وضعت الصدفة بين يدي، أثناء نقل بعض الكتب من رفٍ إلى آخر في مكتبتي التي لا يسمح لها اللجوء بالتوسّع، روايتين هما “القربان” للعراقي غائب طعمة فرمان، و”بين القصرين” للمصري نجيب محفوظ. قرأت الأولى قبل أربعة أشهر من قراءتي للثانية. وتساءلت، عند رؤيتهما معًا، عما قد يربط رواية تجري أحداثها في القاهرة أواخر العقد الثاني من القرن العشرين، بأخرى تدور أحداثها في بغداد خلال أربعينيات أو ربما خمسينيات القرن نفسه.
استدعى السؤال احتمالاتٍ عديدة من بينها المقهى الذي لا يربط بين هاتين الروايتين، وإنما يُغري بالحديث عن اختلاف صورته في كلٍ منهما. صحيح أن ذلك قد لا يبدو منطقيًا بسبب ضيق الحيز الذي يشغله المقهى في “بين القصرين” مقارنةً بـ “القربان”، ولكن صورته في هذه الرواية، بما هي الصورة الشائعة عنه بوصفه مساحة لتصريف الوقت الفائض وملتقىً للمثقفين والسياسيين وغيرهم، يجعل من الأمر أقرب ما يكون إلى عقد مقارنة بين الصورة الرائجة عن المقهى، وصورته في رواية غائب طعمة فرمان.
لا يشغل المقهى في “بين القصرين” الحيز الذي يشغله في “القربان”. صورته في هذه الرواية أقرب إلى الصورة الشائعة عنه في تلك الحقبة. أو هذا على الأقل ما يصلنا عنه عبر ياسين، الابن البكر لأحمد عبد الجواد، الذي يرى إليه بوصفه مكانًا للتسلية وتصريف الوقت، شأنه في ذلك شأن معظم الناس، ربما باستثناء اختلافات بسيطة تتعلق بنزواته الجنسية. ولكنه، في المجمل، المكان الذي يهرب إليه من ضجر البيت ورتابة الحياة الزوجية. المكان الذي يُعيده، بطريقةٍ أو بأخرى، فردًا له حياته الخاصة التي ينطلق إليها منه.
تُقابل هذه الصورة صورةٌ أخرى تصلنا عبر فهمي، الأخ غير الشقيق لياسين، الذي يحضر المقهى في حياته بطريقة تستدعي التأمل رغم كونه حضورًا عابرًا من حيث أن محفوظ لم يتوسع في الحديث عنه، ولكن ما كتبه في النص التالي يبدو كافيًا لتكوين صورة عنه: “ضاق فهمي بمجلسه بعد أن أيقن أن ما بصدره من عاطفة أكبر من أن تروّح عنها محادثة أخيه في هذا المكان الذي يقف من شعوره موقف المتفرج إن لم يكن موقف الإنكار. نازعته نفسه إلى الاجتماع بإخوانه في قهوة أحمد عبده، حيث يظفر بقلوب تستجيب لقلبه ونفوس تسابقه إلى الإعراب عم يضطرم في قراراتها من الإحساس والرأي. هناك يسمع أصداء الغضب المتقد في قلبه، ويستأنس بإيحاءاته الجسور الملتهبة في جوٍ باهر من التعطش إلى الحرية الكاملة”.
نفهم مما سبق أن المقهى هو المكان الذي يمنح فهمي ما يحتاجه ليكون فاعلًا ومتفاعلًا مع ما يجري حوله. إنه المكان الذي يمنح أفكاره صوتًا بل ويجد فيه صدىً لها كذلك، على العكس تمامًا من البيت الذي يقف سكانه من أفكاره موقف المتفرج. ولذلك، يبدو أن المقهى قد ساهم، بشكلٍ أو بآخر، في تكوين وعيه السياسي والفكري، ما يعني أنه ليس مكانًا عابرًا في حياته.
والمقهى في “القربان” ليس مكانًا عابرًا في حياة شخصياتها أيضًا، فهو ما يجمعها ويربط بينها بل ويشغلها لدرجة أنه يمكن قياس حضور بعضهم في الرواية بمقدار حضور المقهى في حياتهم، ذلك أنه المكان الذي تُبنى فيه حكاياتهم، وتُرسم بين جدرانه مصائرهم، ويدفع ببعضهم ليكونوا قتلة.
المقهى في رواية فرمان جزءٌ من حكاية مالكه “دبش” وابنته “مظلومة” وزوجته التي دأب على دس السم لها حتى قتلها بعد أن وضع يده على أملاك عائلتها، ومنها المقهى الذي يتعامل معه روّاده بوصفه شاهدًا على قسوة دبش وظلمه لزوجته وابنته، بينما يراه العاملون فيه، ياسر وعبد الله، مجرد قبرٍ دُفن فيه شبابهما دون فائدة.
أما دبش، فلم يكن المقهى بالنسبة إليه سوى وسيلة لجني المال ومضاعفة ثروته. هكذا تغيب الصورة الرومانسية، أو الطبيعية المألوفة للمقهى، لصالح أخرى قاتمة لا تتغير بعد وفاة دبش التي اعتقد ياسر وعبد الله ومظلومة أنها ستغيُّر حياتهم إلى الأفضل.
ولكن ما حدث هو العكس تمامًا، إذ فقد عبد الله عقله بسبب هيمنة ياسر على المقهى الذي يعتقد أنه أحق منه بإدارته بعد أن أفنى سنوات عمره بين جدرانه، وعاش بسببه في فقر مدقع يتجلى في ملامح وجه زوجته وأجساد أطفاله الهزيلة. ثم قُتل ياسر الذي تُشير الأحداث التي وقعت بعد وفاته إلى أن عبد الله هو من قتله، والسبب هو المقهى الذي فقد عقله بسببه وأُغلق بعد مقتل ياسر.
أُغلق “مقهى دبش” دون أن تُغلق حكايته وحكاية ياسر وعبد الله وغيرهما ممن ألغى المقهى حضورهم، وجعلهم شخصيات غير فاعلة في مكانها وزمانها، أو متفاعلة معهما. وإذا كان المقهى في “بين القصرين” المكان الذي ساهم في تكوين وعي فهمي، فإنه في “القربان” المكان الذي لم يعد لياسر وعبد الله وغيرهما فيه، وبسببه، ذات أو تاريخ.
من هذين المقهيين الخارجين من روايتين أرادتا التجاور على رفّ في مكتبة شخصية، تتوالد العوالم والمعاني التي يجسدها المقهى كبؤرة للبشر، وتكثيف للمكان والزمان.
*الترا صوت