أمشي في شوارع المدينة التي أعيش فيها، أنظر في الوجوه، ينتابني شعورٌ بالحريق.
لماذا تسير الحياة بشكلها الاعتيادي؟ لماذا تستمر وكأن سوريا ليست على خارطة هذا العالم؟
أعلم بأنني أبالغ، وأعلم بأن بعضهم هنا، وفي كثير من دول العالم، لم يسمع باسم سوريا، لكنها بالنسبة لي محور الحياة، ومسقط الروح.
هل باتت حرب سوريا حرباً منسية؟
لا أدري لماذا أتذكر فجأة، حربين اشتعلتا نهايات القرن الماضي، وأربط أحداثهما بما يحصل في سوريا، فأجد أن حرب البوسنة والهرسك، وحرب أنغولا، والحرب السورية، ثلاثة حروب يجمعها خيط خفي، وهو خيط المصالح، وخيط اللا مبالاة من العالم وخيط النسيان، بالرغم من فوارق الأسباب والتوقيت.
في هذه الحروب الثلاث، على اختلاف توقيتها، اشتركت بعوامل واحدة على الأرض، إذ تداخلت فيها المصالح الروسية والأمريكية والأوروبية معاً، زد عليها في سوريا المصالح الإيرانية.
لكن في سوريا، لم يكن لحجم المأساة الإنسانية مثيل في أي حرب قبلها، لهذا ما زلنا ننظر إلى الحرب في بلادنا على أنها الأصعب، وهذا يفسر أسباب حنقنا على العالم للا مبالاته تجاه مأساتنا.
على الرغم من عدم وجود نفط في البوسنة، إلا أنها كانت قريبة جغرافيًا من أوروبا، بينما كانت أنغولا في جنوب إفريقيا مجرد مستعمرة سابقة لدولة صغيرة، وهي نفسها منسية في نهاية القارة القديمة.
أما بالنسبة لسوريا، فقد كانت في وسط العالم، مثلما كنا ندرس في مناهجنا الدراسية فهي في أكثر المناطق المثيرة لشهوة الأطماع العالمية.
في حربها، أُلقى بالملايين من مواطنيها خارج حدودها، في رحلات الموت والمنفى، المنفى البائس في دول الجوار، والمنفى الأوروبي الأفضل إلى حد كبير، والمأساة الأكبر لأولئك الذين نزحوا داخلياً.
في الشمال، وعلى الحدود التركية، تبقى قضية إدلب عالقة، يمزق لحمها الأسد كما يحلو له، حتى كلمة مأساة قليلة على وضعها وللأسف لا أجد كلمة في اللغة تصف الحال هناك.
ومع ذلك تصمت وسائل الإعلام، فيصبح المشهد أكثر رعباً في غياب أي رقابة على وحشية الأسد.
وعلى ما يبدو أن نهاية هذا الرعب ما تزال بعيدة، وتُركت سوريا وحدها، في حربٍ مشتعلة منسية، يتكرر فيها الرعب الذي شهده شرق حلب في 2016 والغوطة الشرقية في 2018، يتكرر اليوم في إدلب وما حولها، وبشكل أبشع، مع قصف متواصل قضى على الأخضر، واليابس، والمسلحين، والمدنيين، والمستشفيات، وأسواق الخضار، وكل ما هو مهم أو غير مهم في المنطقة.
فيجد 900 ألف سوري أنفسهم على طريق الهروب في البحث عن ملجأ، سيرًا على الأقدام في درجات حرارة تنخفض لما تحت الصفر، وهم في العراء.
هؤلاء ببساطة هم ضحايا طائرات بوتين الداعمة للأسد، نساء وأطفال وشيوخ يفترشون الثلج، هرباً باتجاه تركيا، فعلى ما يبدو أن النظام وأعوانه مصرون على تنظيف الأرض من أهلها بكل الوسائل.
منذ أيام أحاول أن أرسم خطة لمقالي، أن أنصف هؤلاء الهاربين، الواقعين ضحية اثنين من شياطين الأرض، فهم عالقون بين الجهاديين الذين نزحوا من الجبهات السابقة والذين رحلهم الأسد قاصداً إلى إدلب، وبين قوات النظام. شيطانان همجيان، لم تشهد البشرية إجراماً أكثر منهما، على مدى التاريخ.
تتجلى هذه النهاية المأساوية للعبة عندما يجد الأوروبيون والأمريكيون أنفسهم خارجها تماماً، في حين أن المقررين الحقيقيين لمسير هذه الحرب ومصيرها، كما مصير سوريا، والقادرين فعلياً على إنهاء كل شيء، وسريعاً، هما رجلان اثنان فقط اسمهما بوتين وأردوغان.
اليوم يجد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن مصلحته ومصلحة بلاده الفورية، تقتضي منع اللاجئين من العبور إلى تركيا، في المقابل يطالب موسكو بمنحه ممراً بعمق حوالي عشرة كيلومترات على الجانب السوري لتوطين هؤلاء اللاجئين النهائي في الداخل السوري.
ويعيد بوتين انتشار قواته ليسيطر على واحد من آبار النفط في منطقة البوكمال، ويتقاسم النفوذ بالمنطقة مع الميليشيا الإيرانية وبالتالي يكون قد حصل على غنيمة جديدة تضاف لغنائمه السابقة، ثمناً لتدخله العسكري لحماية الأسد، فما الذي يمنع الرجلين من عقد صفقة، اتفاقية، معاهدة -سموها ما شئتم- تنهي الحرب وتنقل سوريا إلى مرحلة انتقالية حقيقية، بوضع النظام تحت الأمر الواقع، وإجباره على التنازل عن الحكم، وعندها لن تكون إيران مشكلة في وجه روسيا القوية.
وفي خضم كل هذا النقاش الذاتي، وأنا أرسم وأتأمل بخطة الخلاص تلك، أجد أن النظام السوري لا يرى أياً مما يحصل على الساحة الدولية، وينشغل بتجهيز نفسه للانتخابات الرئاسية القادمة، ظاناً أنه يستطيع تجاوز المرحلة، بشعارات الإصلاح وإعادة الإعمار، دون أن يدرك أن القطار قد فاته فعلاً على مثل هذه الدعوات، فلم يعد يجدي اليوم غير إنقاذ ما تبقى من سوريا وأهلها، من قبضة نظام فاشي، وحرب شعواء، واقتصادٍ متردٍ، ومجاعة صارت أشباحها قريبةً جداً من أبواب السوريين.
*زمان الوصل