يوميّاً تغتني مكتبتُنا بمؤلَّفاتٍ غربية مترجَمة إلى العربية، في شتّى العلوم والفنون، وهي مهمّة تتكفّل بها مؤسّسات رسمية عربية وغربية ودور نشر وكُتّاب ومترجمون عرب أساساً، ونادراً ما يُسهم فيها المترجِمون الغربيّون. وفي مقابل ذلك، نجد كتّاباً عرباً كثيرين يؤلِّفون بالإنكليزية والفرنسية منذ منتصف القرن الماضي، وحتى بالإسبانية، التي شرعتْ جغرافيّتُها الرحبة تستقبل أعمالاً لأدباء عرب مؤخّراً. لكنّ اللافت هو أنّنا لا نجد في مكتبتنا العربية مؤلَّفاتٍ لغربيّين مكتوبةً بالعربية رأساً، وهذا أمر يستدعي التأمُّل لفهم أسبابِه.
صحيحٌ أنّ الغرب يقرأ لأدبائنا الذين يكتبون بلغةٍ من لغاته مُباشرة (مثل أمين معلوف، وأهداف سويف، والطاهر بنجلون، وآسيا جبار، وليلى السليماني…) لأنّ الإبداع بلغةٍ بعينها لا يرتهن إلى إتقان التعبير بها فحسب، بل يقتضي التشبُّع بتقاليد الكتابة الأدبية الغربيّة. ولذلك ينجح هؤلاء الكُتّاب هناك، بينما يُخفق الكُتاب العرب المكرَّسون لدينا في الوصول عبر الترجمة إلى الضفاف الغربية، وفي بلوغ نجاحٍ مُحترَم هناك يوازي نجاحهم في بلادهم، ويُعادِل ما يحقّقه كثيرٌ من الأعمال الغربية المترجَمة إلى لغتنا العربية.
يُمكن أن نتلمّس بعض الإجابات على هذه الظاهرة غير المنصفة في آراءَ مبثوثةٍ لدى بعض الأدباء والمترجمين الذين أوْلوها بعض العناية. يحضرني في هذا الصدد ما ذكره عبد الفتاح كيليطو، في كتابه الأخير، “في جوٍّ من النَّدم الفكريّ” من أن باحثاً “كتب قبل مدّة أنّ مقامات الحريري الخمسين كادتْ أن تكون رواية لو راعى مؤلِّفُها ترتيباً زمنيّاً مُحكماً بحيث تكون مرتبطة وموصولة عضويّاً بعضها ببعض […] بتعبير آخر، كاد الحريري أن يكون مؤلِّفاً أوروبياً!”.
لا يخفى أنّ الرأي السالف ينمّ عن مركزيّة غربيّة صارخة، فالغرب لا يقبل أن يقرأ إلّا ما يتوافق وإبداعَه، الذي أصبحتْ لديه أعراف وقوانين، والذي يستحضر نسبةَ المقروئية عند الاستثمار في نشر كتابٍ مترجَم، لأنّ الكتابة ــ زيادةً على كونها ثقافة ومعرفة وتربية ــ هي لديه صناعةٌ وتجارة في ذات الوقت، ولأن دُورَ نشره الكُبرى واسعة الانتشار بفروعها، لا يُمكنُها أن تستثمر في كتابة يَنفر منها القارئ الغربي. وهذا من الأسباب التي تعوّق الإقبال على الأدب العربي المترجَم هناك، والذي يبقى، في حال ترجمته، حبيسَ العالَم الأكاديمي بمطبوعاته الجامعية محدودةِ الانتشار وقليلةِ الإصدارات.
ولعلَّ في ما أورده كيليطو نفسُه، عن تصريح للمستعرب الفرنسي شارل بيلّا ضمَّنه كتابَه “بيئة البصرة وتكوين الجاحظ”، بعضاً ممّا يُوضِّح هذه الأسباب. يقول الفرنسي: “بصفة عامَّة، فإن شعوراً بالملل هو ما يُستخرَج من الكُتب العربية، كيفما كان موضوعها، ومهما بدتْ عناوينُها جذّابة”.
المَلل هو، في الحقيقة، من الأسباب التي تَحُول دون الرواج المأمول للكتابة العربية في الثقافة الغربية، ويتبنّى الموقفَ ذاته المستشرق والمترجمُ البريطاني جوناثان رايت، في حوار أجراه معه الأديب والصحافي عبده وازن، بصدد ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الغربية، ومدى رواجها وتأثيرها في الأدب الغربي. يقول الأخير: “رأيي الشخصي، وأنا أدرك أنه قد يكون مثيراً للجدل، هو أن الروائيين الذين يكتبون باللغة العربية، إذا أرادوا أن يتمّ الاعتراف بهم دولياً، يُحسنون صنعاً إذا هم ركّزوا على مهاراتهم في السرد، والتخييل، والتقليل من التباهي بالبراعة الأدبية والبلاغة”.
وهو الموقف الذي انتقدَه الشاعر الأرجنتيني خوان خلمان عند جُونْ آبدِيك، الذي أبدى امتعاضَه من سلسلة عبد الرحمن منيف الروائية، “مدن الملح”، حيث يذكر أنه كان “مؤسِفاً أن المؤلِّف يبدو مُفتَقِراً إلى الروح الغربيّة حتى يُنتِجَ سرداً يقترب من ذاك الذي نُسمِّيه نحن روايةً”. وواضح أن في ذِكره “افتقاد الروح الغربية” تعبيراً واضحاً عن المركزية الغربية، التي، وفق خِلمان، تعيش تناقُضاً فعلياً يَدلّ عليه ليس آبدِيك نفسُه، بل والمجتمع الغربي برمّته. فبحسب خلمان: “وسائل الإعلام الغربية تُفردُ للعالم العربي مساحة سياسية كبيرة وغير هيّنة، اليومَ خاصّةً، لكنّها لا تعمّق المعرفة بثقافة غذَّتِ الغربَ كثيراً”.
وما يؤمِّن على كلام خِلمان ما انتبه إليه الناقد المغربي كيليطو بقوله: “علَّمتني التجربة أن الآخر [الغربي] لن يهتمَّ بي إلّا إذا التفتُّ إليه؛ فمن المستبعد أن أُوفَّق إلى تقديم الأدب العربي للجمهور [الغربي] المفترَض، إذا لمْ أُولِ أدبَه عنايةً؛ ولو من باب المجاملة”. أي أنّ الغرب يُطالب مَن يكتب أدباً أن ينتسبَ إليه، لذلك لم يَهتمَّ شارل بيلّا، وفق كيليطو، بالجاحظ إلّا بعقْد صلةٍ له بكتّاب أوروبيين يُعرَّفون بالإنْسيين، “من طينة إيراسموس، ورابْليه، ومونتيني [..]، وبهذا المعنى فإنّه، وعلى رغمه، أوروبيٌّ إلى حدٍّ ما [..] ولم يكن شارل بيلّا ليقول إن مونتيني يُذكِّره بالجاحظ، وهو ما قد يكون مقبولاً، على الأقل إذا ما راعينا التسلسل التاريخي والسبق الزمني للجاحظ”.
لكن هنالك مُشكلة أخرى لها صلة بموضوعنا، ويعرفُها المترجِمون بسبب مُعايشتهم إياها، تتمثَّل في موقف يصدر عن فئة من الكُتّاب العرب؛ كذلك الذي حكاه كيليطو أيضاً عن مستشرقةٍ أوروبية “أسرَّت لي ضاحكةً أن شعراء يهدونها دواوينهم ويقولون لها: ترجمي! وكأن مصيرَهم بيدها. كان حديثي معها بالعربية، لغة تتقنها وتتصرّف فيها بمهارة فائقة، وفي لحظة قالتْ لي بأنها، بشكل عام، لا ترتاح كثيراً إلى ما يصدر بالعربية، وأمام ذهولي ــ الذي في الحقيقة لم يكن له مبرِّر ــ أضافت أن العربية ‘لغة عمل’ بالنسبة إليها”.
ما يُثير الاستغراب في ما أورده كيليطو هو حِرص أدبائنا على أن يُترْجَموا، وهوَسُهم بتعدادهم – في سيرتهم الذاتية – اللغات التي تُرجِمتْ إليها دواوينُهم أو قصائدُهم، وكأنّ الاعتراف بهم من قِبل وسطهم الثقافي غير كافٍ لهم.
لذا تجدُهم يتطلّعون بإلحاح إلى اقتحام الأدب الغربي، آمِلين في نجاحٍ يُروِّج لهم هناك، ومتناسين أن الطريق إلى القارئ الغربي تمرّ عبر انكبابهم على الارتقاء بكتابتهم وتطويرها، وربطها بالإرث الثقافي المحلّي. ولعلّ العِبرة المُثلى ما قدَّمه كتّاب أميركا اللاتينية في منتصف القرن الماضي، لمّا أبدعوا كتابة مختلفة، توغِلُ في المحلّي الأميركي-لاتيني، فكانت لهم تلك السمة المميِّزة التي حوَّلت أدبَهم إلى إبداع كوني، وليس الكتابة التي تُكيَّف لتوافق ذائقة القارئ الغربي، فتفشل في التواصل معه وتبتعد عن وسطها الثقافي.
(العربي الجديد)