مصطفى تاج الدين الموسى: موتى السعادة الغامضة «صديقة المحتضرين»

0

مرّة ثانية، انحنى الطبيب عيسى على جثة المريض العجوز، وتأمل ملامح وجهه مجدداً، ما تزال الحيرة تعصف برأسه، وجه العجوز المتوفى منذ ساعات قليلة، كان ينضح سعادة، وكأن صاحبه قد عاش فرحاً عظيماً لا يوصف، في الدقائق الأخيرة قبل وفاته، لم يعثر الطبيب عيسى على تفسير لهذه السعادة الغامضة، المرسومة على الوجه الميت، سرعان ما كتب على الأوراق بعض المعلومات الطبية، ثمّ ناولها إلى ممرض يقف جانبه، وقبل أن يخرج صافح معزياً حفيد العجوز الميت.. وواساه بكلمات قليلة، ثمّ خرج متوجهاً إلى غرفته في الطابق الثالث من المستشفى.

رمى جسده على الكرسي وأشعل سيجارة، كان يفكر وهو يرسم بقلم بين أصابعه – شارد الذهن – خطوطاً مائلة، لا معنى لها، على ورقة فوق طاولته.

يدير الطبيب عيسى البالغ من العمر ستة وأربعين عاماً منذ سنوات هذا المستشفى القديم، غير البعيد عن مدينته الصغيرة في شمال البلاد، والمخصص عموماً للحالات المرضية الميئوس من شفائها، حيث يتم عادة تحويل المرضى –من المسنين غالباً–الذين يوشكون على الموت إلى هنا، من مستشفيات المدينة، حيث لا يمكثون طويلاً، لأنهم يموتون بعد أيام، أو أسابيع، في أفضل الأحوال.. وخلال سنواته هنا صار الطبيب عيسى وبقية الممرضين، أصدقاء دائمين للموت الدائم.

فكر كثيراً وخطوطه المائلة تتكاثر على الأوراق أمامه، فكر في وجوه الموتى في المستشفى وقد طرأ عليها تغيير غير طبيعي، وغامض، في الآونة الأخيرة، انتبه لهذا التغيير بعد تكرار الحالة ذاتها مع عدة موتى من المرضى، سابقاً كانت وجوه المرضى من الموتى يخيم عليها الحزن والتعاسة والألم، لكن مؤخراً، بدت له وجوه الموتى الجدد من المرضى تنضح سعادة، مع ابتسامات واسعة، وثمّة فرحٌ هائل يمتد على ملامح الوجه، احتار الطبيب عيسى في أمر دقائقهم الأخيرة، تساءل كيف كانت تلك الدقائق حتى ماتوا سعداء جداً! لم يعثر على جواب بينما حيرته تزيد من اضطراب روحه.

بعد أن طرقت على بابه، دخلت الممرضة “نوال” مكتبه، وأخبرته عن مريض جديد دخل المستشفى تواً، ولا بد من الاطلاع على حالته.

بعد قليل كان الطبيب عيسى قد فحص المريض العجوز الجديد، طلب من الممرضة نوال إعطاءه أدوية معينة في أوقات محددة، مسح بلطف على جبين المريض العجوز ومضى ليخرج… وجه هذا المريض الجديد كان داكناً، بملامح غائرة، عابسة وغاضبة، تعيسة للغاية، ولكن عندما توفي بعد يومين، انحنى عليه الطبيب عيسى ليشاهد على وجهه  أسراب السعادة تحلق بين ملامحه، وابتسامته اللطيفة تمتد من طرف أذنه الأولى إلى طرف أذنه الثانية، لقد كانت أوسع ابتسامة يشاهدها الطبيب في حياته، وكالعادة لم يعرف سر تغير ملامح هذا العجوز، من كآبة مريرة إلى فرح غامض لا تفسير له.

في الليل تقلب الطبيب كثيراً على سريره وقد أرقته تلك الأسئلة، الأسئلة الغامضة التي لا تدخل عادة هذا المستشفى القديم والبعيد، الأسئلة التي تدور حول سرّ الوجوه السعيدة للموتى في المستشفى، لم يعثر على جوابٍ يمنحه فرصة النوم لساعة واحدة.

في صباح اليوم التالي نزل الطبيب إلى باب المستشفى، كان نشيطاً على الرغم من عدم نومه، كانت الأفكار تسيل بغزارة في عقله، شعر أنه صار قريباً من حل لغز سرّ السعادة على وجوه الموتى، أخذ سيارة أجرة من أمام باب المستشفى، وطلب من السائق التوجه إلى سوق المدينة، من نافذة السيارة تأمل الشوارع والأبنية والناس، أحس أن المدينة قد تغيرت كثيراً.. تأكد في سره أنه قد هجر هذه المدينة منذ زمن طويل دون أن ينتبه.

يزور الطبيب عيسى المدينة على فترات متباعدة، يمضي أغلب أيامه في المستشفى، ويقيم داخلها في غرفة مخصصة له، وخصوصاً أنه في السنوات الماضية، بدأت علاقاته تتقلص مع العالم الخارجي إلى حدودٍ متواضعة.

بعد أن تجول بين المتاجر في السوق، اشترى عدة آلات تصوير من النوع الصغير جداً، والحديثة، ذات التقنيات العالية، وعندما رجع إلى المستشفى، فتح أوراق المرضى على طاولته أمامه، راجع كل الحالات، حاول بحسه الطبي الذي تراكم داخله منذ سنوات دراسته للطب في الجامعة حتى الآن، أن يصنف حالات المرضى من الأكثر خطورة، إلى الأقل خطورة، وتخمين من سوف يموت أولاً، سجل على ورقة صغيرة أرقام غرف معينة، ثمّ انتظر حتى المساء ليتوجه إلى غرف أولئك المرضى، متحججاً بالفحص الطبي الروتيني المعتاد لكل مريض.

في مثل هذا الوقت أغلب الممرضين يذهبون إلى الغرف المخصصة لهم، لنيل قسط من الراحة، بينما بعض المرافقين للمرضى يتوجهون لمقهى المستشفى، أو الحديقة في الخارج، ليثرثروا مع بعضهم بعيداً عن المرضى.. وبهذا تصير غرف المستشفى وممراتها شبه فارغة.

استطاع الطبيب عيسى دسّ آلات تصويره الصغيرة خلسة، في عدة غرف حول عدة مرضى، دون أن ينتبه له هذا المريض أو ذاك، وخصوصاً أنهم في وضع يرثى له، يتأرجحون عابسي الوجوه بين الإغماء والهذيان.. وهم يقتربون أكثر فأكثر من حافة الموت، على حافة أسِرَّتهم.

تمت عمليته بنجاح، رجع إلى غرفته ونام حتى وقت متأخر من اليوم التالي، عندما استيقظ اضطر للخروج من المستشفى مع ابن عمه، الذي جاء إليه وأخذه إلى البيت، ليفحص زوجة عمه وقد ساءت حالتها الصحية فجأة.. وبعد أن فحصها وطمأن الجميع على صحتها، كتب لها الأدوية المناسبة، شرب على عجل نصف فنجان قهوة وسيجارة، ثمّ ودّعهم بوجهه الشاحب الذي يوزع الابتسامات الدبلوماسية على الآخرين كيفما اتفق، وخرج ليعود مع المساء إلى المستشفى.

على باب المستشفى أخبره أحد الممرضين أن مريضين قد توفيا ليلة البارحة وفجر اليوم، بعد دقائق قليلة فحصهما الطبيب عيسى داخل المشرحة، في قبو المستشفى، إنها ذاتها، السعادة الهائلة، مرسومة بنفس التفاصيل على الوجهين الميتين.. سعادة لا تشبه الموت أبداً.

طلب من الممرضين تسليم الجثتين لذويها، ثمّ أسرع خلسة إلى غرفتي المريضين في الطابق الثاني والثالث، وهو يلتفت حوله كل بضع خطوات، استطاع خلال دقائق قليلة الحصول على آلتي التصوير في الغرفتين، ثمّ هرول إلى غرفته، وبعد أن دخلها أغلق بابها بإحكام.

كان قلبه يخفق بشدة ويكاد يخرج من صدره وهو يقوم بتوصيل آلتي التصوير إلى شاشة التلفاز، أشعل سيجارة وعبّ منها أنفاساً طويلة، وهو يشاهد الدقائق الأخيرة للمريضين الميتين.

قلبه كان يخفق بشدة، أطرافه صارت ترتجف، تعرق كثيراً ووجهه يتلون وهو يدخن، تسارعت أنفاسه وجحظت عيناه.

شاهد الممرضة نوال، تدخل سراً إلى غرفتي المريضين في وقت متأخر من الليل، أو فجراً، تغلق خلفها الباب بإحكام، تقترب من المريض، لتحقن له الوعاء البلاستيكي المعلق على عامود السيروم بأدوية معينة، يبدو أنها تسرع موته، دون أن يعرف المريض، ثمّ تُخرج من جيبها مسجلة صغيرة، تضغط على زرها فتنبعث موسيقى هادئة وجميلة في المكان، تنحني على المريض وهي تبتسم له ابتسامة عذبة، ثمّ تقبله بهدوءٍ على شفتيه قبلة طويلة، قبلة شهية، من الوارد أنه لم يحصل عليها في حياته، رغم أنه تخيلها كثيراً، تبتعد قليلاً عن سرير المريض شبه العاجز عن الحركة أو الكلام… تفرد شعرها الطويل أمامه، وتبدأ بالتمايل والرقص، ثمّ تبدأ بخلع ثيابها تدريجياً قطعة قطعة، ومع استمرار رقصتها مع الموسيقى، وحركاتها اللينة أمام المريض الذي يحتضر، تتعرى كلياً أمامه خلال دقائق جميلة تبدو مثل أحلام ألف ليلة وليلة، أما المريض الذي يمد أصابعه المرتجفة بوهن إليها، وكأنه يريد أن يلمس حلماً لطالما تمنى أن يشاهده في حياته، سرعان ما يلفظ أنفاسه مبتسماً، بعد أن أشرق وجهه من عتمة المرض، يموت، وقد تركت الرقصة العارية للممرضة نوال وقبلتها على شفتيه، غيوم السعادة تحيط بملامح وجهه.

ذلك المريض مات بعد دقيقة ونصف من تعريها الكامل في رقصتها، هذا المريض مات بعد سبع دقائق من تعريها.. اختلف قليلاً حال صمود ما تبقى من حياتهما أمام عريها.

في الغرفتين وبعد أن تتأكد نوال من موت المريض، تقترب من سريره حافية، لتستلقي جانب جثته، وتحضنها إلى صدرها العاري قليلاً، تبكي بصمت، ثمّ تنهض ــ وكأنها قد أتمت مهمتها التي جاءت إلى هنا من أجلها ــ لترتدي ثيابها بسرعة، وتدس المسجلة الصغيرة في جيبها، وتخرج من هنا خلسة، دون أن ينتبه أحد لها.

لم يفهم الطبيب عيسى لماذا تفعل الممرضة نوال هذا، تأكد بعد عدة سجائر، أنها أرادت أن تمنح المرضى الميئوس من حالتهم نهاية جميلة، نهاية حياة تساوي الحياة بأكملها.

نوبة كآبة جديدة هجمت على روحه وقضمت قلبه، وهو بالكاد يخرج قليلاً من نوبات الكآبة في حياته.

استنشق هواء المساء الخريفي، وهو يقف أمام نافذته، كانت الشمس تغرب ببطءٍ مثل سلحفاة، رمق بصمت وهو يدخن تلك الأبنية البعيدة للمدينة التي هجرها منذ سنوات، تأمل المدينة وكأنه يتأمل حياته، حياته التي هجرها أيضاً منذ سنوات، هناك، بعيداً، في أفق الغروب، شاهد امرأة عارية ترقص فوق المدينة، وفوق حياته، لتجعل الموت فوق المدينة وفوق حياته، ترفاً جميلاً…

تنهد وهو يشيح بوجهه عن نافذته، اتصل بالممرضة نوال وطلب منها على سماعة الهاتف أن تأتي إليه، ثمّ بدأ يرتب كلماته بعناية داخل رأسه.

جاءت نوال بعد دقائق قليلة وجلست أمام مكتبه.

سكب لها ولنفسه كأسين من الشاي، كانت الأبخرة تتصاعد من الإبريق على طاولته، لتنتشر كضباب في المسافة التي تفصل بينهما، حكى لها بكلمات هادئة من بين أبخرة الشاي، كيف اكتشف سر الوجوه السعيدة للموتى في المستشفى، كان يحدثها بصوت عميق، ووجه شاحب، وعينين ذابلتين، والكآبة تتجول على ملامح وجهه.

شهقت نوال أثناء حديثه، وصفعت وجهها بكفيها، وكأنها تريد أن تخفي عينيها عنه، بكت وجسدها يرتجف بشدة، ويتقلص على الكرسي، نهضت لتمشي في غرفته وتتعثر بالأشياء، وهي تهذي بخجل، وألمٌ شديد يمزق روحها، ويذبح أحشاءها، لم تتجرأ على النظر في عيني الطبيب، قالت وكأنها تتحدث مع نفسها، بكلمات متلعثمة ومضطربة، ودموعها تسيل على خديها:

– أنا لست قاتلة، أقسم لك، بكل الأحوال كانوا سوف يموتون بعد أيام قليلة أو ساعات… أردتُ أن أمنحهم نهاية جميلة، تنسيهم أوجاع حياتهم كلها، تنسيهم مخاوف الموت، لقد كنت مجنونة، صار عمري ستة وأربعين عاماً، لا أحد أحبني، ولا أحد لمس جسدي، أو شاهده عارياً، أعرف أنني مجنونة، قررت منذ أشهر في هذا المستشفى الكئيب، أن أمنح جسدي هدية للذين على وشك مغادرة الحياة، أنا لست قاتلة، قد أكون مجنونة لأنني جعلت من جسدي العاري خاتمة قصيرة وجميلة، لحيوات طويلة وبائسة… أنا في هذا المستشفى منذ خمسة وعشرين عاماً، صديقة للمحتضرين وصديقة للمرضى، وجسدي صديق للموت، قد لا تفهم كلماتي أو مشاعري، أنا لم أستطع أن أفهم نفسي، لكنني متأكدة أنني لست قاتلة، أرجوك… لا تخبر أحداً بسري…

انهارت على كرسيها تشهق بشدة، وهي تنشج بكاءها بصوت عالٍ، وتكاد تختنق.

اقترب منها الطبيب عيسى، وربت على كتفها من خلفها، أشعل لها سيجارة وناولها إياها بلطف، لتدخن علّها تهدأ قليلاً، قال لها وهو يلتفت ليتأمل حلول الليل من نافذته، وكأنه يتحدث مع الليل لا معها:

– أنا أيضاً في مثل عمرك، أمضيتُ سنواتي بين المرضى والموتى، هجرتُ المدينة منذ وقت طويل، وبعد كل هذا العمر… لم ألمس جسد امرأة، ولم أشاهد جسد امرأة عارية، كم هي شقية حياة الإنسان التي تستمر دون أنثى عارية…

لم تنتبه جيداً لكلماته، ولم تلمح دمعته الواقفة على زاوية عينه، لكن الطبيب شعر أن الليل في نافذة غرفته انتبه لكلماته التعيسة، كانت نوال ما تزال تهذي مقهورة، وتتوسل له ألا يخبر أحداً بسرها.

شعرا معاً أن هذا المستشفى قد ضاق عليهما فجأة، وتحول لعلبة كبريت، وهما مسجونان فيها، مثل حشرتين بائستين.

– لا تخافي، إنه سرنا يا نوال، أنت إنسانة نبيلة… أنا متأكد، أولئك الموتى يتحدثون الآن عنك بسعادة في العالم الآخر، وهم ممتنون لما فعلته لأجلهم، لقد فتحت لهم طريقاً جميلاً وسعيداً إلى العالم الآخر…

قال لها وهو يهزها بقوة من كتفها، ليمنحها بعضاً من الثقة بنفسها.

فتح باب مكتبه وهمس لها وهو يبتسم في وجهها:

– تصبحين على خير…

خرجت من مكتبه وظلت تلتفتُ إليه حتى نهاية الممر الطويل، ظل واقفاً على بابه يبتسم لها إلى أن اختفت.

استلقى على سريره، وتأمل لساعات طويلة صوراً من حياته، تسارعت تباعاً على السقف، مئات الصور الصامتة والشاحبة، لحياة شعر أنها كئيبة، دخن كثيراً…

نهض واقترب من نافذته، وتأمل أضواء المدينة من بعيد، سمع أحاديث غير واضحة لأناس يمضون الآن وقتاً جميلاً في سهرات مشتركة… تنهد، تلفت بهدوءٍ حوله، رمق أشياء غرفته كلها، الغرفة التي عاش فيها سنواته الأخيرة، شعر أنها حياته كلها، وهنا تأكد أن حياته مجرد قفص، قفص وضعه القدر جانب المحتضرين.

جرّ رجليه بوهن ليخرج من غرفته مع منتصف الليل، وزع ابتساماته الشاحبة على بعض المرضى ومرافقيهم هنا وهناك، نزل السلالم متعباً إلى غرفة الصيدلية في الطابق الأول، وطلب من الممرض المسؤول عنها بعض الأدوية، ووعاءً بلاستيكياً مع أنابيب ومصل وحقن، ثمّ مضى مبتعداً.

بعد ساعتين ونصف رنّ جرس الهاتف في غرفة الممرضة نوال، كانت ما تزال تبكي، وجسدها متكور على نفسه تحت غطائها.

طلب منها الطبيب عيسى بكلمات شبه مخنوقة، أن تتوجه بسرعة إلى الغرفة رقم “19” لتساعده بمعاينة أحد المرضى.

أسرعت عبر الممرات المعتمة للمستشفى حتى وصلت الغرفة المقصودة، وما إن دخلتها حتى شهقت بخوف هزّ كيانها، أغلقت الباب وأسرعت إليه، كان الطبيب عيسى ممدداً على السرير في هذه الغرفة التي لا يشغلها أيّ مريض، وقد أوصل لوريده من خلال الأنابيب ذلك الوعاء البلاستيكي، على عمود السيروم جانبه، وقد مزج فيه خليطاً دوائياً قاتلاً، كان وجهه داكناً، وكأن الحياة بدأت تحزم حقائبها وتغادره بهدوء.

كانت شفتاه ترتجفان، همس لها بيأس سحق قلبها:

– مللت من حياتي التعيسة، حياة تبدو لي وكأنها معطف رث ثقيل مرمي على كتفي، أريد أن أخلع حياتي وأرميها بعيداً عني، ساعديني… أرجوك ساعديني…

لم تستطع أن تنطق بحرف، لسانها أصابه الشلل، بينما بكاؤها يعلو، دسّ أصابعه في شعرها وأغمض عينيه مستمتعاً بملامسة أصابعه لخصلات شعرها الناعم، كانت هذه أول مرّة في حياته يلمس شعر أنثى، شعر بأنه عازف يجيد العزف ولو متأخراً على الأوتار، ابتسم ابتسامة شاحبة، ثمّ تمتم لها بصعوبة:

– هيا… شغلي موسيقاك، قبليني، وارقصي لي عارية رقصة النهاية…

انغرست كلماته الأخيرة مثل سكين حاد في صدرها، تأوهت الممرضة نوال، تمنت لو أنها تموت الآن، ترجاها بعينيه الذابلتين أن ترقص له عارية، على إيقاع الموسيقى، إنها خاتمة رائعة يود أن ينهي بها حياته، هكذا خطط تحت سقف غرفته منذ قليل، أن يحصل على ذات النهاية السعيدة، التي حصل عليها الكثير من المرضى هنا في الآونة الأخيرة، قبل وفاتهم.

تراجعت عن سريره لتسقط أرضاً، صوت بكائها كان أعلى من توسلاته، شتمت نفسها وشتمت حياتها وهي تصفع وجهها بقسوة.

بدأ جسده يتشنج ويتلوى ألماً على السرير، احتقن وجهه وكأن الأكسجين ما عاد يصل إلى رئتيه، توسل لها بصوت خافت أن تمنحه تلك النهاية، التي يريد أن ينهي حياته بها، لكنها كانت على أرض الغرفة غارقة في بكائها، اختنقت كلماته في حنجرته، هجم عليه الموت بوحشية، دون أن يكون أمامه موسيقى، أو امرأة عارية، أو رقصة جميلة، أو قبلة شهية، كما تخيل وهو يتأمل ليل المدينة من نافذته، قبل أن يعد المزيج الدوائي السام منذ ساعات قليلة.

صرخ بها وهو في أنفاسه الأخيرة، ألا تحرمه الموت الجميل الذي أجادت صناعته للآخرين، الموت الجميل الذي تعجز الآن عن صنعه له، لكن كلماته كانت غير مسموعة بسبب ضجيج بكائها.

غص في نفسه الأخير، ازداد شحوب وجهه عندما أيقن أنه لن يحصل على النهاية التي أرادها، حسد في خفقاته الأخيرة مرضى لم يخططوا لنهايات من موسيقى ورقص وقبلة وعري أنثوي، وحصلوا عليها.

عندما انتبهت الممرضة نوال إلى أن الطبيب عيسى قد مات على السرير، أطلقت صرخة عالية بهلع.

في الخارج انتبه لصرختها وصداها بعض الممرضين ومرافقو المرضى، فأسرعوا إلى تلك الغرفة مستغربين أمر تلك الصرخة، في هذا الوقت المتأخر من الليل.

فهموا بعد دخولهم الغرفة أن الطبيب عيسى قد انتحر، ويبدو أن الممرضة نوال أول من انتبه لانتحاره، انحنى أحدهم عليها ليواسيها، ويساعدها على النهوض، أما البقية فقد تجمعوا حول السرير، وانحنوا على جثة الطبيب عيسى.

رمقوا وجهه بصمت، كان وجهاً شاحباً وتعيساً جداً، بملامح غائرة.. وجهاً داكناً يخلو من أيّ سعادة بسيطة.

*موقع سبا