فايز سارة
كاتب وسياسي سوري
مجلة أوراق العدد 12
الملف
انشغلت في الأسبوع الماضي بالعودة إلى الأرشيف لاستخراج مجموعة صور تتصل بحياتي ونشاطاتي العامة، لتكون في خلفية مقابلة مصورة، تعدّها إحدى الفضائيات بمناسبة مرور عشر سنوات على ثورة السوريين ضد نظام الأسد، ومن أجل الوصول إلى صور مناسبة كان علي العودة إلى أرشيفي الشخصي الورقي والالكتروني معاً، والعودة أيضاً إلى الأرشيف الإلكتروني العام الذي توفر محركات البحث (ولا سيما غوغل) لنا فرصة الوصول إليه بما فيه من أخبار ومستندات وصور، وإن كانت عامة، إلا أنها في بعض الجوانب تعتبر خاصة لبعض الناس ممن شاركوا فيها أو كانوا شهوداً عليها أو قريبين منها.
في عملية البحث، ركزت خصوصاً على العشرين عاماً الأخيرة، التي كانت الأكثر حساسية وأثراً في حياة عموم السوريين وفي حياتي كواحد منهم، لأنها شهدت أهم تطورات في التاريخ السوري الحديث والمعاصر، بل إنها الأهم حتى في التاريخ القديم أيضاً، وقد اخترت من تلك التطورات، مقاربة بعض جوانب تجربة الرفاق، وهي صفة رأيت أن أشمل فيها مجموعة من السوريين تقاربت مع بعضها في العقد الأول من القرن، وشاركت في تجربة ربيع دمشق، التي كانت مقدمة مشاركات أخرى لاحقة.
وبسبب من أهمية وخطورة ما شهدتّه سوريا في العقدين الماضيين، رأيت أن أتناولها في العشرية التي سبقت الثورة، والتي بدأت مع موت حافظ الأسد الشخص الأهم والأبرز في تاريخ الدكتاتورية في سوريا، وتولي خليفته بشار السلطة بإرادة دولية، وتمرير سوري على أمل إصلاح سلمي هادئ ومتدرج على نحو ما قدّر بعضنا، انه ممكن، وقد أثبتت سنوات العقد الأول من سلطة الأسد الابن خطأ مراهنة النفر القليل من الشجعان السوريين من مثقفين ومدنيين وسياسيين، انخرطوا في ربيع دمشق، واعتقل عشرة منهم في إطار مساعي النظام لمواجهة حركة البيانات والمنتديات والجمعيات الحقوقية والمدنية وإيقاف مسار القول والكتابة، التي كانت دائماً بين أهم المحرمات في سوريا، وقد تبين أن كل ما تمّ القيام به من جانب الشجعان السوريين، لا يتجاوز خرمشة أظافر على لوح صلب، يغلف دكتاتورية وطائفية ودموية وإجرام نظام ورثه الابن عن الأب، ومضى على طريقه إلى الأبعد في العشرية الثانية.
من أحداث العشرية الأولى، اعتقال مجموعة نشطاء ربيع دمشق الأوائل، أو العشرة الأفاضل كما أسميناهم، لكن الأسبق من اعتقالهم قيام الراحل أنطون المقدسي شيخنا وأستاذنا، بإلقاء محاضرته عن المجتمع المدني في 13 أيلول 2000 في أول جلسات منتدى الحوار الوطني الذي أسسه رياض سيف، وهذا بعض من جهده في تلك الأيام، إضافة إلى رسالته الشهيرة إلى بشار الأسد في 14 آب 2000، التي كانت تمثل تحدياً، لم يفعله مثقف سوري من قبل في تعامله مع منصب الرئاسة الذي حوّله الأسد الأب إلى تابو، يمنع الاقتراب منه، ولا النظر إليه.
بدت المنتديات في تلك الأيام مساحة محدثة للحرية وللحق في التفكير والقول العلني، وهو ما تجسّد في جلسات منتدى الحوار الوطني وفي أنشطة منتديات غيره في دمشق ومدن سورية أخرى، وبعض تلك المنتديات كانت مرسومة لأهداف معينة، لكن بعضها الآخر، كان حقيقياً وفي صلب المحاولة المجيدة للشجّعان السوريين على نحو ما بدا منتدى جمال الأتاسي في دمشق، وشهد في إحدى ندواته، حدثاً أعتقد أنه بين الأهم في نشاط المنتديات، إذ توالى على الحديث في تلك الامسية متحدثون باسم الأحزاب والجماعات السياسية ولجان إحياء المجتمع المدني، عرضوا فيها خلاصات مواقف جماعاتهم في الحال السوري، وكانت هذه الجلسة سبباً في اعتقال أعضاء مجلس إدارة المنتدى جميعاً في أيار 2005، وكانت مقدمة لمنع نشاطاته تالياً.
وطالما أن الحديث يتصل بالنشاطات، فإن الاعتصامات كانت بين أبرزها، وتشارك في تنظيمها ناشطون مدنيون وحقوقيون وسياسيون في دمشق ومدن سورية أخرى، ورغم تعدد وتنوع اعتصامات تلك المرحلة، فقد كان الأهم فيها نوعان أولهما يقام أمام قصر العدل بمناسبة استيلاء البعث على السلطة في سوريا وإعلان حالة الطوارئ في الثامن من آذار، والثاني يقام في العاشر من كانون الأول في اليوم العالمي لحقوق الإنسان، وتنوعت أماكن إقامته، ولعل أفظع الاعتصامات قيام النظام بجلب طلبة جامعة دمشق وتحت حراسة الأمن واتحاد الطلبة لضرب المعتصمين أمام قصر العدل بوسط دمشق في آذار 2005، ومازالت في أذهان من حضروا الاعتصام عمليات ضرب وسحل مشاركين ومشاركات في ذلك اليوم.
وكان لتشكيل تحالف المعارضة السورية المعروف باسم إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي في العام 2005 أهمية كبرى في تطورات تلك الفترة، بما مثله من إنجاز كانت الساحة السياسية والمدنية بحاجة ملحة لتجميع قدراتها وجهودها، تشارك في انجازه أشخاص طرحوا الفكرة، وانضم آخرون للمساهمة في الحوارات حوله، والمشاركة في قياداته الأولى، التي ضمت رموزاً من مكونات الجماعة الوطنية ومن مختلف التوجهات الفكرية والسياسية، التي رأت أنه آن الأوان ليكون للمعارضة السورية إطار واحد في مواجهة نظام، لا يملك حواسَّ ولا قدرة له خارج العنف، خاصة بعد حملته الشهيرة على الإعلان في أعقاب اجتماع مجلسه الوطني الأول بدمشق أواخر 2007 والذي رأي فيه النظام خرقاً لمنظومته الأمنية، واعتقل عشرات من نشطاء الإعلان، قبل أن يستقر في السجن منهم اثني عشر شخصاً، كان من الواضح أن النظام اعتبرهم بين المجموعة الأكثر تأثيراً بالمعارضة في ذلك الوقت، وقد انتهت فترة سجنهم قبل الثورة بأشهر لا غير، وهو أمر جاء بمحض الصدفة قرب نهاية العشرية الأولى من رئاسة بشار الأسد.
وإذا كان العقد الأول، قد حمل ذلك القدر غير المشهود من الأحداث، وأبرز قضايا وأشخاص بصورة لم تحدث في عقود ما بعد إعلان الكيان السوري الحديث عام 1936، فإن العقد الثاني مابين 2011 و2020 شهد أحداثاً كثيرة، ليست لها سوابق في التاريخ السوري القديم والحديث كلاهما على نحو ماهي عليه ثورة السوريين، بل إن بعض الأحداث ليس لها مثيل في التاريخ البشري كله على نحو ما ظهرت في المقتلة السورية، التي نفذها نظام الأسد وشارك فيها حلفاؤه الروس والايرانيون وميليشياتهم، قبل أن ينضم إليها متطرفو وإرهابيو الجماعات الإسلامية والعصابات المسلحة، وبعض الدول المحسوبة على أصدقاء الشعب السوري تحت حجة مكافحة الإرهاب، فيما كانت عملياتهم تشمل أهدافاً مدنية لا علاقة لها ب”داعش” ولا أمثالها من المتطرفين.
ورغم أهمية حضور الأفراد ودورهم في أحداث العقد الثاني، فإن حضور ودور الجموع السورية صارت الأهم في الصورة السورية. فقد امتلأت شوارع وساحات مدن وقرى بالسوريين، وفي بعض الحالات قاربت تظاهرات مدن حدود المليون حاملين أعلاماً ولافتات ومرددين هتافات وأغنيات من أجل الكرامة والحرية والحياة الجديدة، ولم تعد حملات القمع والإرهاب توجه لأشخاص أو مجموعات، بل لمدن وقرى ولعموم سوريا، وجرى حصار وتدمير كثير منها وتهجير سكانها، وقد صار الأخير ظاهرة سورية، نقلت ملايين السوريين داخل البلاد، ونقلت ملايين إلى دول الجوار أو إلى الأبعد منها، وكله جرى وسط معاناة وآلام، لم يعرف العالم لها مثيلاً في تاريخه.
وبدا من الطبيعي، أن ينعكس التحول العام من النخبة إلى الجموع على حركة المعارضة والحراك المدني، وبدل المئات أو الآلاف الذين لا يزيدون عن أصابع اليد الواحدة في العقد السابق، صارت أعداد المعارضين والناشطين المدنيين بعشرات الآلاف، وانطلقت في خاصرتهم عشرات أخرى لتشكل جماعات مسلحة باسم الجيش الحر، قبل أن يتحول بعضها لاحقاً إلى جماعات إسلامية وإرهابية متطرفة، أو يتم تدميرها لصالح الأخيرة.
وسط تحولات العقد الثاني في الانتقال السوري من نشاط الأفراد والجماعات الصغيرة إلى الجموع، صار حضور ودور الرفاق محدوداً، بل إن توسع الجغرافيا السورية في انتقالها من مساحة الـ (185) ألف كيلو متر مربع إلى دول كثيرة، يزيد فيها عدد السوريين عن نصف مليون نسمة، وهو أمر ساهم مع غيره في تخفيف حضور ودور الرفاق وتغيير مسارات بعضهم في العقد الثاني، بل إن بعضهم غيّر مساره في أواخر العقد الأول.
لقد بدت أكثرية رفاق المسار الصعب في العقد الأول ممن شاركوا في موجة البيانات والمنتديات والاعتصامات والجمعيات المدنية والحقوقية وصولاً إلى إعلان دمشق مجموعة متماسكة، وملتزمة بما بدأته، ولا يقتصر دليل ذلك على استمرار الأسماء حاضرة ومتابعة في أغلب الفعاليات، بل يمكن تلمس دليل آخر في أن من جرى اعتقالهم في بداية تلك الفترة، عادوا للمشاركة في أنشطة الحراك العام، والقلة التي غابت، كان غيابها قهرياً إما بسبب الاعتقال الذي طال العديد من الشخصيات المعروفة أو السفر خارج سوريا أو الموت الذي طالهم كحال راحلنا أنطون المقدسي.
عند بداية العقد الثاني، كان أغلب الرفاق حاضرين، حتى السجناء منهم، كانوا أنهوا سنوات سجنهم في العام 2010 وبداية العام التالي، لكن عودتهم إلى نشاطاتهم كانت محدودة، لأن بعضهم اتجه الى إعادة ترميم أوضاعه، أو بفعل خلافات واختلافات مستمدة من تفاصيل تجربة العقد الماضي ولاسيما في تجربة إعلان دمشق، وكان لكل طرف أعذاره ومبرراته.
ولئن دفعت الأجواء، التي سبقت ورافقت انطلاق الثورة في آذار 2011 إلى إعادة تواصل وتقارب بين الرفاق، فإن ذلك لم يكن كافياً لطي ملف الخلاقات، لأن أشهراً مرّت كانت تظاهرات السوريين فيها تتواصل في كثير من المدن والقرى، وتتصاعد رغم التكلفة الكبيرة في الاعتقال والقتل والتهجير والتدمير، دون أن تدفع الرفاق للوصول إلى إطار تحالفي يجمعهم على غرار ما تم في إعلان دمشق عام 2005، كان إرث التجربة الماضية وحساسيات شخصية بين بعض الفاعلين والمراهنات الخاطئة أسباباً، وعندما تم إقامة جسم جديد للمعارضة باسم هيئة التنسيق الوطنية، جاءت النتيجة ناقصة فكرست انقساماً، لم يستطع أحد تجاوزه طوال العشر سنوات التالية.
لقد لخص العجز أو عدم قدرة أو رغبة الرفاق في توليد قوة موحدة تساهم في قيادة الثورة أو تقودها، ظواهر المرض عند غالبيتهم، وجزء منهم فاجأته الثورة فوقف يعيد ترتيب أوراقه، حتى ان بعضهم نسي أو تناسى تجربته المرة مع نظام الأسد وسنوات ملاحقته وسجنه الطويلة، وقرر البقاء قريباً من النظام بحجة المخاوف من الثورة وحواضنها الاجتماعية، وما قيل استباقاً عن أسلمة وتسليح الثورة، كان بعضاً من حملات النظام الديماغوجية.
والرفاق الذين ذهبوا إلى صف الثورة، أغلبهم إن لم نقل كلهم، اعتقدوا أن مكانهم في ظل الثورة هو القيادة، كاشفين بصورة لا تقبل الجدل عن جهلهم بالفارق بين لعب دور المعارض في مواجهة نظام آمن على نفسه، ودور القائد الذي يدير جمهوراً لا يعرفه بصورة جيدة من جهة، ويخوض صراعاً مع نظام كشف وجهه الدموي الى آخر الحدود، ولم يكن الوهم السابق إلا بعض واقع كثرت تحدياته، وكان بينه تشتت أغلب الرفاق في توجهاتهم، التي كانت مخفية في سنوات وجودهم في المعارضة.
ففي ظل الثورة، اعتقد أغلبهم، أن بعض التعبيرات الفكرية والسياسية ولاسيما الإسلامية، ستتمكن من فرض نفسها، فراح باتجاه التقرب منها وموالاتها قناعة أو تقرباً، وزاد البعض في ذلك إظهار بعض ميول في معاداة طائفة بعينها، وقد أشاد العديد من الرفاق في مرحلة ما بجماعات اسلامية متشددة، وقيل عن رفيق في مدينة الرقة، أنه كان على تواصل مع جماعات متشددة، الأمر الذي أدى إلى تغيبه، وتحالف عدد من الرفاق في تجربتي المجلس الوطني والائتلاف الوطني مع إسلاميين بينهم الإخوان المسلمين وتفرعاتهم، إضافة الى آخرين بينوا أكثر من مرة، أنهم يقاربون النصرة وداعش في كثير من آرائهم.
غير أن الأهم في مسارات الرفاق ومصائرهم، هو قيام أكثرهم بقطع الصلات بين بعضهم البعض، وهذا لم يحصل بين غير المتجانسين فقط، بل شمل حتى المقربين من بعضهم، وجرى خوض معارك معلنة بين الرفاق، لم يقتصر خوضها على الغرف المغلقة وحفلات النميمة، بل وصلت حد الكلام المكتوب في الصحف الذي جانب الحقائق، أو اخترع قصصاً لم تحدث في الواقع أبداً، وساق اتهامات غير حقيقية، تعزيزاً لجهوده في إدانة الآخر.
مسار الرفاق ومصائرهم، يستحق ما هو أكثر من حيز نحن فيه، لأن في التجربة كثير مما يستحق أن يُكشف ويقال، ليس لإدانة أحد ولا دفاعاً عن أحد، ولهذا أغفلت الأسماء، بل لأن هذه التجربة ورغم محدوديتها، فإنها تؤشر إلى بعض جوانب، فشلنا ليس باعتبارنا أشخاصاً وجماعة معارضة، بل كسوريين طحنتنا السنوات العشر الماضية، وما زلنا ندور بين حجري رحاها.
ما أحب أن أختم به هو خلاصة مختصرة. كان الرفاق الشجعان في العشرية الأولى من وجهة نظري مثالاً في الموقف من الشعب وقضاياه، متفهمين ومتفاهمين ومتضامنين أكثر، رغم كل ما أحاط بتلك التجربة من مشاكل وتحديات، وفي العشرية الثانية أثبتوا عجزاً وضعفاً وتشتتاً، أسقط دورهم، وأخرجهم على نحو عام من دائرة الصراع، ووضعهم على هوامشها، ماعدا قلة منهم بعضهم غيبهم الموت منهم حسين العودات والطيب تيزيني، وآخرين غيبهم الخطف والاعتقال كما خليل معتوق ورزان زيتونة وسميرة خليل وعبد العزيز الخير ورجاء الناصر واسماعيل الحامض، إضافة الى آخرين مازالوا يقبضون على الجمر، ويتابعون ما أمكن مسارهم الأول ولو بتعديلات طفيفة، وبقي أن أشير أخيراً إلى أنّ من كتب من الرفاق عن تلك التجربة، سعى لأن ينجو بنفسه، ويلقي العبء على الآخرين ليس أكثر.