تبني الكاتبة المكسيكية لاورا إسكيبيل قصة روايتها “كالماء للشوكولاتة” (دار بلومزبري، 2015/ ترجمة صالح علماني) في المطبخ، حيث يمكن تفسير العلاقة بين الطعام والحب، وهي علاقة تنشأ في الرواية على هامش علاقة حب محرمة تشهد عليها وصفات طعامٍ مختلفة تنفرد في بناء تفاصيلها، ورسم مساراتها، وترجمة أحوال طرفيها النفسية والجسدية.
تذهب إسكيبيل في توظيفها للمطبخ وتفاصيله في روايتها، أبعد من مجرد الاتكاء عليه في بناء خلفية الحكاية فقط، أو الهوامش التي تجمع أجزائها وتتيح لها التفاعل فيما بينها، حيث جعلت من المطبخ وما يدور فيه، إضافةً إلى المصطلحات التي تنتمي إليه أيضًا، المكان التي تنطلق منه في بناء الأحداث والمشاهد وحتى الاستعارات تقول في وصف اللقاء الأول بين بطلي الرواية تيتا وبيدرو: “أدارت رأسها فالتقت عيناها بعيني بيدرو، وفي تلك اللحظة أدركت بالضبط ما لا بد لعجينة الزلابية أن تشعر به عند ملامستها الزيت المغلي” (ص 24).
ومثلما يضيف الطباخ مكونًا إضافيًا يكتمل به مذاق طبقه، أضافت الكاتبة المكسيكية إلى عملها القائم على ثنائية الحب والطعام، مكونًا أخر هو الأسى الذي يدرك القارئ، بعد انتهائه من القراءة، أنه العنصر الذي أكمل الحكاية وأنضجها أيضًا، إذ لم يكن تفكيك العلاقة بين الطعام والحب سهلًا دون إضافة عنصر آخر يكون بمثابة “مخبر” لتُفكك فيه.
أضافت إسكيبيل الأسى إلى حكايتها في اللحظة التي كان من الممكن أن تنتهي فيها، ويكون الطعام عندها تفصيلًا مبتذلًا في متن الحكاية، يفترق عن الحب أكثر مما يقترب منه، إذ إن رفض والدة تيتا لزواجها من بيدور – تماشيًا مع عرفٍ مكسيكيٍ يشترط على الفتاة الأصغر سنًا في العائلة التفرغ لرعاية والدتها حتى وفاتها – وزواج بيدرو لحظتها من شقيقة تيتا، نقل الحكاية إلى مكانٍ آخر تمامًا، ومنح العلاقة بين الطعام والحب بُعدًا مختلفًا يكون الأول فيه تعبيرًا مبطنًا عن الأخير، ومساحة تحاول فيها تيتا تفسير حياتها، وفهم عاطفتها وطريقتها في الحب.
لم يدفع الحزن بتيتا لقضاء مجمل وقتها في المطبخ فقط، بل جعل منه هويةً تنبِّها إلى وجودها وعاطفتها في الوقت الذي تسعى فيه والدتها إلى طمسها وتهميشها بهدف إبعادها عن بيدرو، عشيقها وزوج شقيقتها، حتى وأن تطلب الأمر ممارسة العنف: “أمضت أسبوعين في الفراش لتتعافى من ذلك الضرب، وسبب هذا العقاب الفظيع هو يقين ماما إيلينا بأن تيتا، بالاشتراك مع ناتشا، قد خططت بتعمد لتقويض خفل زفاف روساروا وذلك بإضافة مقيّء إلى قالب الحلوى. لم تستطع تيتا إقناعها بأن العنصر الغريب في الحلوى هو الدموع التي ذرفتها وهي تعدّه” (ص 50).
تُثبت الجملة الأخيرة أن تأثير الطعام الذي تصنعه تيتا على من يتناوله، مرتبط بالحالة النفسية التي أعدّته تحت تأثيرها، الأمر الذي يفسِّر تقيء شقيقتها روساروا، على العكس من بيدرو الذي ترك الطعام فيه تأثيرًا عاطفيًا أشعل مشاعره تجاهها، ذلك أن الحزن الذي أعدّت تيتا الطعام في ظله، يلتقي بشكلٍ أو بآخر مع الحزن الذي يسيطر عليه نتيجة زواجه من روساروا: “بدا كما لو أنهما قد اكتشفوا شيفرة جديدة للتواصل، تيتا هي المرسل فيها، وبيدرو هو المتلقي” (ص 59).
وفي الوقت الذي اجتهدت فيه تيتا لإيصال مشاعرها لبيدرو عبر الطعام، بدأت باكتشاف رغبتها به، والتعرّف إلى أسرار الجسد واللذة والشهوة، حيث أتاح لها الطبخ معرفة: “لماذا تغيّر ملامسة النار جوهر العناصر، لماذا تتحول قطعة عجين إلى عجة، ولماذا يكون النهد الذي لم يمرّ بتجربة نار الحب نهدًا خامدًا.. مجرد كرة عجين بلا أي فائدة” (ص 73).
لذا، لن يكون إشعال طبق طيور السمان ببتلات الورد للرغبة في بدن بيدرو وتيتا وشقيقتها “خيرتروديس” أمرًا مستغربًا، ذلك أن مكونات الطبق امتزجت، دون قصد، بالدماء التي سالت من جسد تيتا المتلهف للالتحام بجسد بيدرو الذي هتف، بينما يشتعل رغبةً بفعل التأثير “الأفروديتي” الذي خلّفه الطبق في بدنه: “إن هذه متعة آلهة” (ص 58).
التأثير الأفروديتي الذي خلّفته دماء تيتا في الطبق الذي أعدّته، تُرجم في بدنٍ شقيقتها خيرتروديس التي اشتعل جسدها وبدأت تشعر بحرارةٍ شديدة لدرجة أن: “قطرات الماء التي كانت تسقط من المرشة لا تكاد تلامس جسدها حتى يتبخر قبل أن يسيل عليه. فالحرارة التي يطلقها جسدها كانت شديدة إلى حد أن أخشاب حجرة الاستحمام راحت تفرقع وتشتعل. وحيال الهلع من الموت حرقًا في اللهب خرجت ركضًا من الحجرة بالحالة التي كانت عليها، عارية تمامًا” (ص 61).
يوضح الاقتباس السابق أثر الطعام في تغيير مصير الفرد، لا سيما حين يكون تعبيرًا مبطنًا عن الحب الذي أُعدّ تحت تأثيره وتأثير الأسى الذي تثيره فكرة أنه حب لن يكتمل. فما حدث بين تيتا وبيدرو، هو ما منح الطعام هذا البُعد الأسطوري. فيما كانت محاولات تيتا للتعبير عن حبها لبيدرو عبر الطعام، هي المسؤولة عن التأثيرات التي كان يتركها الطعام في بدن من يأكله.
هكذا، لا يبدو مستغربًا أن تقول إسكيبيل: “مثلما يتلاعب شاعر بالكلمات، كانت تتلاعب على هواها بالمكونات والمقادير، متوصلة إلى نتائج مذهلة” (ص 75). أو أن تفقد تيتا كل رغباتها في الحياة، باستثناء: “تلك التي يوقظها فيها فرخ حمام أعزل تغذيه بديدان”، تمهيدًا لطبخه. أو حتى أن تكون الحياة عندها مرتبطة بقدرتها على أن تتذكر كيف كانت تعدّ الطعام: “لو أنها تستطيع أن تتذكر كيف كانت تطهوا ولو بيضتين، لو أنها تستطيع الاستمتاع بأي طبق مهما يكن، لو أنها تستطيع العودة إلى الحياة” (ص 130).
أدخلت لاورا إسكيبيل الطعام في روايتها “كالماء للشوكولاتة” بشكلٍ مثيرٍ جعل منه يدًا خفية تسيُّر حيوات شخصياتها وترسم مصائرهم أحيانًا، ووسيلة للتعبير عن المشاعر ومدِّ علاقة حب محرمة بما تحتاجه لتبقى حية في أحيانٍ أخرى. والأهم من ذلك، هو تعامل تيتا معه على أنه ما ينبِّهها إلى وجودها، ويساعدها في تفسير حياتها ورسم مساراتها وفهم عاطفتها وطريقتها في العيش والحب.
*الترا صوت