مصطفى ديب: رواية “دلشاد”.. أهل مسقط في نصف قرن

0

دلشاد: سيرة الجوع والشبع” (تكوين، 2021)، رواية تقدّم سيرًا عديدة في سياق ما يبدو أنه محاولة لتدوين جزءٍ من سيرة مدينة هي مسقط في النصف الأول من القرن الفائت. قد لا تكون هذه هي غاية الرواية الثانية في رصيد الكاتبة العمانية بشرى خلفان، ولكنها، مع ذلك، تنتهي إلى هذه النتيجة.

تُروى مسقط في رواية خلفان على لسان دلشاد ثم ابنته مريم. وبين هاتين الشخصيتين، تعبر شخصيات أخرى لكلٍ منها قصتها التي تتوزع على أزمنة عديدة نقع خلال تنقلنا بينها، على صورٍ مختلفة للمدينة التي تتشكل، في الأصل، على هامش هذه القصص وبفعلها. الأحرى أنها تتشكل في مخيلة القارئ من خلال التفاصيل التي تصل من تلك القصص حول طبيعة حياة سكانها، وأنماط معيشتهم، وعلاقتهم ببعضهم بعضًا، وبالآخر، خلال فترة زمنية تبدأ قبل الحرب العالمية الثانية، وتنتهي بعد عدة سنوات من نهايتها.

بين هذين الزمنين نتعرف، أولًا، إلى دلشاد الذي ولد لعائلة عربية ونشأ بين أخرى بلوشية بعد وفاة والدته. نعرف منه أنه ولد بعد موت والده الذي قضى عطشًا، وأنه لم يرث عنه سوى نسب مجهول والتباس في الهوية سيبرز في خيمة “حليمة”، المرأة البلوشية التي رعته بعد تيتمه، واتخذت منه ابنًا لها بعد موت اثنين من أبنائها الثلاثة بالكوليرا، وشعورها بحاجة ابنها الثالث، عيسى، إلى أخ يعينه ويخفف عنه ألم الفقد ومرارة الوحدة في مدينةٍ ينهش الجوع سكانها، أو أكثرهم.

يكبر دلشاد في خيمة حليمة ويبقى فيها حتى يقع في حب نورجيهان، التي تزوجها وانتقل معها إلى خيمتهما، حيث توفيت بعد ولادتها لابنتهما مريم. ستكون الوفاة هنا بمثابة نهاية مرحلة من حياة دلشاد الذي صوّر فيها أحوال مسقط، التي تضيق ببشر يختلفون في العرق، ويتساوون في الجوع الذي يفاجأنا أنهم لا يتذمرون منه عند الحديث عنه لأسبابٍ لا نعرفها، ولا تقدّم الرواية أي تفسيرات حولها. ولكن الأمر يرتبط، على ما يبدو، بفكرة أن الجوع عام. وفي هذه الفكرة يجدون عزائهم.

الجوع في مسقط متوارث. هزالة الأجساد ونحولها تبدو مظاهر مألوفة في المدينة كما نراها ونتخيلها على أساس ما يرويه دلشاد، الذي قاسم ابنته جوعه ثم أودعها في “بيت لوماه” خوفًا عليها من الجوع ونزوات الآخرين بعد فقدانه المؤقت لبصره، الذي استعاده لاحقًا ولكن دون استعادة مريم من البيت الذي تخدم فيه مقابل الطعام والمأوى، الأمر الذي حمله على هجر المدينة.

تدخل الرواية بعد هجرة دلشاد مرحلة جديدة تُروى على لسان مريم وسكان “بيت لوماه”، الذي امتلأت فيه معدتها بعد جوع طويل. غير أن الامتلاء، على ما يظهر في الرواية، لا يعادل الشبع. والجوع الذي ينتهي في حياتها كشعور، يستمر بوصفه ندبة تردها، بين وقتٍ وآخر، إلى مكانها الأول: الخيمة التي نشأت فيها، والحارة التي كبرت في شوارعها وبين أزقتها، ووالدها الذي ظل يشغل تفكيرها حتى بعد زواجها من عبد اللطيف، سيد “بيت لوماه”، الذي وقع في حبها، وجعلها سيدة بيته.

تنتقل رواية بشرى خلفان في “بيت لوماه” إلى الجزء الآخر من مسقط. فالبيت، بعادات سكانه وسلوكياتهم وطبيعة حياتهم وأنماط معيشتهم، يمثل أثرياء مسقط وميسوريها. إنه نقيض خيمة دلشاد الذي جسد فقراء المدينة، وصور أحوالهم في طرفها الأول، الأمر الذي يجعل من وجود مريم في البيت، ثم زواجها من عبد اللطيف، مقارنة تلميحية بين طرفي المدينة وبشرهما أيضًا. فالمقارنة هنا لا تقتصر على الفوارق الاجتماعية والمادية فقط، بل تشمل أيضًا التفاصيل الصغيرة المتعلقة بالحياة اليومية، السلوك والعادات، ونطرة كلا الطرفين إلى بعضهما بعضًا، ثم نظرتهما إلى الآخر بغض النطر عن هويته.

تمتد هذه المقارنات على طول الرواية، التي تضعنا أمام وقائع وسلوكيات وأنماط عيش متباينة تجيب عن أسئلةٍ مختلفة، منها: كيف عاش أهل مسقط خلال النصف الأول من القرن الفائت؟ كيف كانت طبيعة حياتهم وعلاقتهم ببعضهم بعضًا؟ كيف تعاملوا مع تحولات المدينة وتبدلاتها؟ وكيف انعكست الأحداث الكبرى، مثل الحرب العالمية الثانية، والنزاعات السياسية والقبلية الداخلية، عليهم؟

هكذا تبني بشرى خلفان صورة مسقط التي اكتملت في ذهن القارئ لحظة خروج مريم وابنتها فريدة من “بيت لوماه”، الذي رهنه عبد اللطيف قبل مقتله على شواطئ المدينة، أثناء الحرب العالمية الثانية، مقابل أموال عجزت مريم وفردوس، شقيقته، عن سدادها، فانتقلت ملكية البيت إلى الدائنين.

لا تنتهي الرواية عند خروج مريم من “بيت لوماه”، ولكن ما سيأتي بعده لا يضيف جديدًا إلى سيرة مسقط وصورتها، بل يواصل ما يبدو أنه غاية الرواية، وهو كشف وتدوين مظاهر وجود الإنسان العماني، التي تتجلى في تعدد شخصيات الرواية وتداخل قصصها ومصائرها ببعضها بعضًا بطريقة لافتة. إنها رواية تدوّن سيرة هذا الإنسان وتؤرخ لوجوده، أكثر من كونها تدوينًا لسيرة مسقط. فالأخيرة، كما ذكرنا، تتكون على هامش سرد بشرها لقصصهم.

*الترا صوت