة لمعارك الإمبراطوريات الروسية والفارسية والعثمانية والعربية الإسلامية، ولم يستقر الأمر للكرد في إنشاء دولة مركزية تمتد قروناً وتصبح بيئة منتجة للمعرفة. ومع ذلك فقد أسهم بعض الإمارات في نشوء أدب جميل، بخاصة في إيران أثناء حكم الإمارة الأردلانية، وفي العراق أثناء حكم الإمارة البابانية. الأمر الذي جعل الشاعر الكردي رضا الطالباني يتحسر على زوال الإمارة البابانية، التي وصفها في قصيدة مشهورة بالقول: لم تكن تدين بالولاء لآل عثمان ولم ترضخ للفرس”.

يضيف دوست، “في العموم لم تكن لدى الأمراء والحكام الكرد نزعة تنويرية تستوعب دور المعرفة والأدب في تقدم الشعوب ورقيها. ولا أدل على ذلك من شكوى الشاعر والمفكر الكبير أحمد خاني من أن أمير البلاد (ميرزا) لم يهتم بكتابه الرائع (مم وزين) الذي دعا فيه لوحدة الإمارات الكردية في محاولة لاستثمار الحروب بين آل عثمان (الأتراك) والصفويين (الإيرانيين)”.

يشير دوست أيضاً إلى أبرز الكتّاب الذين أسهموا في إعلاء شأن الثقافة الكردية ومصادرها، مثل العالم محمود بايزيدي في مجال النثر والكتابة، ففي رأيه، هو “أبو النثر الكردي. والوحيد تقريباً من المثقفين الكرد قبل القرن العشرين الذي لم يكتب شعراً على حد علمي. هناك مصادر كردية شحيحة للأسف، وأغلبها دواوين شعر. كتابات البايزيدي مختلفة، تهتم باللغة الكردية، بتاريخ الأدب الكردي وبالحكايات التاريخية وبعلم التاريخ ووقائعه. قمت بترجمة كتاب عادات وتقاليد الأكراد للبايزيدي إلى العربية. والآن بصدد ترجمة حكاياته التاريخية، التي تبلغ أربعين حكاية، عبارة عن مزيج من الواقعة التاريخية والأسلوب القصصي الكلاسيكي. بطبيعة الحال يقف شرفخان البدليسي على قمة هرم المؤرخين الكرد، وهناك علي أكبر كردستاني مؤرخ الإمارة الأردلانية وابنة عمه مستورة كردستاني الشاعرة والمؤرخة الشهيرة”.

مدونة الأدب الكردي و”نكسة الشتات”

وعما إذا كانت مدونة السرد الكردية نجحت في التعريف بـ”نكسة الشتات” عالمياً، وهل تختلف صورة الكرد في عالم اليوم عن الأمس، أخبرنا أن “الأدب الكردي ككل الآداب العالمية، نقل صورة عن المجتمعات الكردية في الدول التي يتوزعون فيها. والواضح أن الهموم الوجودية كالهوية وحلم الاستقلال والنضال من أجل الحرية كانت طاغية على مجمل الأدب الكردي. لكنه لم يطرق باب العالمية بعد. ربما نجد في المستقبل تغيراً صوب هذا المنحى المهم. نأمل ذلك”.

لكن هل وقفت الترجمة إلى اللغات الحية حاجزاً أمام انتشار الأدب الكردي في العالم، يقول، “الترجمة بحاجة إلى استراتيجية خاصة وتمويل كبير من منظمات وهيئات تهتم بالموضوع وتدرك قيمته. للأسف الكرد مقصرون في هذا المجال. لكن هناك مبادرات فردية كثيرة لترجمة الكتب الفلسفية والأدبية، خاصة في إقليم كردستان العراق، حيث برزت الكتب المترجمة في الفترة الأخيرة بشكل واضح”.

بالنظر إلى تاريخ الكرد، نجد أن مفردة “المصادرة” لاحقت شعبها وثقافتهم؛ بدءاً من هوياتهم المحرمة مروراً بأراضيهم، وأحلام الوحدة القومية، ولم يكن الأمر أحسن حالاً بشأن الصحف والكتب التي عكف مثقفوهم على نشرها في النصف الثاني من القرن العشرين تعريفاً بأمتهم في مساعٍ باءت بالفشل عقب إغلاقها لأسباب قمعية بالأساس، وبسؤالنا عن أهم الكتب التي صودرت وبحاجة لأن يعاد طرحها ليعيد العالم النظر في المسألة الكردية مجدداً عبر منجز أبنائها، يقول، “لا يمكن حصر ذلك في كتب محددة، فكل ما كان يُكتب بالكردية، خصوصا في تركيا وسوريا كان ممنوعاً ويتوقع مصادرته في أي لحظة. شخصياً كنت أطبع كتبي بشكل سري في مطابع دمشق مقابل مبالغ كبيرة وعن طريق السماسرة. وكان لزاماً علينا أن نضع على الكتاب المطبوع في دمشق أنه طبعة بيروت تلافياً للملاحقة والتحقيقات الكثيرة”.

الأحداث والوقائع التي جرت في السنوات العشر الأخيرة (2011 – 2020) في سوريا والعراق عقب جرائم داعش وتصدي الأكراد نساء ورجالاً لهم أسهمت بشكل كبير في صعود مأساة الكرد إلى الصدارة مجدداً، فهل ألقت هذه التداعيات بالتغيير ما بين الثقافي والسياسي بظلالها على المسألة الكردية، وهل استثمر الكرد موقفهم ودفاعهم عن بلادهم وهويتهم، يقول دوست، “المسألة الكردية أخذت دفعاً قوياً إلى الأمام وسط هذه الأحداث الساخنة. وبرزت إلى العلن قضيتهم، التي كانت الدول المضطهدة تحاول بشتى الوسائل نفي وجودها وطمس معالمها. لكن للأسف الشديد حال الشقاق الكردي الجاري دون استثمار هذه الفرصة المواتية”.

ظواهر في الثقافة الكردية

يتمركز كثير من أمهات التراث الكردي القديم على التصوف بالمعنى الإنساني، إن صح التعبير، فهل ثمة علاقة بين الطبيعة الجغرافية والتركيبة النفسية للأكراد وبين التصوف (وحدة الوجود) ومن ثمَّ التعمق في مفهومه عبر أقطابه والتأثر بهم؟ ما مصادره بالنسبة للأكراد؟ وما الملابسات التي جعلتهم يتأثرون به إلى هذا الحد؟ وهل أثر فيهم سلباً أم إيجاباً من قبيل التسليم بالقدر؟

يذكر دوست: “ربما وفَّرت الطبيعة الجبلية فرصة للاختلاء بالنفس، والانزواء بعيداً عن العالم. ومن هذا المنطلق برز التصوف الكردي اتكاء على الموروث الصوفي العام. ويجدر بنا أن نذكر هنا الصوفي الشهير عُديّ بن مسافر، الذي انزوى في لالش بين الأكراد، وأثر فيهم تأثيراً هائلاً، بخاصة الإيزيديين الذين أصبحوا يقدسونه تقديساً كبيراً. هناك طبعاً رأي يقول إن الله قدَّر علينا منذ الأزل أن نكون متفرقين يحكمنا الفرس والترك. ولا أعتقد أن هذا الاتجاه يتمأسس على التصوف في بلادنا. فالتصوف الكردي كان اجتماعياً وأغلب قادة الانتفاضات حتى ثلاثينيات القرن العشرين كانوا من أقطاب التصوف مثل الشيخ عبيد النهري، والشيخ سعيد، وسيد رضا”.

على ذكر المعتقد والديانة، تطرقنا إلى قضية اضطهاد الإيزيديين من بين الأكراد إلى هذا الحد؟ فأخبرنا أن “الإيزيدية، أو اليزيدية، ديانة كردية اللغة، غير تبشيرية، معتنقوها مسالمون لكنهم اضُطهدوا عبر تاريخهم من قبَل الجوار الإسلامي، كردياً كان أو غير كردي، وكانت علاقاتهم طيبة على الدوام مع أتباع الديانات الأخرى في العراق. وللشيخ والمتصوف عدي بن مسافر أثر كبير في صياغة وبلورة عقائدهم وأهمها تجنب لعن إبليس (وهو مبدأ صوفي قال به الحلاج وأحمد خاني وغيرهما). للأسف ارتُكبت مذابح بحقهم، وهم يقولون إن التاريخ شهد 73 حملة إبادة ضدهم. والمؤسف أيضاً أنه كان لرجال الدين الكرد المتعصبين دورٌ كبيرٌ في تأجيج أحقاد العامة ونار كراهيتهم للإيزيديين. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تسبب الجهل المتفشي لدى كثيرين من أبناء هذه الديانة في تصعيد الأمر ضدهم، فقد استطاع كثير من القوى استمالتهم على هواها والإيعاز لهم بأفكار خاطئة، بينها، أنهم ليسوا كرداً بل هم شعب مستقل بذاته دون سند علمي يبرهن ما ذهبوا إليه”.

أخيراً، أظهرت المرأة الكردية صورة حضارية ومشرقة أثناء قتال داعش، فهل هي صورة حقيقية كما صدّرتها وسائل الإعلام العالمية، وماذا عنها في التراث الثقافي الكردي القديم والمعاصر، يقول دوست: “المرأة هي قبل كل شيء في التراث حبيبة يقتحم العاشق في سبيلها الأهوال ويشن المعارك للظفر بها. ثم هي في الثقافة الكردية أخت الرجل، تقف إلى جانبه في المعارك، تعينه في أمور المنزل، تستقبل الضيوف وتتحدث إليهم، حتى الحرب لا تدخر جهداً في المشاركة بها. ومع هذا لا يزال هناك جانبٌ قاتمٌ في التعامل معها، إذ يشارك الكرد فيه مع جميع شعوب الشرق وهو تزويجها بالإكراه، وقتلها غسلاً للعار، بالإضافة إلى سوقها أحياناً إلى ميادين القتال قسراً وهي بعد قاصر لا تصلح للحروب”.

*اندبندنت