بدو مقاربة ميلان كونديرا للتفاهة في روايته “حفلة التفاهة” (المركز الثقافي العربي، 2014/ ترجمة معن عاقل)، مبهمة وربما ملتبسة إلى حد ما. ومردّ هذا إلى موقع التفاهة ذاتها داخل الرواية، وموقف الأخيرة منها، إذ يتنازعه التقريظ أحيانًا، والهجاء في أحيان أخرى. على أن الغلبة هنا للتقريظ الذي يتجلى في تعامل بعض شخصيات الرواية مع التفاهة بوصفها “مفتاح الحكمة”، و”روح الدعابة”، و”جوهر الوجود”، وغيرها من الصفات التي تُعلي من شأنها.
لكن الرواية تتجاوز تقريظ التفاهة وهجائها إلى محاولة فهمها بوصفها سلوكًا لا يمارسه الفرد بمحض إرادته، وإنما رغمًا عنه. ذلك أن شخصيات الروائي التشيكي لا تمارس التفاهة، أو تظهر بمظهرها، إلا تحت تأثير عاملين هما “السلطة” وما تمارسه من ضغط واضح ومباشر، و”الجماعة” التي تمارس أشكالًا مختلفة من الضغط الذي تمكّنها وفرة أعدادها من ممارسته.
الجماعة ودخول “حفلة التفاهة”.. ما العلاقة؟
في أحد مشاهد الرواية ينشغل “آلان”، إحدى شخصيات كونديرا، بالتفكير بالدور الذي تؤديه “السُّرة” في عملية الإغراء الأنثوي، وهي مسألة تافهة لا يعنينا منها سوى أن آلان أخذها على محمل الجد، بطريقة تستدعي التساؤل حول السبب الذي يدفع بالفرد إلى صرف جل وقته بالتفكير في مسائل تافهة، والطريقة التي تستطيع الأخيرة عبرها الهيمنة على تفكيره.
السبب، ببساطة، أنه لم ينشغل بالتفكير بـ “السُّرة” إلا بعد رؤيته للكثير منها في وقت واحد. ما يعني أن ظهورها أمامه بشكل جماعي، أو على شكل جماعة، هو الذي مكّنها من الهيمنة على تفكيره وإدخاله إلى الحفلة، التي ارتبط دخوله إليها بما تعرّض له من ضغط تستطيع الأمور التافهة ممارسته حين تصير “جماعة” تشبه، إلى حد بعيد، جماعات ممارسة الضغط.
في العلاقة بين السلطة والتفاهة
لم يمارس آلان التفاهة، أو يظهر بمظهرها، إلا تحت تأثير الضغط الذي مارسته جماعة “السُّرر” ضده بطريقة غير مباشرة. فـ “السُّرة” ليست هي ما لفت انتباهه، وإنما الكثير منها. وهذا أول مثال على التفاهة التي تُفرض على الفرد من أعلى.
أما المثال الثاني، فيتجلى في حكاية ترويها إحدى شخصيات الرواية عن جوزف ستالين، مفادها أن الأخير روى على مسامع رفاقه أنه صادف في رحلة صيد 24 طائرًا فوق شجرة. ولأنه لم يكن يحمل سوى 12 طلقة، قام بقتل نصف العدد ثم عاد إلى منزله، على بعد 13 كيلومترًا، لجلب 12 طلقة أخرى قتل بها بقية تلك الطيور التي كانت لا تزال في انتظاره في المكان نفسه على بعد 13 كيلومترًا!
أثارت قصة ستالين غضب رفاقه الذين تعاملوا معها بوصفها كذبة كبيرة، وليس مجرد مزحة تافهة لا يجب أن تشغل تفكيرهم، أو أن تؤخذ حتى على محمل الجد، الأمر الذي يستدعي تساؤلات عديدة يمكن اختزالها في سؤال: لمَ تعامل رفاق ستالين مع قصته بوصفها كذبة؟ ولمَ لمْ يخطر في بالهم أنها مجرد مزحة أو قصة تافهة؟
تضعنا محاولة الإجابة على هذه التساؤلات أمام سلطة ستالين، التي أضفت على قصته طابعًا جديًا في نظر رفاقه الذين دلت هذه الحادثة على تفاهتهم، التي تجلت لا في عجزهم عن فهم غاية قصته فقط، وإنما في اعتمادهم المطلق عليه في فهم الأمور وتفسيرها إلى درجة تدفع بهم إلى الانصراف عن التفكير، والعجز عن ممارسته أيضًا، سواءً في حضوره أو غيابه. ما يعني أنهم لم يعرفوا بأن قصته مجرد مزحة، لأنه لم يقل لهم ذلك بنفسه.
يتضح من تفاهة آلان ورفاق ستالين أنها نتاج عوامل خارجية أساسها الضغط، الذي مارسته “السُّرر” حين أصبحت جماعة مكّنها عددها من ممارسته. بينما استطاع ستالين، في المقابل، وعبر سلطته وما توفره له من أدوات ضغط وترهيب، جعل رفاقه تافهين في نظره ونظرهم ونظر قراء الرواية.
*الترا صوت