مشير باسيل عون: إدغار موران يخشى مصير الأرض بين الكارثة والروبوتية

0

منذ زمن الإنشاء الأول (“السنة صفر في ألمانيا”، 1946) حتى كتاب “أمثولات قرن من الحياة” (2021)، يجول عالم الاجتماع الفيلسوف الفرنسي إدغار موران جولات شتى في أزمة المجتمع الإنساني المعاصر، متهيباً الفجوة المهلكة التي حفرها الإنسان وسقط فيها حين تفوق تفوقاً منقطع النظير في العلوم والتقنيات، وانحط انحطاطاً مخزياً في بناءات المعنى وتصورات الحياة الكريمة. لا ريب في أن أعمال موران تبحث في حقول من الثقافة شتى. غير أن التنوع الشديد هذا يفضي بالقارئ إلى التشتت والضياع. مع ذلك يستطيع الذهن الفطن أن يستجلي في مسألة الإنسان الخيط الناظم، إذ إن فكر موران الترابطي الشامل يحاول أن يستطلع الصلة العميقة التي تجمع في تركيبة الإنسان المعقدة تمخضات الطبيعة وتجليات الحياة وإنشاءات الاجتماع الإنساني وبناءات الثقافة.

انتقاد الأيديولوجيات

ينحدر إدغار موران من أصول يونانية يهودية (مدينة تسالونيك اليونانية). ولد في باريس عام 1921 وانخرط باكراً في مقاومة الاحتلال الألماني، واكتنى بكنية موران. أحرز شهادات شتى في التاريخ والاقتصاد والقانون، وفاقت مؤلفاته السبعين كتاباً. كغالب المفكرين الفرنسيين، جذبه الحزب الشيوعي بمثاليته الطاهرة، ولكنه ما لبث أن طرد منه في عام 1951 بسبب انتقاداته الجريئة. في كتاب “النقد الذاتي”، فضح موران جميع ضروب الأيديولوجيات، واختار النقد سبيلاً إلى المعرفة. في عام 1983 نشر كتاباً شديد اللهجة (“في طبيعة الاتحاد السوفياتي”) انتقد فيه الشيوعية السوفياتية، وبه مهد السبيل إلى البريسترويكا الإصلاحية. تعاون وعالم الاجتماع جورج فريدمان (1902-1977) والفيلسوف والكاتب البنيوي رولان بارت (1915-1980) في إنشاء مركز دراسات التواصل الاجتماعي. في عام 1968 شغل كرسي التعليم الذي كان لعالم الاجتماع هنري لفڤر (1901-1991) في جامعة نانتر الفرنسية، وساند مساندة نقدية ثورة الطلاب (مايو “أيار” 68)، محرراً المقالات النقدية في جريدة “لوموند” الباريسية، وما لبث أن جمعها في وثيقة عنوانها “الثورة من دون وجه”. في عام 1969 أمضى موران سنة كاملة في معهد العلوم البيولوجية سالك (Salk) بكاليفورنيا أتاحت له الاطلاع على أعمال البيولوجيين والأنثروبولوجيين وعلماء البيئة الأميركيين. فكان لإقامته هذه الأثر البالغ في تصويب أبحاثه الفلسفية والأنثربولوجية.

أخلاقيات الالتزام السياسي

في صحبة بعض السياسيين الأوروبيين أسهم عام 2002 في إنشاء المعهد العالمي العلمي الأخلاقي (بروكسل) الذي انضوت إليه كوكبة من المفكرين والعلماء، أذكر منهم حائز نوبل في الاقتصاد أمارتيا سن (1933) وحائز نوبل في السياسة والاقتصاد جوزف ستيغليتز (1943)، والفلاسفة يورغن هابرماس (1929) وجان-بيار دبوي (1941) وبيتر سلوتردجيك (1947). ناهض حرب الجزائر وناصر استقلال الشعب الجزائري، ولكنه لم يوقع على عريضة الحث على العصيان المدني الجزائري، على نحو ما صنع بعض المفكرين من أمثال سارتر (1905-1980) وأندريه بروتون (1896-1966) وغي دبور (1931-1994) في “بيان 121” الصادر في 1960. من اللافت أن تكون أحوال حياته الشخصية اضطرته إلى اختبار الزواج من أربع نساء، كانت آخرهن المغربية الأصل صباح أبوالسلام التي شاركته في تحرير كتاب “الرجل ضعيف أمام المرأة “(2013)، وكتاب “لنغير الطريق: أمثولات فيروس كورونا” (2020). في كتاب “أمثولات قرن من الحياة” (2021)، يستجمع ذكريات النضالات التي قادها في سبيل إنقاذ الإنسانية والأرض من الفناء.

أخطار الإفناء الشامل

من الواضح أن موران حبك حبكاً أصيلاً حدس الفكر المركب أو المعقد أثناء إقامته وتعليمه في أميركا الجنوبية، لا سيما في شيلي حيث التقى جاك مونو (1910-1976) صاحب كتاب “المصادفة والضرورة”. فاستلهم منه مبدأ التشابك العضوي في الحقول والعناصر والمسارات، لينتهج طريقة تكاملية في تناول الواقع المعقد عينه. أعلن موران موقفه اللاأدري في غير نص من نصوصه، ولكنه كان من مناصري فلسفة اللاعنف والسلام. وكانت البوذية تستهويه من جراء غياب فكرة الله عن تصوراتها. أما رأس اهتماماته فكانت العولمة والتقنية وآثارهما الهدامة. ناصر فلسفة البيئة التي ترسم للإنسان موقعاً متواضعاً في الكون يجعله راعي الكائنات، على غرار ما كان يذهب إليه هايدغر (1889-1976).

فإذا به يشبه الأرض بكوكب فضائي تدفعه ثلاثة محركات متآزرة، العلم والتقنية والاقتصاد، من غير أن يقودها ربان حكيم مقتدر. ومن ثم، فإن مصير الأرض معلق على احتمالين: إما الكارثة التي تجرها المجتمعات على الإنسانية من جراء تحلل الغلاف الجوي الحامي، وانتشار السلاح النووي، وتوحش الاقتصاد المبني على مضاربات البورصات العالمية، وترهل الحضارة الأوروبية وتأزم الحضارات التقليدية، وتفجر الصراعات والتهاب الأصوليات الدينية والعرقية، وإما التحول الروبوتي في الجسم الإنساني والانتقال إلى وضعية إنسانية هجينة يتساكن فيها الوعي البدني والذكاء الاصطناعي النانوبيولوجي. بسبب هذا التساكن يفقد الإنسان السيطرة على قراراته المصيرية، ويخضع الإنسانية لعملية حسابية خوارزمية تحول الإنسان تحويلاً تدريجاً إلى كائن اصطناعي كلي الذكاء والاقتدار.

خصائص الفكر المركب: العلم الكوني

يستهدي موران في أعماله جميعها مبدأ باسكال القائل إن “الكل قائم في الكل”. وعليه، فإن الفكر الشامل ينبغي أن يبحث عن ارتباط الأجزاء بالكل والكل بالأجزاء حتى يدرك الإنسان وقائع التاريخ إدراكاً صائباً. غير أن هذا الإدراك لا يعني الاشتمالية أو الشمولية والإغلاق الإمساكي على طريقة هيغل، إذ إن “الكلية نقيض الحقيقة”، بحسب عبارة موران نفسه. أما السبيل إلى ذلك فعلم اجتماع الثقافة الإنسانية وعلم اجتماع الحياة اللذان يؤهلان الفكر لاستيعاب عناصر الخلفيات الناظمة التي تحكم الاجتماع الغربي المعاصر. لا عجب من ثم أن تفصح أبحاثه الأولى عن رغبة شديدة في فهم الظواهر الثقافية التي تهيمن على وجدان الإنسان. فأتت عناوين كتبه الأولى “السينما والإنسان المتخيل” 1956 و”النجوم” 1957 و”روح العصر” 1962 و”إشاعات أورليان” 1969 تسوغ ضرورة الاجتهاد في تناول شتيت الوقائع الإنسانية تناولاً ترابطياً تكاملياً تعاضدياً.

يسمي موران هذا التناول الأنثروبولوجيا الأساسية التي تنشئ علماً كونياً في الإنسان، وعلماً إنسانياً في الكون. بفضل الاختبار العلمي الذي اكتسبه موران في كاليفورنيا، ترسخ فيه يقين الترابطية الإبيستمولوجية التي تستلزم استنهاض جميع العلوم الوضعية والإنسانية من أجل فهم البنيان المحبوك المعقد الذي يقوم عليه عالم الإنسان المعاصر، لذلك يتصف فكره بالتشابك التكاملي والتقابس الإغنائي. من الاصطلاحات الأساسية في أعماله الترابطية (reliance) التي تصل الميادين الاختبارية بعضها ببعض، والحقول المعرفية بعضها ببعض، والاستخلاصات البنائية بعضها ببعض. بما أن الوجود ممزق النسيج، مقطع الأوصال، مبتور الآفاق، مصنف الفئات، كان لا بد من فكر شامل يجمع شتيت الحياة في مؤتلف تناغمي لا يبطل الاختلاف، ولكنه يحسن الوصال ويتدبر التقابلات المتعارضة. لا بد من تآزرية دينامية (synergie dynamique) تعزز بالانفتاح الإيجابي إمكانات التقابل السليم والتنافس المغني والتعاون البناء والتكامل الاحتضاني. وحده الفكر المركب المعقد الشائك المتداخل المتحابك المتضافر (pensée complexe) قادر على الاستجابة لتحديات الواقع المتعدد الجوانب والمتنوع التجليات. فالحياة معقودة على نسيج محبوك في هيئة شديدة التعقد تستوجب تناولاً متعدد الاختصاصات، تتضافر فيه المنهجيات والآليات والمعالجات تضافراً تآزرياً يتيح للإنسان أن يفوز ببعض من الإدراك المنصف والاستشراف الصائب.

تساكن الحكمة والجنون في بنية الإنسان

استثارت أعماله اهتمام أهل المعرفة في جميع الميادين. فانبرى في عام 1972 ينظم، في صحبة جاك مونو، مؤتمراً متعدد الاختصاصات يعالج إشكالية وحدة الإنسان. وأتى بإسهام جليل توسع فيه حتى أضحى كتاباً مستقلاً عنوانه “النموذج الضائع”. قبل أن يعمد العلماء إلى البحث في علم اجتماع البيولوجيا وعلم النفس التطوري، خرج موران بتصور فذ يضع الإنسان في سياق الكائن الحي الأرحب، ذلك بأن دراسة الطبيعة الإنسانية تستلزم تعزيز مبحث الثدييات الأوائل (primatologie)، لا سيما الليموريات والقرديات والبشريات الأقدم عهداً. فإذا به يستخلص أن الاجتماع ليس اختراعاً إنسانياً، بل بنية عتيقة لصيقة بالكائن الحيواني. حتى اللغة عينها ليست من اختراع الإنسان، إذ إن الحياة المتجلية في الحيوان الأول تفصح عن حيويتها في بنية تواصلية عتيقة. وعليه، يجب تغيير النظرة إلى مسار التأنسن (hominisation) التدريجي الذي اختبره الإنسان من بعد أن انفرز انفرازاً تطورياً عن الكائن الحيواني “يجب أن نكف عن فصل الطبيعة عن الثقافة، إذ إن مفتاح الثقافة في طبيعتنا ومفتاح طبيعتنا في الثقافة”. بذلك يستقيم التأنسن ملازماً التطور التصاحبي بين جميع الكائنات الحية. لا غرابة من ثم أن يتساكن العقل والجنون (demens-sapiens) في صميم الكائن الإنسان تساكناً يجعل الطبيعة الإنسانية مشروعاً رحب الآفاق في طور التحقق التاريخي.

نسبية جميع الحقائق الإنسانية

بيد أن أهل الاختصاص يدركون أن كتاب “النموذج الضائع” مقدمة وجيزة لسداسية “المنهج” التي يتجلى بها اختمار فكر موران الشامل. تهدف هذه السداسية إلى إصلاح الفكر إصلاحاً جذرياً يقوم على إعادة وصل ما انقطع، أي ما فصلته العلوم وجزأته المعارف وقسمته المناهج. فالحقول الفكرية مترابطة كلها ترابطاً وثيقاً ينبغي استجلاء طبيعته ووظيفته. ليس منهج موران شبيهاً بطريقة دكارت الذي يروم أن يبلغ بالعقل الحقيقة الثابتة والمعرفة الموثوقة. بخلاف ذلك كله ينادي موران بفكر إنساني لا يستريح إلى يقين نهائي، ولا يطيق الاكتمال والاختتام، بل ينوع النظرات ويكثر من التناولات. إنه الفكر القائل بنسبية كل الحقائق، إذ إن السبيل الذي يعتمده يقتضي تجاوز التعارضات الثنائية بين الطبيعة والثقافة، بين الفرد والمجتمع، بين الجبرية والحرية، بين الذات والموضوع. بذلك ينشأ تصور جدلي حيوي يدرك الاجتماع الإنساني معتركاً فسيحاً يختلط فيه النظام بالفوضى، ويظهر فيه الأفراد والأحداث تارة في صورة الفاعل المنتج، وتارة أخرى في هيئة المفعول المنتج.

تضامن الفلسفة والعلم في خدمة الإنسان

لا بد، والحال هذه، من تجاوز الفلسفة وتجاوز العلوم حتى يستطيع الفكر الشامل أن يفلسف العلم، أي أن يستدخل في العلوم الوعي التبصري والاستقصاء النقدي حتى تتحول إلى أداة معرفية تخدم قضية الإنسان، وتسهم في استصلاح السياسة الإنسانية. حين يفلسف المرء العلم يستطيع أن يجمع الناس في وحدة المسعى التضامني الذي يصون تنوع الاختبارات، ويتيح للفلسفة وللعلم أن يتآزرا في تعزيز قيم الكرامة والحرية والمساواة والعدل. إذا كانت العقلانية العلمية تهدد مصير الإنسانية والأرض، وإذا كانت الفلسفة في طور الانطفاء والانكفاء، فإن الفكر الشامل الذي ينادي به موران يروم أن يجمع الحكمة (sophia) والمعرفة (épistémè) جمعاً يقوم مسار العقل الإنساني.

خلاصة القول إن موران مفكر عصي على التصنيف، إذ ليس بفيلسوف ولا بعالم اجتماع ولا بعالم سياسة. إنه المفكر النقدي الشامل الذي يساعدنا، لا سيما في كتابه “من أجل الخروج من القرن العشرين” (1981)، في تجاوز محنة المآسي العقلانية والوجدانية التي وسمت وسماً دامغاً قرن الطلاق المرضي بين حقول المعرفة. لا بد، والحال هذه، من استثمار الحدس الفلسفي المغني الذي أتى به المفكر الفرنسي هذا، حتى نستطيع أن نتجاوز أزمة الحداثة الغربية المسرفة في علميتها، وأزمة المجتمعات الشرقية التقليدية المفرطة في أصوليتها. من الضروري أن يستصفي المرء معرفيات الغرب العلمية وحكميات الشرق الوجدانية، حتى تستطيع الإنسانية المعاصرة أن تعثر على السبيل الأضمن والأقوم الذي يفضي بها إلى اختبار الهناء الكياني والسعادة الوجودية المعقولة. أما الفصل بين التقليد والحداثة أو بين الحكمة والمعرفة أو بين الفلسفة والعلوم فيجر علينا أوخم العواقب ويحرمنا من اختبار معنى الحياة المنبثق من صميم حراكها التاريخي المغني.

*اندبندنت